الفراسة

 

 

الفـراسـة 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين محمد بن عبد لله وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين. أما بعد:

يقول الله-تعالى-: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} (الحجر:75) ذكر عدد من أهل العلم أن هذه الآية في أهل الفِراسة. والفِراسة نور يقذفه الله في قلب عبده المؤمن الملتزم سنة نبيه يكشف له بعض ما خفي على غيره مستدلاً عليه بظاهر الأمر فيسدد في رأيه، يفرق بهذه الفراسة بين الحق والباطل، والصادق والكاذب دون أن يستغني بذلك عن الشرع. وهو يختلف عن الفَراسة الذي هو حذق ركوب الخيل. وإذا ما اجتمع بالمرء الأمران الفِراسة والفَراسة فهذا نور على نور، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، بصيرة في القلب، وقوة في البدن لمنازلة أعداء الله في الجهاد. والخسارة من حرم الأمرين(1).

فالفراسة نور يقذفه الله في قلب عبده يفرق به بين الحق والباطل، والحالي والعاطل،والصادق والكاذب.

وحقيقتها: أنها خاطر يهجم على القلب ينفي ما يضاده، يثب على القلب كوثوب الأسد على الفريسة؛ لكن الفريسة فعيلة بمعنى مفعولة، وبناء الفراسة كبناء الولاية والإمارة والسياسة، وهذه الفراسة على حسب قوة الإيمان، فمن كان أقوى إيماناً فهو أحد فراسة.

قال “أبو سعيد الخراز” : “من نظر بنور الفراسة نظر بنور الحق، وتكون مواد علمه مع الحق بلا سهو ولا غفلة، بل حكم حق جرى على لسان عبده”.

وقال”عمرو بن نجيد”: “كان شاه الكرماني حاد الفراسة لا يخطىء ويقول: “من غض بصره عن المحارم، وأمسك نفسه عن الشهوات، وعمر باطنه بدوام المراقبة، وظاهره باتباع السنة،وتعود أكل الحلال،لم تخطىء فراسته”. قال”ابن القيم”-رحمه الله-معقباً على كلام الكرماني: “وسر هذا أن الجزاء من جنس العمل، فمن غض بصره عما حرم الله-عز وجل-عليه عوضه الله-تعالى-من جنسه ما هو خير منه، فكما أمسك نور بصره عن المحرمات أطلق الله نور بصيرته وقلبه، فرأى به ما لم يره من أطلق بصره ولم يغضه عن محارم الله–تعالى-، وهذا أمر يحسه الإنسان من نفسه،فإن القلب كالمرآة والهوى كالصدأ فيها فإذا خلصت المرآة من الصدأ انطبعت فيها صور الحقائق كما هي عليه، وإذا صدئت لم تنطبع فيها صور المعلومات فيكون علمه وكلامه من باب الخرص والظنون”

قال “أبو حفص النيسابوري” : “ليس لأحد أن يدعي الفراسة ولكن يتقي الفراسة من الغير” وقد جاء عن أبي سعيد الخدري-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-:(اتقوافراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله،ثم قرأ قول الله-تعالى-: (إن في ذلك لآيات للمتوسمين)(2). ولم يقل : تفرسوا وكيف يصح دعوى الفراسة لمن هو في محل اتقاء الفراسة.

وعن أنس-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله 🙁إن لله عباداً يعرفون الناس بالتوسم)(3).

وأصل هذا النوع من الفراسة : من الحياة والنور اللذين يهبهما الله-تعالى-لمن يشاء من عباده فيحيا القلب بذلك ويستنير، فلا تكاد فراسته تخطىء. قال الله-تعالى-: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}(الأنعام:122) 

كان ميتاً بالكفر والجهل فأحياه الله بالإيمان والعلم، وجعل له بالقرآن والإيمان نوراً يستضيء به في الناس على قصد السبيل ويمشي به في الظلم.

أخي الكريم: هذه الفراسة تتكون للعبد بحسب قربه من الله، فإن القلب إذا قرب من الله انقطعت عنه معارضات السوء المانعة من معرفة الحق وإدراكه، وكان تلقيه من مشكاة قريبة من الله بحسب قربه منه، وأضاء له من النور بقدر قربه، فرأى في ذلك ما لم يره البعيد المحجوب.

دخل قوم من مَذحِج على الفاروق عمر-رضي الله عنه-فيهم الأشتر النخعي، فصعّد فيه عمر النظر وصوّبه، وقال: أيهم هذا؟ قالوا: مالك بن الحارث، فقال: ما له قاتله الله، إني لأرى للمسلمين منه يوماً عصيباً. فكان كما تفرس-رضي الله عنه-فكان منه في الفتنة ما كان. وعمر بن الخطاب في مقدمة الصحابة ممن عرف بالفراسة-رضي الله عنه-قال فيه النبي : (لقد كان فيما قبلكم من الأمم ناس مُحدّثون فإن يك في أمتي فإنه عمر)(4).

ودخل رجل على عثمان بن عفان-رضي الله عنه-وقد رأى امرأة في الطريق فتأمل محاسنها، فقال له عثمان: “يدخل عليّ أحدكم وأثر الزنا ظاهر على عينيه؟! فقلت”أي أنس بن مالك-رضي الله عنه-“: أوحيٌ بعد رسول الله-صلى الله عليه وسلم-؟ فقال: لا، ولكن تبصرة وبرهان وفراسة صادقة. (5).

ومن دقيق الفراسة أن المنصور جاءه رجل فأخبره أنه خرج في تجارة فكسب مالاً، فدفعه إلى امرأته، ثم طلبه منها، فذكرت أنه سرق من البيت ولم ير نقباً ولا أمارة، فقال المنصور: منذ كم تزوجتها؟، قال: منذ سنة، قال: بكراً أو ثيباً، قال: ثيباً، قال: فلها ولد من غيرك؟، قال: لا، قال: فدعا له المنصور بقارورة طيب كان حاد الرائحة وغريب النوع فدفعها إليه، وقال له: تطيب من هذا الطيب فإنه يذهب غمك، فلما خرج الرجل من عنده، قال: المنصور لأربعة من ثقاته: ليقعد على كل باب من أبواب المدينة واحد منكم، فمن شم منكم رائحة هذا الطيب من أحد فليأت به، وخرج الرجل بالطيب فدفعه إلى امرأته فلما شمته بعثت منه إلى رجل كانت تحبه، وقد كانت دفعت إليه المال فتطيب منه، ومر مجتازاً ببعض أبواب المدينة، فشم الموكل بالباب رائحته عليه فأتى به المنصور، فسأله من أين لك هذا الطيب فلجلج في كلامه، فدفعه إلى والي الشرطة، فقال: إن أحضر لك كذا وكذا من المال فخل عنه، وإلا اضربه ألف سوط، فلما جرّد للضرب أحضر المال على هيأته فدعا المنصور صاحب المال، فقال: أرأيت إن رددت عليك المال تحكّمني في امرأتك؟ قال: نعم، قال: هذا مالك، وقد طلقت المرأة منك.

وقال “الحارث بن مرة”: نظر إياس بن معاوية إلى رجل فقال: هذا غريب وهو من أهل واسط وهو معلّم، وهو يطلب عبداً له آبق، فوجدوا الأمر كما قال، فسألوه فقال: رأيته يمشي ويلتفت فعلمت أنه غريب، ورأيته وعلى ثوبه حمرة تربة واسط، فعلمت أنه من أهلها، ورأيته يمر بالصبيان فيسلم عليهم ولا يسلم على الرجال فعلمت أنه معلم، ورأيته إذا مر بذي هيئة لم يلتفت إليه، وإذا مر بذي أسمال تأمله فعلمت أنه يطلب آبقا.

أخي الكريم: إن هناك أموراً تعد من الفراسة:فمنها:

التأمل والنظر في عواقب الأمور ومآلاتها فعلاً وتركاً، وهذا هو المقصود الأعظم في باب الفراسة، وهو ما يسمى بفقه المقاصد في الفعل والترك، والنظر في عواقب الأمور، وعدم الاقتصار على النظرة السطحية القريبة، وهذا أمر لا يُفتح لكل أحد، ومن رزق هذا الباب فقد أوتي خيراً كثيراً، فهذه المسألة من المسائل المهمة جداً، والتي يترتب على الإخلال بها وعدم فقهها: فوات كثير من المصالح. فأحياناً يكون هناك تعارض بين مصلحتين لا يمكن الجمع بينهما، فما العمل؟ وأحياناً تتعارض مفسدتان لا يمكن الخلو من أحدهما، فما العمل؟ وأحياناً تتعارض مصلحة ومفسدة لا يمكن التفريق بينهما، بل فعل المصلحة مستلزم لوقوع المفسدة، وترك المفسدة مستلزم لترك المصلحة، فما العمل؟ وهذا باب واسعٌ ومهم جداً، ونحن في واقعنا المعاصر كثيراً ما نحتاج إليه أكثر مماسبق من الأوقات.

ومن الفراسة: معرفة أحابيل المجرمين، وطرائقهم، ودسائسهم في تدمير عقائد الناس وأخلاقهم. وما تمكن أعداء الشريعة وخصوم الملة من بعض الأشياء إلا عندما كثر المغفلون في الأمة.

ومن الفراسة: أن يعرف المؤمن المجرمين في مجتمعه بسيماهم، وأن يعرفهم في لحن القول بفلتات لسانهم، وما تخطه أيديهم أحياناً، فلان يسمح له بالكتابة، ويطرح قضايا تنقض أصل الدين، ثم لا يرد عليه، فيعلم المؤمن بفراسته أن وراء الأكمة ما ورائها.

ومن الفراسة: معرفة أهل الحق المخلصين، تعرفهم بحرب المبطلين لهم، وتعرفهم بشنآن أهل الشهوات لهم، تعرفهم بصدق اللهجة، واطراد المنهج، وتعرفهم بمحبة الناس لهم،وتعرفهم بما يحقق الله على أيديهم من الخير، وما يُكَف بسببهم من الشر عن الناس(6).

والله الموفق إلى سبيل الرشاد.

ووصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين،،،


1 – راجع: الفراسة والذكاء للشيخ ناصر محمد الأحمد.

2 رواه الترمذي. وضعفه الألباني في ضعيف الجامع رقم (127).

3 رواه الطبراني في الأوسط، وحسنه الألباني في صحيح الجامع رقم(2168).

4 – البخاري.

5 – راجع: مدارج السالكين (2/482-484).

6 – الفراسة والذكاء ناصر محمد الأحمد. بتصرف يسير.