الظلم وخطورته
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وأله وصحبه ومن والاه.
أما بعد:
إن الظلم قد عم وانتشر في هذه الزمن، وذلك بسبب الجهل، وقلة العلم، فلا يكاد يسلم منه إلا من رحم ربي، فلقد ماتت الأمانة والعدالة، والإنصاف بين المسلمين، فظلم الإنسان نفسه بارتكاب ما يغضب الملك العلام، وأخذ مال غيره بلا سلطان ولا برهان، ولم يراع حق زوجته، وأولاده، وجيرانه، ولم يصل الأرحام؛ بل إنه تعدى وظلم وفرط وقصَر في حق الله، وحق نفسه، وحق إخوانه،- ولا حول ولا قوة إلا بالله-.
ومما لاشك فيه أن الظلم مرتعه وخيم، وعاقبته سيئة، فهو منبع الرذائل، ومصدر الشرور والمأثم، والظلم كما يعرفه العلماء أنه وضع الشيء في غير موضعه، وهو انحراف عن العدالة، ومتى فشا في أمة أهلكها، أو في قرية أو مدينة دمرها، قال الله تعالى: ) فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ( 1.
وهو والفساد قرينان؛ بهما تخرب الديار، وتزول الأمصار، وتقل البركات، ويحل الفشل محلها، وهو ظلمات تزول الأقدام في غيا هبه، وتضل به الأفهام، ويظهر الفساد، وينشر بسببه الخوف بين العباد.
وأعظم الظلم وأشده وأخبثه الشرك بالله؛ قال الله – تعالى-: )الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ ( 2. فعن علقمة عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: لما نزلت:) الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ( 3. شق ذلك على أصحاب رسول الله، وقالوا: أينا لا يظلم نفسه ؟! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ليس هو كما تظنون إنما هو كما قال لقمان لابنه: )وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ( 4.
وأظلم أهل الظلم من بات مشركاً برب الورى فافهمه فهم موحد
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الظلم ظلمات يوم القيامة " 5.
وعن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه – عز وجل – أنه قال: "يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا " 6.
إن بالعدل تقام الدولة الكافرة، وبالظلم تهدم الدولة وإن كانت مسلمة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله-: إن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا يقيم الدولة الظالمة وإن كانت مسلمة.
فالحذر الحذر من الظلم بكافة أشكاله وصوره، وعلى من وقع في ظلم نفسه، أو في ظلم غيره؛ بالتوبة النصوح.
إن من مات قبل رد المظالم إلى أهلها؛ أحاط به يوم القيامة خصماؤه فهذا يأخذ بيده، وهذا يقبض على ناصيته، وهذا يمسك بيده، وذاك يتعلق برقبته، وهذا يقول: ظلمني فغشني، وهذا يقول: ظلمني فبخسني، وهذا يقول: خدعني، وهذا يقول: قذفني، وهذا يقول: أكل مالي، وهذا يقول: اغتابني، وهذا يقول: كذب علي، وهذا يقول: قطع رحمي.
وهذا يقول: جاوروني فأساء مجاورتي، وهذا يقول: رآني مظلوماً فلم ينصرني،، وهذا يقول سجنني بلا ذنب ارتكبته، أو جرم اقترفته، وهذا يقول: رآني على منكر فلم ينهني، وهذا يقول: جحد مالي، وهذا يقول: مطلني حقي، وهذا يقول: سرق مالي، وهذا يقول: قطع من ملكي، وهذا يقول: شهد علي الزور.
وهذا يقول: منعني النوم بملاهيه من مذياع وتلفزيون ودش، وسينماء، فبينما أنت أيها الظالم على تلك الحال المخفية التي لا يرى فيها بعضك من كثرة من تعلق بك من الغرماء، وأنت مبهوت متحير ومضطرب الفكر والعقل من كثرتهم ومطالبهم، و… و.. ومددت عنق الرجاء إلى سيدك ومولاك لعله أن يخلصك من أيديهم؛ إذ قرع سمعك نداء الجبار – جلَ وعلا – وتقدست أسماؤه:) الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ( 7 . فعند ذلك ينخلع قلبك، وتضطرب أعضاؤك من الهيبة، وتوقن نفسك بالبوار، وتذكر ما أنذرك الله – تعالى – به على لسان رسله حيث قال : )وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء( 8.
وقوله تعالى: ) وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِّن سَبِيلٍ وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُّقِيمٍ ( 9.
فيالها من مصيبة ما أشدها؟ وحسرة ما أنكاها؟ وفي ذلك اليوم الرهيب يجئ رب الأرباب، ومالك الأملاك؛ للفصل بين عباده بحكمه العدل، ويشافه الظالم بالخطاب، حينها يعلم أنه مفلس فقير عاجز مهين، لا يقدر على أن يرد حقاً أو يظهر عدلاً، فعند ذلك تؤخذ من حسناته التي تعب عليها في عمره، ليلاً ونهاراً، وحضراً وسفراً، وتنقل إلى الخصماء عوضاً عن حقوقهم؛ كما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" أتدرون ما المفلس "؟ قالوا : المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع. فقال : " إن المفلس من أمتي يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطي هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه؛ أخذ من خطاياهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار " 10.
وحكي أن الرشيد حبس أبا العتاهية فكتب على جدر الحبس:
أما والله إن الظلم شـؤم |
وما زال المسيء هو الظلوم |
إلى الديان يوم الدين نمضي |
وعند الله تجتمع الخصوم |
ستعلم في الحساب إذا التقينا |
غداً عند المليك من الظلوم |
تنام ولم تنم عنـك المنـايا |
تنبـه للمنيـة يانـؤوم |
لهوت عن الفناء وأنت تفنى |
وما حي على الدنيا يدوم |
تروم الخلـد في دار المنـايا |
وكم قد رام غيرك ما تروم |
سـل الأيام عن أمم تقضت |
ستخبرك المعالم والرسـوم |
فأخبر الرشيد بذلك فبك بكاءً شديداً، ودعا أبا العتاهية فاستحله، ووهب له ألف دينار؛ لحبسه من غير موجب شرعي.
وما أكثر اليوم الذين هم وراء القضبان بدون ذنب ارتكبوه، أو جريمة فعلوها، وذلك في كل بلد من بلاد العالم ؟ فأي ظلم – بعد الشرك بالله – أعظم من أن يلقى بالعلماء وطلبة العلم الصالحين المصلحين خلف القضبان؟! ربنا أتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.