الاهتمام بالمسجد بين الإفراط والتفريط
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه إلى يوم الدين أما بعد:
الاهتمام بالمساجد وتعظيمها جزء لا يتجزأ من تعظيم الدين، فهي مكان العبادة، ومحل اللقاء بالله – عز وجل -، وتهيئتها وتجهيزها سبب من أسباب الخشوع في الصلاة، وحصول الطمأنينة، والشعور بالراحة، لكن أحببنا أن نلفت النظر قليلاً إلى ما يحصل في بعض المساجد، حيث ترى مسجداً قد شُيِّد بمتانة، وزُخرِفَ بإتقان، وأُنفِقت فيه الأموال الطائلة، وتجد مسجداً آخراً تنقصه بعض الأمور المهمة، فلا تكاد تجد من يهتم به، ولا من يعتني به، فتستغرب من الاهتمام المبالغ به في مسجد، والاهتمام المفقود في مسجد آخر.
والذي ينبغي علينا أن يتوزع الاهتمام فيحصل الخير لكل المساجد، مما ينتج أن يؤدي كل مسجد دوره المناط به، ومهمته التي يحصل بها الخشوع لكل مسلم.
ونذكر هنا صوراً مما حصل من الاهتمام المبالغ به في بعض المساجد، ومن ذلك:
أنك ترى النقوشات الكثيرة – التي غالباً ما تشغل المصلي -، والزخارف الملهية التي يصير بها المسجد أشبه ما يكون بالمتحف،وهذه المسألة قد انتبه السلف لها، فبينوا ما كان في زمانهم من المخالفات مثل ما رواه البخاري في صحيحه أن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – أمر ببنيان مسجدٍ، وقال: "أكن الناس من المطر؟، إياك أن تحمر، أو تصفر فتفتن الناس"1، وقال أيضاً: "أليس يتباهون بها ثم لا يعمرونها إلا قليلاً"2، ويذكر ابن عباس – رضي الله عنه – أن المبالغة بزخرفة أماكن العبادة هي مما عُرِفَ به اليهود والنصارى، وأن تقليدهم يعتبر من التقليد الأعمى، وهو من اتباع سنن من كان قبلنا فيقول ابن عباس – رضي الله عنه -: "لتزخرفها كما زخرفت اليهود والنصارى"3، وقال أبو الدرداء – رضي الله عنه -: "إذا حليتم مصاحفكم، وزخرفتم مساجدكم؛ فالدبار عليكم"4، وقال حوشب الطائي – رحمه الله تعالى -: "ما أساءت أمةٌ أعمالها؛ إلا زخرفت مساجدها، ولا هلكت أمةٌ قط إلا من قبل علمائها"5، وقال علي – رضي الله عنه -: "إن القوم إذا زينوا مساجدهم؛ فسدت أعمالهم"6، ويقول الإمام الطرطوشي – رحمه الله تعالى -: "وأصل الزخرف الذهب، وإنما نعني به تمويه المساجد الذهب ونحوه، ومنه قولهم: زخرف الرجل كلامه إذا موهه وزينه بالباطل"7.
والاهتمام المبالغ في بالمساجد هو فراغ ناتج عن ترك لأمور واجبة، وقضايا مهمة؛ هي أولى من زخرفة المساجد، يقول الإمام الطرطوشي – رحمه الله تعالى -: "والمعنى في ذلك أن اليهود والنصارى إنما زخرفوا المساجد عندما حرفوا وبدلوا، وتركوا العمل بما في كتبهم، فأنتم تصيرون إلى مثل حالهم إذا طلبتم الدنيا بالدين، وتركتم الإخلاص بالعمل، فصار أمركم إلى المراءاة في المساجد، والمباهاة بتشييدها وتزيينها …، وروى ابن وهب عن مالكٍ قال: "لقد كره الناس يوم بني المسجد حين عُمِلَ بالذهب والفسيفساء – يعني: الفصوص -، ورأوا أن ذلك مما يشغل الإنسان في صلاته بالنظر إليه"8، ونحن في هذه الأيام قد نرى مما ذُكِرَ سابقاً الكثير، وفي المقابل نرى الإهمال في بعض المساجد كترك المسجد بلا توفيرٍ للماء، أو بدون دورة مياه أصلاً، ومن المساجد من فقدت ما يلطف به الجو؛ رغم أنه قد أصبح في هذه الأيام من الضروريات؛ ففي المناطق الحارة – مثلاً – تحتاج مساجدها إلى المكيفات، أو المراوح الهوائية، وقيمة هذه الأجهزة قد يكون أقل بكثير مما يصرف في الزخارف والنقوش!!، وأحياناً تجد مساجد فيها موكيت فاخر تم شراؤه بأسعار خيالية، وفي المقابل مساجد ليس لها موكيت بل اكتفت بالحصير، أو مساجد عندها موكيت أصبح من كثرة استخدامه كالشعرة لا يفي بشيء، إلا أنه يغطي الأرض.
وتجد مساجد فيها أجهزة صوتيات فاخرة جداً – قد تكون مطلوبة من الخارج -، ومساجد أخرى عندها مكبرات قد كبر سنها، من قرأ فيها شَابَ مثلها؛ فصوته يخرج منها مثل رجل كبير السن لعجز الجهاز عن تحمل الصوت، أو قلة السماعات، أو غير ذلك.
وليس المقصد في هذه الهمسات أن نحصي ما تحتاجه المساجد وما لا تحتاجه، لكن المقصود هو لفت الانتباه إلى مسألة إعطاء المساجد حقها بدون إفراط ولا تفريط.
والله أعلم، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.