نحري دون نحرك

نحري دون نحرك

 

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فإنَّ من المواقف البطولية، والتضحيات العظيمة التي بذلها أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم في سبيل حمايته والذود عنه، ما سطره التاريخ وتناقلته الأجيال عبر العصور عن أولئك الصحب الكرام الذين بذلوا من الأرواح والمهج ما لا يقدر عليه من بعدهم إلا من وفقه الله. حتى أنّ الواحد منهم كان يجود بنفسه من أجل حماية النبي عليه الصلاة والسلام، ومنهم من كان يعذب عذاباً شديداً، وعندما يسأله أحد المشركين -وهو أبو سفيان قبل أن يسلم-: "أنشدك بالله يا زيد أتحب أن محمداً الآن عندنا مكانك نضرب عنقه، وإنك في أهلك؟ فأجابه قائلاً: والله ما أحب أن محمدا الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه، وإني جالس في أهلي". قال يقول أبو سفيان: ما رأيت من الناس أحداً يحب أحداً كحب أصحاب محمد محمداً"1 -صلى الله عليه وسلم-.

بل إنهم كانوا يفدونه بآبائهم وأعراضهم، حتى سطر ذلك شعراؤهم، فقال حسان وهو أشعر شعرائهم:

فإنّ أبي ووالده وعرضي *** لعرض محمد منكم فداء2

بل يفضلون أن تذهب نفوسهم رخيصة في سبيل الدفاع عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وهذا أقصى غاية الجود؛ كما قال الشاعر:

يجود بالنفس إذ ضن البخيل بها***والجود بالنفس أقصى غاية الجود3.

فمن ذلك ما فعله أبو طلحة الأنصاري -رضي الله عنه- في غزوة أحد، فقد كان يحمي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ويرمي بين يديه، وهو يقول: "بأبي أنت وأمي يا رسول الله لا تشرف يصيبك سهم من سهام القوم نحري دون نحرك"4. وعن قيس بن أبي حازم قال: "رأيت يد طلحة شلاء، وقى بها النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم أحد"5. فهل بعد هذا الحب من حب؟ وهل بعد هذا البذل من بذل؟ وهل بعد هذه التضحية من تضحية؟ ألا خرصت ألسنٌ تتكلم في أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-، وشلت أيدي تكتب في ذم أصحاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، وأحرقت قلوب تُضمر وتُكنّ البغض والعداء لأصحاب رسول الله –صلى الله عليه وسلم-؟ أو لم تقرأ قوله صلى الله عليه وسلم؛ كما في المتفق على صحته عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لا تسبوا أصحابي، فلو أنّ أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه). ولكن قلوب القوم مليئة بالردة والنفاق، وبعيدة عن الإيمان والأخلاق، ظاهرها فيها الرحمة وباطنها فيها العذاب والسم الزعاف.. ألا فلعنة الله المتتالية على من سب أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- وقتل تقتيلاً.

وهذا الذي ذكرناه في عظيم حب أصحاب محمد للنبي–صلى الله عليه وسلم-، وبذلهم وتضحيتهم في سبيل الدفاع عنه –صلى الله عليه وسلم- ما هو إلا فيض من غيض فضائلهم، وقطرة من بحار مزاياهم.

ألا فلنقتدي -معشر المؤمنين- بالمؤمنين الأوائل، ولنقل كما قالوا: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} سورة الحشر(10). {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} سورة البقرة(201).


1 انظر: البداية والنهاية (4/65) لابن كثير. الناشر: مكتبة المعارف –بيروت.

2 المصدر السابق (4/311). لابن كثير. الناشر: مكتبة المعارف –بيروت.

3  راجع: مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين(2/293). الناشر: دار الكتاب العربي-بيروت. الطبعة الثانية (1393هـ). تحقيق: محمد حامد الفقي.

4  رواه البخاري.

5  رواه البخاري.