إقالة العثرة

إقالة العثرة

 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بجودك وكرمك يا أكرم الأكرمين.

أما بعد:

فإنَّ الكمال لله سبحانه وحده، وأما الإنسان فإن الله  فطرهُ على أنه يصيب ويخطئ، ويعلم ويجهل، ويذكر وينسى، وهكذا.. ولم يعصم أحداً من الوقوع في الزلة والهفوة والعثرة غير الأنبياء. وما دام أن الناس يصيبون ويخطئون، وتقع منهم الهفوة والزلة، فإن الشرع المطهر قد حثَّ الصفح والعفو، والتجاوز عن أصحاب الزلات والهفوات، والستر عن المسلمين والمسلمات، فقال نبي الإنسانية، وهادي البشرية:" من ستر مسلما ستره الله يوم القيامة"1. وفي رواية:" ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة)2. ولكن مَـن الذين يُستر عليهم؟ ومن الذين يُتجاوز عن زلاتهم وهفواتهم وعثراتهم؟ لا شك أن الذين يُستر عليهم، ويُتجاوز عن زلاتهم وهفواتهم؛ هم ذو الهيئات، كما قال الإمام النووي-رحمه الله-: المراد به الستر على ذوي الهيئات ونحوهم، ممن ليس معروفا بالأذى والفساد. وقال الحافظ ابن رجب الحنبلي-رحمه الله-: واعلم أن الناس على ضربين: أحدهما: من كان مستوراً لا يُعرف بشيء من المعاصي، فإذا وقعت منه هفوة أو زلةٌ، فإنه لا يجوزُ كشفُها، ولا هتكُها، ولا التحدثُ بها؛ لأنَّ ذلك غيبةٌ محرمةٌ، وهذا هو الذي وردت فيه النصوص، وفي هذا قال الله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ}3. والمراد: إشاعة الفاحشة على المؤمن المستتر فيما وقع منه،أو اتُّهم به وهو بريء منه؛ كما في قضية الإفك. قال بعض الوزراء الصالحين لبعض من يأمر بالمعروف: اجتهد أن تستُر العُصاة، فإن ظهور معاصيهم عيبٌ في أهل الإسلام، وأولى الأمور ستر العيوب. ومثل هذا لو جاء تائباً نادماً،وأقرّ بحدٍّ، ولم يفسِّره، ولم يُستفسر، بل يُؤمر بأن يرجع ويستُر نفسه؛ كما أمر النبي-صلى الله عليه وسلم-ماعزاً والغامدية، وكما لم يستفسر الذي قال: أصبت حداً فأقمه عليَّ، ومثل هذا لو أخذ بجريمته،ولم يَبلغ الإمام، فإنه يُشفع له حتى لا يبلغ الإمام. وفي مثله جاء في الحديث عن النبي-صلى الله عليه وسلم-: (أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم)4. والثاني: من كان مشتهراً بالمعاصي، مُعلناً بها، لا يبالي بما ارتكب منها، ولا بما قيل له، فهذا هو الفاجر المُعلِنُ، وليس له غَيْبة، كما نَصَّ على ذلك الحسنُ البصريُّ وغيره، ومثل هذا لا بأس بالبحث عن أمره، لتُقام عليه الحدود. صرَّح بذلك بعض أصحابنا، واستدل بقول النبي-صلى الله عليه وسلم-: (واغد يا أنيس على امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها)5. ومثل هذا لا يُشفع له إذا أُخِذَ، ولو لم يبلغ السُّلطان، بل يُترك حتى يُقام عليه الحدُّ، لينكفَّ شـرُّه، ويرتدع به أمثالُه. قال مالك: من لم يُعرف منه أذى للناس، وإنما كانت منه زلَّةٌ، فلا بأس أن يُشفعَ له ما لم يبلغ الإمام، وأمَّا من عُرف بشرٍّ أو فسادٍ، فلا أحبُّ أن يَشفع له أحد، ولكن يُترك حتى يُقام عليه الحدُّ6. والمسلم لم يُؤمر أن يتتبع عورات المسلمين، ويهتك ستر الله عنهم؛ فعن أبي برزة عن النبي-صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (يا معشر من آمن بلسانه، ولم يدخل الإيمان في قلبه، لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من اتَّبع عوراتهم، تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف بيته)7. وأولى وأحرى من يدخل في ذوي الهيئات، العلماء، وطلبة العلم، وأهل التقوى والصلاح، ألا فليحذر أولئك الذين يحاولون الاصطياد في الماء العكر، من أصحاب الأقلام المسعورة، والألسنة المستأجرة المأثومة، الذين سخَّروا أقلامهم وألسنتهم، وذلك بتتبعهم لعورات، وزلاَّت وهفوات العلماء، وطلبة العلم؛ المشهود لهم بالتمسك بالسنة، والتقوى والصلاح، والزهد في الدنيا، وإياهم أذكر بقول بعض السلف: أدركت قوماً لم يكن لهم عيوب، فذكروا عيوب الناس، فذكر الناس لهم عيوباً،وأدركتُ أقواماً كانت لهم عيوب، فكفوا عن عيوب الناس،فنسيت عيوبهم،أو كما قال. وليعلم كل من سلط لسانه أو قلمه؛ للثلب في العلماء، والطعن في نياتهم، ومحاولة تزهيد الناس عن الأخذ عنهم، والرجوع إليهم،والصدور عن رأيهم، فإنه متوعد بموت قلبه قبل موت جسده، كما قال الحافظ ابن عساكر-رحمه الله- قال: واعلم-يا أخي وفقنا الله وإياك لمرضاته، وجعلنا ممن يخشاه ويتقيه حق تقاته-، أنَّ لحوم العلماء مسمومة، وعادة الله في هتك أستار منتقصهم معلومة، وأن من أطلق لسانه في العلماء بالثلب، ابتلاه الله قبل موته يموت القلب8. والله من وراء القصد.


1 – رواه البخاري ومسلم.

2 – رواه مسلم.

3 – سورة النور(19).

4 – أخرَّجه أبو داود والنسائي من حديث عائشة.

5 – رواه البخاري ومسلم.

6 – جامع العلوم والحكم(2/292- 293). مؤسسة الرسالة.

7 – رواه أحمد وأبو داود والترمذي، وهو حديث صحيح.

8– المعيد في أدب المفيد والمستفيد صـ(71).