أمراض القلوب
الحمد الله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين،وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين..
أما بعد:
أيها الناس: لقد كانت القلوب موضع العناية التامة عند السلف الصالح؛ لأنهم يعلمون أنها كما قال النبي ﷺ : (إذا صلحت صلح الجسد كله)1،وذلك لأن مبدأ الحركات البدنية والإرادة النفسية، فإن صدرت من القلوب إرادة صالحة تحرك البدن حركة نحو الطاعة، وإن صدرت عنها إرادة فاسدة تحرك البدن حركة فاسدة، فالقلب كالملك والأعضاء كالرعية، ولا شك أن الرعية تصلح بصلاح الملك، وتفسد بفساده، وعليه كان واجباً علينا أن نكون كما كان سلفنا في العناية والاهتمام بهاتيك القلوب؛لأن بها سعادتنا بإذن الله، وبها شقاءنا -عياذاً بالله، ولكن يا للأسف ما كان من ذلك الاهتمام شيء، والذي كان منا أننا أهملنا قلوبنا إهمالاً تنجرح منه القلوب وتذوب له الأكباد، ولذلك نشأ فينا نتيجة الإهمال كثرة الأمراض في القلوب وتشعبت وصعب شفاؤها وانعدم أطباؤها، ومن وصل إلى هذا الحد فهو في خطر عظيم.
أيها الناس: إن من الأمراض التي تصيب القلوب كثيرة، ولكن يجمعها مرضان: مرض شهوة، ومرض شبهة، وقد ذكر الله مرض الشهوة في قوله تعالى: {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ}2.
وأما مرض الشبهة فهو أشد، وهو الذي يصد القلب عن الحق، ومتى صد القلب عنه ابتلي بالباطل، وقد ذكر الله للقلوب أنواعاً من الأمراض فمنها: الطبع، قال تعالى حكاية عن اليهود: {وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا}3، فالطبع عليها معناه: أنه ختم عليها بحيث لا يصل إليها الخير ولا تعرفه ولا تطمئن إليه، وهذا الطبع هو أشد الأمراض.
وهناك مرض ثان ألا وهو مرض: الختم، قال تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ}4، وقال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً}5.
ومعلوم أن الختم هو تغطية الشيء بحيث لا يصل إليه شيء، كما في الظروف المختومة التي لا تصل إليها الأيدي، فالقلب الذي قد ختم عليه لا يصل إليه الخير ولا ينتبه للمواعظ ولا يتذكر، وسبب ذلك هو الشبهات.
ومن أمراض القلوب -عباد الله-: الزيغ، قال تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ}6..
والزيغ: الانحراف والميل، ولا شك أن سببه الشبهات والتشكيكات التي تجعل الحق عنده باطلاً والباطل حقاً، فيميل عن الحق إلى الباطل وذلك هو الزيغ..
ولهذا المرض أسباب، فمن أسبابه: أنهم زاغوا بأنفسهم فزادهم الله من ذلك: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ}7.
ومن أسبابه أيضا: تتبع المتشابهات، قال تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ} إلى قوله عن الراسخين: {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا}8. وكما قلنا أن الزيغ: معناه الانحراف والميل عن الاستقامة، وسبب ذلك هي المعاصي والمخالفات.
أيها الناس: ومن أمراض القلوب: مرض القسوة، بحيث إن القلب لا يصل إليه الخير ولا يلين، قال تعالى: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً}9، وقال تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ}10.
فعابهم بأنهم قست قلوبهم، وأبعد القلوب من الله تعالى القلب القاسي، وهو الذي لا يلين لموعظة ولا يتأثر بتذكير ولا يقبل ذكراً، ولا يتأثر بتخويف، وتأتيه الإرشادات والنصائح وهو يصد عن كل ذلك صدوداً، ولا يزيده ذلك الأمر إلا نفوراً، وما ذاك إلا أنه ممتلئ من الانحراف وممتلئ من الشبهات، ولم يبق فيه محل للمواعظ ولا محل للاعتبار ولا لقبول الحق، فكان بذلك قلباً قاسياً لا يلين، وشبه بحجارة أو أشد من الحجارة.
ومن أمراض القلوب: الران، قال تعالى: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}11. والران: هو الغطاء الذي يحجب القلب عن الاعتبار ويحجبه عن التذكر ولا يصل إليه الخير، ولا شك أن سببه كثرة الذنوب؛ فكلما كثرت الذنوب صارت أغلفة على القلب؛غلافاً فوق غلاف وغطاء فوق غطاء، إلى أن يشق اختراقها وتعسر تنقيتها وإزالتها!..
وأشد الأمراض -عباد الله-: مرض الإقفال؛ قال تعالى: {أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا}12، ولا شك أن القفل هو ما يغلق به الباب ويوصد، ولا يمكن فتحه إلا بمفتاحه الذي صنع له، فالقلب إذا كان قد أقفل ولم يكن له ما يفتح به، فإنه يبقى محجوباً ومحجوزاً لايصل إليه خير.
والقلوب -يا عباد الله- تنقسم إلى ثلاثة أقسام: القلب الأول: القلب سليم، وهو الذي يقبله الله تعالى يوم القيامة، وهو الذي ينجو صاحبه يوم القيامة: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}13،سليم من الشبهات، سليم من الشهوات، سليم من البعد عن الله ..
والقلب الثاني: القلب الميت: وهو قلب الكافر والمنافق الذي لا يفرق بين الخير والشر، ولا بين الحسن والقبيح، الذي يقوده هواه، الذي تكون الدنيا أكبر همّه ومبلغ علمه، الذي يعبد الشيطان.
والقلب الثالث: وهو القلب المريض الذي فيه خير وشرّ، وفيه حسن وقبيح، فمرّة يقبل على الله، ومرّة يقع في المعصية، فلأيهما كان الغلبة كان؛ وعليه فلينظر كل واحد منا من أي الأقسام قلبه..
أيها الناس: إذا أردنا أن يصلح الله قلوبنا فعلينا أن نسلك العبادات الإيمانية، ومن أهمها خمس علاجات أرشدنا إليها النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأرشدنا إليها خيار الأمة من الصحابة والتابعين، فهي شفاء للقلب وجلاء لأمراض القلب، فإن القلب يصدأ كما يصدأ الحديد، وإن جلاءه ذكر الله تعالى، فأدوية القلب الناجعة خمسة:
أولاً: ذكر الله وتلاوة القرآن والمداومة على ذلك، فإن أنفع الأغذية غذاء الإيمان،وأنفع الأدوية دواء القرآن، وكل منهما فيه الغذاء والدواء، فمن طلب الشفاء في غير الكتاب والسنة فهو من أجهل الجاهلين، وأضل الضالين؛ فإن الله -تعالى- يقول: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ}14، وقال تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا}15..
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ}16.
يقول ابن أبي العز -رحمه الله-: “فالقرآن هو الشفاء التام من جميع الأدواء القلبية والبدنية وأدواء الدنيا والآخرة، وما كل أحد يؤهل للاستشفاء به، وإذا أحسن العليل التداوي به ووضعه على دائه بصدق، وإيمان وقبول تام، واعتقاد جازم، واستيفاء شروطه لم يقاوم الداء أبداً، وكيف تقاوم الأدواء كلام رب الأرض والسماء الذي لو نزل على الجبال لصدعها أو على الأرض لقطعها؟! فما من مرض من أمراض القلوب والأبدان إلا وفي القرآن سبيل الدلالة على دوائه وسببه والحمية منه لمن رزقه الله فهماً في كتابه”17.
ثانيًا: كثرة الاستغفار، فـ(من لزم الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجًا، ومن كل ضيق مخرجًا، ورزقه من حيث لا يحتسب)18.
وكان النبي ﷺ يستغفر الله في المجلس الواحد -كما يقول عبد الله بن عمر- أكثر من مائة مرة19..
ومن ذلك الدعاء والإقبال على الله بالدعاء واللجوء إليه .
ومن ذلك الصلاة على النبي ﷺ دائمًا وأبدًا، قال النبي ﷺ : (من صلى علي صلاة صلَّى الله عليه بها عشرًا)20.
قال أحد الصحابة: يا رسول الله، أجعل لك نصف صلاتي؟ قال: (ما شئت، وإن زدت فهو خير لك)، قال: أجعل لك ثلثي صلاتي؟ أي: دعائي، قال: (ما شئت، وإن زدت فهو خير لك)، قال: أجعل لك دعائي كله؟ أجعل لك صلاتي كلها؟ قال: (إذًا تكفى همك ويغفر ذنبك)21.
ومن ذلك -يا عباد الله- قيام الليل ولو كان شيئًا يسيرًا، فإن قيام الليل شفاء للنفوس، شفاء للقلوب، شفاء للأمراض؛ لأنه في ساعة لا يراك فيها إلا الله.
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
قلت ما سمعتم واستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
أما بعد:
أيها الناس: كما أن الطاعات تكون سببًا في حياة القلوب، فكذلك المعاصي والمنكرات هي من أسباب مرض القلب بل هلاكه.
رأيت الذنوب تميت القلوب | وقد يورث الذل إدمانها |
وترك الذنوب حياة القلوب | وخيْر لنفسك عصيانُه22 |
قال تعالى: {أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}23.
وفي الصحيحين أو في صحيح مسلم من حديث حذيفة : (إن العبد إذا أذنب نكت في قلبه نكتة سوداء ثم إذا أذنب نكت في قلبه نكتة سوداء حتى يبقى أسود مربادا لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا إلا ما أشرب من هواه)24.
فمن أراد حياة قلبه فليبتعد عن الذنوب صغيرها وكبيرها.
خل الذنوب صغيرها | وكبيرها ذاك التقى |
واصنع كماش فوق أر | ض الشوك يحذر ما يرى |
لا تحقرن صغيرة | إن الجبال من الحصى25 |
فعلى المسلم أن يبتعد عن الذنوب صغيرها وكبيرها، وإذا وقع في معصية فليعجل بالتوبة والإنابة والإقبال على الله -سبحانه وتعالى- والذكر والطاعات: (وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن)26.
ولنبتعد عن مداخل الشيطان على القلوب، فإن مداخل الشيطان على القلوب كثيرة،والشيطان يتحين الفرص التي يدخل منها على قلب العبد المؤمن، فمن ذلك الشهوات والغضب والحرص على الدنيا والتهالك عليها والحسد والبخل وخوف الفقر وسوء الظن بالمسلمين، كل ذلك من مداخل الشيطان التي يحاول أن يدخل منها إلى القلب، فليبتعد المسلم عن هذه الآفات.
كما أنه ينبغي أن يعود إلى كتاب الله وإلى سنه رسوله وإلى ما كتبه علماء الأمة عن أمراض القلوب، فيبتعد عن تلك الأمراض، ويعالج نفسه بذكر الله ، ويعالج نفسه بالذكر والعبادة.
ولنعلم أن المسلم بل الإنسان مخلوق من مادتين: مادة جسد ومادة روح، فللأسف الشديد أن كثيرًا من الناس ينشغلون بالجسد وينسون الروح، فيغذون جانب الجسد وينسون تغذية الروح، جانب الروح لا يغذى بالطعام والشراب، وإنما يغذى بالذكر والعبادة والإقبال على الله ، فإذا أهملت الروح ماتت وذبلت وعاش الإنسان في بعد عن الله .
ينبغي أن يفهم الإنسان هذه القضية؛ أنه مخلوق من مادتين، فكما أنه يغذي جانب الجسد ويحرص على ذلك ينبغي أن يحرص على تغذية جانب الروح حتى لا يهلك ويبعد ويبتعد عن الله .
نسأل الله يصلح فساد قلوبنا وأن يهدينا سبل السلام، وأن يخرجنا من الظلمات إلى النور.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وقنا عذاب النار..
1 رواه البخاري(50) ومسلم(2996).
2 سورة الأحزاب(32).
3 سورة النساء(155).
4 سورة البقرة(7).
5 سورة الجاثية(23).
6 سورة الصف(5).
7 سورة الصف(5).
8 سورة آل عمران(7-8).
9 سورة البقرة(74).
10 سورة الحديد(16).
11 سورة المطففين(14).
12 سورة محمد(24).
13 سورة الشعراء(88، 89).
14 سورة فصلت(44).
15 سورة الإسراء(82).
16 سورة يونس(57).
17 شرح العقيدة الطحاوية(274).
18 رواه أبو داود(1297) وابن ماجة(3809)، وهو في ضعيف أبي داود، رقم(268).
19 أخرجه أبو داود() وصححه الألباني.
20 رواه مسلم(616).
21 رواه الترمذي(2381) وقال الألباني: “حسن صحيح”. وهو في صحيح وضعيف الترمذي(2457).
22 الآداب الشرعية والمنح المرعية(1/170).
23 سورة الأنعام(122).
24 أخرجه مسلم(207).
25 جامع العلوم والحكم (160).
26 رواه الترمذي(1910) وقال الألباني: “حسن لغيره” كما في صحيح الترغيب والترهيب(2655).