دروس وفوائد من آية الدَّين

 

 

دروس وفوائد من آية الدَّين

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبيه الأمين، وعلى آله وأصحابه والتابعين، أما بعد:

فإن سورة البقرة من أعظم سور القرآن العظيم التي بين النبي  مكانتها وأهميتها بأن من قرأها هي وسورة آل عمران شفعتا له يوم القيامة، وقد احتوت السورة على أحكام كثيرة جداً في المعاملات والعبادات، ومن تلك المعاملات الديون التي تتكرر كثيراً في حياة الناس، وينتج عن عدم الانضباط بالشرع مشاكل كثيرة، وخلافات متكررة، ولهذا أمر الله – تعالى- بتوثيق الديون، والإشهاد على ذلك، كل ذلك وغيره جاء في آية الدين التي هي أكبر آية في القرآن.

وستكون لنا وقفة مع دروس وفوائد مستنبطة من آية الدين المشهورة:

قال – تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِأَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةَ تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (282) سورة البقرة.

فمن الدروس والفوائد المستنبطة من الآية:

1- العناية بما ذُكر من الأحكام؛ وذلك لتصدير الحكم بالنداء، ثم توجيه النداء إلى المؤمنين؛ لأنه هذا يدل على العناية بهذه الأحكام، وأنها جديرة بالاهتمام بها.

2- أن التزام هذه الأحكام من مقتضى الإيمان؛ لأنه لا يوجه الخطاب بوصف إلا لمن كان هذا الوصف سبباً لقبوله ذلك الحكمَ.

3- ومنها: أن مخالفة هذه الأحكام نقص في الإيمان كأنه قال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} لإيمانكم افعلوا كذا؛ فإن لم تفعلوا فإيمانكم ناقص؛ لأن كل من يدَّعي الإيمان، ثم يخالف ما يقتضيه هذا الإيمان فإن دعواه ناقصة إما نقصاً كلياً، أو نقصاً جزئياً.

4- بيان أن الدين الإسلامي كما يعتني بالعبادات – التي هي معاملة الخالق – فإنه يعتني بالمعاملات الدائرة بين المخلوقين.

5- دحر أولئك الذين يقولون: إن الإسلام ما هو إلا أعمال خاصة بعبادة الله – عز وجل-، وبالأحوال الشخصية كالمواريث وما أشبهها؛ وأما المعاملات فيجب أن تكون خاضعة للعصر والحال؛ وعلى هذا فينسلخون من أحكام الإسلام فيما يتعلق بالبيوع، والإجارات وغيرها، إلى الأحكام الوضعية المبنية على الظلم، والجهل.

فإن قال قائل: لهم في ذلك شبهة؛ وهو أن الرسول   حين قدم المدينة، ورآهم يلقحون الثمار قال: «لو لم تفعلوا لصلح» فخرج شيصاً – أي فاسداً – فمر بهم فقال: (ما لنخلكم)؛ قالوا: قلت كذا،وكذا؛ قال: (أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأَمْرِ دُنْيَاكُمْ)1،قالوا: «والمعاملات من أمور الدنيا، وليست من أمور الآخرة؟.

فالجواب: أنه لا دليل في هذا الحديث لما ذهبوا إليه؛ لأن الحادثة المذكورة من أمور الصنائع التي من يمارسها فهو أدرى بها، وتدرك بالتجارِب؛ وإلا لكان علينا أن نقول: لا بد أن يعلمنا الإسلام كيف نصنع السيارات والمسجلات، والطوب، وكل شيء، أماالأحكام – الحلال والحرام – فهذا مرجعه إلى الشرع؛ وقد وفى بكل ما نحتاج الإنسان إليه.

6- ومن فوائد الآية: جواز الدَّين؛ لقوله – تعالى-: {تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ} سواء كان هذا الدَّين ثمن مبيع، أو قرضاً، أو أجرة، أو صداقاً، أو عوض خلع، أو أي دين يكون؛ المهم أن في الآية إثبات الدَّين شرعاً.

7-ومنها: أن الدَّين ينقسم إلى ثلاثة أقسام: مؤجل بأجل مسمى بأجل مجهول؛ وغير مؤجل؛لقوله – تعالى-: {بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً}؛ والدَّين إلى غير أجل جائز مثل أن أشتري منك هذه السلعة، ولا أعطيك ثمنها، ولا أعينه لك؛ فهذا دَين غير مؤجل؛ وفي هذه الحال لك أن تطالبني بمجرد ما ينتهي العقد؛ وأما الدَّين إلى أجل غير مسمى فلا يصح؛ وأُخذ هذا القسم من قوله – تعالى-: {مُسَمّىً}مثل أن أقول لك: اشتريت منك هذه السلعة إلى قدوم زيد، وقدومه مجهول؛ لأن فيه غرراً؛ وقد قال النبي  : (مَنْ أَسْلَفَ فِي شَيْءٍ فَفِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ، وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ، إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ)2.

والدين إلى أجل غير مسمى لا يكتب؛ لأنه عقد فاسد3،والدَّين إلى أجل مسمى جائز بنص الآية.

8- جواز السلم وهو تعجيل الثمن، وتأخير المثمن، مثل أن أشتري مئة صاع من البر إلى سنة، وأعطيك الدراهم؛ فيسمى هذا سلماً؛ لأن المشتري أسلم الثمن وقدمه.

9- وجوب كتابة الدَّين المؤجل؛ لقوله – تعالى-: {فَاكْتُبُوهُ}؛ويؤيد ذلك قوله – تعالى- في آخر الآية: {إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةَ تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا}؛ وذهب الجمهور إلى عدم وجوب الكتابة أعني كتابة الدين المؤجل؛ لقوله – تعالى- في الآية التي تليها: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ}،وينبغي على هذا القول أن يستثنى من ذلك ما إذا كان الدائن متصرفاً لغيره كوليّ اليتيم فإنه يجب عليه أن يكتب الدَّين الذي له لئلا يضيع حقه.

10- حضور كل من الدائن والمدين عند كتابة الدَّين؛ لقوله – تعالى-: {بَيْنَكُم}؛ولا تتحقق البينية إلا بحضورهما.

11- لابد أن يكون الكاتب محسناً للكتابة في أسلوبه، وحروفه؛ لقوله – تعالى-: {وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ}.

12- يجب على الكاتب أن يكتب بالعدل بحيث لا يجحف مع الدائن، ولا مع المدين؛و«العدل» هو ما طابق الشرع؛ لقوله – تعالى-: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً} (115) سورة الأنعام، ويتفرع على ذلك أن يكون الكاتب ذا علم بالحكم الشرعي فيما يكتب.

13- أنه لا يشترط تعيين كاتب للناس بشخصه، وأن أيّ كاتب يتصف بإحسان الكتابة والعدل، فكتابته ماضية نافذة؛ لقوله – تعالى-: {كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ}؛ وهي نكرة لا تفيد التعيين.

14- تحريم امتناع الكاتب أن يكتب كما علمه الله؛ لقوله – تعالى-: {وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللّهُ}؛ ولهذا أكد هذا النهي بالأمر بالكتابة في قوله – تعالى- {فَلْيَكْتُبْ} وهذا ظاهر الآية، ويحتمل أن يقال: إنْ توقف ثبوت الحق على الكتابة كانت الكتابةواجبة على من طلبت منه؛ وإلا لم تجب، كما قلنا بوجوب تحمل الشهادة إذا توقف ثبوت الحق عليها.

15- أنه يجب على الكاتب أن يكتب على حسب علمه من الشريعة؛ لقوله – تعالى-: {وَلاَيَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللّهُ}.

16- تذكير هؤلاء الكتبة بنعمة الله، وأن مِن شُكر نعمة الله عليهم أن يكتبوا؛ لقوله- تعالى-: {كَمَا عَلَّمَهُ اللّهُ}؛ وهذا مبني على أن الكاف هنا للتعليل، فإن قيل: «إنها للتشبيه» صار المعنى: أنه مأمور أن يكتب على الوجه الذي علمه الله من إحسان الخط، وتحرير الكتابة.

17- أن الإنسان لا يستقل بالعلم؛ لقوله – تعالى-: {كَمَاعَلَّمَهُ اللّهُ}؛ حتى في الأمور الحسية التي تدرك عن طريق النظر، أو السمع، أو الشم، لا يستطيع الإنسان أن يعلمها إلا بتعليم الله – عز وجل -.

18- مبادرة الكاتب إلى الكتابة بدون مماطلة؛ لقوله – تعالى-: {فَلْيَكْتُبْ}.

19- أن الرجوع في مقدار الدَّين، أو نوعه، أو كيفيته؛ بل في كل ما يتعلق به إلى المدين الذي عليه الحق لا إلى الدائن؛ لقوله – تعالى-: {وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ}؛ لأنه لو أملل الذي له الحق فربما يزيد، لكن إذا قال قائل: وإذا أملى الذي عليه الحق فربما ينقص؟! فالجواب: أن الله حذره من ذلك في قوله – تعالى-: {وَلْيَتَّقِ اللّهَ رَبَّهُ وَلاَيَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا}.

20- ومنها: أن من عليه الحق لا يكتب؛ وإنما يكتب كاتب بين الطرفين؛ لأن الذي عليه الحق وظيفته الإملال؛ ولكن لو كتب صحت كتابته؛ إلا أن ذلك لا يؤخذ من هذه الآية؛ يل يؤخذ من أدلة أخرى مثل قوله – تعالى-: {يَا أَيُّهَاالَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ} (135) سورة النساء، وكتابة الإنسان على نفسه إقرار؛ وإقرار الإنسان على نفسه مقبول.

21- ومن فوائد الآية: وجوب تقوى الله – عز وجل – على من عليه الحق، وأن يتحرى العدل؛ لقوله – تعالى-: {وَلْيَتَّقِ اللّهَ رَبَّهُ}.

22- ينبغي في مقام التحذير أن يُذْكَر كلُّ ما يكون به التحذير؛ لقوله – تعالى-: {وَلْيَتَّقِ اللّهَ رَبَّهُ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا}؛ ففي مقام الألوهية يتخذ التقوى عبادة؛ لأن الألوهية هي توحيد العبادة؛ وفي مقام الخوف من الانتقام يكون مشهده الربوبية؛ لأن الرب – عز وجل – خالق مالك مدبر.

23- أنه يحرم على من عليه الدَّين أن يبخس منه شيئاً لا كمية، ولا نوعاً، ولا صفة؛لقوله – تعالى-: {وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا}.

24- أن الوليّ يقوم مقام المولَّى عليه في الإملال؛ لقوله – تعالى-: {فَإن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ}.

25- أن أسباب القصور ثلاثة: السفه؛ والضعف؛ وعدم الاستطاعة؛ والسفه: ألا يحسن التصرف؛ والضعيف يشمل الصغير، والمجنون؛ ومن لا يستطيع يشمل من لا يقدر على الإملال لخرس أو عييّ أو نحو ذلك.

26- قبول قول الوليّ فيما يقر به على مولّاه؛ لقوله – تعالى-: {فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ}.

27- وجوب مراعاة العدل على الوليّ؛ لقوله – تعالى-: {بِالْعَدْلِ}؛فلا يبخس من له الحق؛ ولا يبخس من عليه الحق ممن هو مولى عليه.

28- طلب الإشهاد على الحق.

29- أن البينة إما رجلان؛ وإما رجل، وامرأتان؛ وجاءت السنة بزيادة بينة ثالثة وهي الرجل، ويمين المدّعي؛ وأنواع طرق الإثبات مبسوطة في كتب الفقهاء.

30- لابد في الشاهدين من كونهما مرضيين عند المشهود له، والمشهود عليه.

31- قصر حفظ المرأة وإدراكها عن حفظ الرجل، وهذا باعتبار الجنس؛ فلا يرد على ذلك من نبوغ بعض النساء، وغفلة بعض الرجال.

32- جواز شهادة الإنسان فيما نسيه إذا ذُكِّر به، فذكر؛ لقوله – تعالى-: {أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى}،فإن ذُكِّر ولم يذكر لم يشهد.

33- تحريم امتناع الشاهد إذا دُعي للشهادة؛ وهذا تحته أمران:

الأمر الأول: أن يُدعى لتحمل الشهادة؛ وقد قال العلماء في هذا: إنه فرض كفاية؛ وظاهر الآية الكريمة أنه فرض عين على من طلبت منه الشهادة بعينه، وهو الحق؛ لأنه قد لا يتسنى لطالب الشهادة أن يشهد له من تُرضى شهادته.

الأمر الثاني: أن يُدعى لأداء الشهادة؛ فيجب عليه الاستجابة؛ لهذه الآية، ولقوله – تعالى-: {وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ}(283) سورة البقرة.

34- ومن فوائد الآية: النهي عن السأَم في كتابة الدَّين سواء كان صغيراً، أوكبيراً؛ والظاهر أن النهي هنا للكراهة.

35- إذا كان الدَّين مؤجلاً فإنه يبيَّن الأجل؛ لقوله – تعالى-: {إِلَىأَجَلِهِ}.

36- أن ما ذُكر من التوجيهات الإلهية في هذه الآية فيه ثلاثة فوائد:

الأولى: أنه أقسط عند الله أي أعدل عنده لما فيه من حفظ الحق لمن هو له، أو عليه.

الثانية: أنه أقوم للشهادة؛ لأنه إذا كتب لم يحصل النسيان.

الثالثة: أنه أقرب لعدم الارتياب.

37-ومن فوائد الآية: العمل بالكتابة، واعتمادها حجةً شرعية إذا كانت من ثقة معروف خطه؛ويؤيد هذا قوله  : (مَا حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَهُ شَيْءٌ يُوصِي فِيهِ يَبِيتُ لَيْلَتَيْنِ إِلَّاوَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ)4.

38- ومنها: أن الشهادات تتفاوت؛ فمنها الأقوم؛ ومنها القيم؛ ومنها ما ليس بقيم؛ فالذي ليس بقيم هو الذي لم تتم فيه شروط القبول؛ والقيم هو الذي صار فيه أدنى الواجب؛ والأقوم ما كان أكمل من ذلك؛ بدليل قوله – تعالى-: {وَأَقْومُ لِلشَّهَادَةِ}، فإذا قيل: ما مثال القيم؟ فنقول: مثل شاهد، ويمين؛ لكن أقوم منه الشاهدان؛ لأنالشاهدين أقرب إلى الصواب من الشاهد الواحد؛ ولأن الشاهدين لا يحتاج معهما إلى يمين المدعي؛ فكانت شهادة الشاهدين أقوم للشهادة.

39- ومن فوائد الآية: أنه ينبغي للإنسان أن يتجنب كل ما يكون له فيه ارتياب وشك؛لقوله – تعالى-: {وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُواْ}، ويتفرع على هذه الفائدة: أن دين الإسلام يريد من معتنقيه أن يكونوا دائماً على اطمئنان وسكون، ويتفرع أيضاً منها: أن دين الإسلام يحارب ما يكون فيه القلق الفكري أو النفسي؛ لأن الارتياب يوجب قلق الإنسان، واضطرابه، ويتفرع عليه أيضاً: أنه ينبغي للإنسان إذا وقع في محلّ قد يستراب منه أن ينفي عن نفسه ذلك؛ وربما يؤيد هذا الأثرُ المشهور: «رحم الله امرئ كفّ الغيبة عن نفسه»، لا تقل: إن الناس يحسنون الظن بي،ولن يرتابوا في أمري، لا تقل هكذا؛ لأن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، فربما لا يزال يوسوس في صدور الناس حتى يتهموك بما أنت منه بريء.

40- ومن فوائد الآية: جواز الاتجار؛ لقوله – تعالى-: {إِلاَّأَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً}، ولكن هذا الإطلاق مقيد بالشروط التي دلت عليها النصوص؛ فلو اتجر الإنسان بأمر محرم فهذا لا يجوز من نصوص أخرى؛ ولو رابى الإنسان يريد التجارة والربح قلنا: هذا حرام من نصوص أخرى؛ إذن هذا المطلق الذي هو التجارة مقيد بالنصوص الدالة على أن التجارة لا بد فيها من شروط.

41- والتجارة نوعان: تجارة حاضرة، وتجارة غير حاضرة؛ فأما الحاضرة فهي التي تدار بين الناس بدون أجل؛ وأما غير الحاضرة فهي التي تكون بأجل، أو على مسمى موصوف غير حاضر.

42- ومنها: أن الأصل في التجارة الدوران؛ لقوله – تعالى-: {تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ}،فأما الشيء الراكد الذي لا يدار فهل يسمى تجارة؟ يرى بعض العلماء أنه ليس تجارة؛ ولذلك يقولون: ليس فيه زكاة، وأن الزكاة إنما هي في المال الذي يدار – يعني يتداول-، ويرى آخرون أنها تجارة؛ ولكنها تجارة راكدة؛ وهذا يقع كثيراً فيما إذا فسدت التجارة، وكسد البيع؛ فربما تبقى السلع عند أصحابها مدة طويلة لا يحركونها؛ لكن هي في حكم المدارة؛ لأن أصحابها ينتظرون أيّ إنسان يأتي فيبيعون عليه.

43- لا يجب كتابة التجارة الحاضرة المدارة، ولو كان ثمنها غير منقود؛ بخلاف ما إذا تداين بدين إلى أجل مسمى؛ فإنه تجب كتابة الدَّين على ما سبق من الخلاف في ذلك؛ لقوله – تعالى-: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا}.

44- الأمر بالإشهاد عند التبايع؛ وهل الأمر للوجوب؛ أو للاستحباب؛ أو للإرشاد؟ فيه خلاف؛ والراجح أنه ليس للوجوب؛ لأن النبي – صلى الله عليه وسلم – اشترى ولم يُشهِد؛ والأصل عدم الخصوصية؛ ولأن إيجابه فيه شيء من الحرج والمشقة؛ لكثرة تداول التجارة؛اللهم إلا أن يكون التصرف للغير كالوكيل، والوليّ؛ فربما يقال بوجوب الإشهاد في المبايعات الخطيرة.

45- ومن فوائد الآية: أن الإشهاد ينبغي أن يكون حين التبايع؛ بمعنى أنه لا يتقدم،ولا يتأخر؛ لقوله – تعالى-: {إِذَا تَبَايَعْتُمْ}؛ لأن العقد لم يتم إذا كان الإشهاد قبله؛ وإذا كان بعده فربما يكون المبيع قد تغير.

46- تحريم مضارة الكاتب، أو الشهيد، سواء وقع الإضرار منهما، أو عليهما.

47- المضارة سواء وقعت من الكاتب، أو الشاهد، أو عليهما؛ فسوق؛ والفسق يترتب عليه زوال الولايات العامة والخاصة إلا ما استثني؛ والفاسق يُهجر إما جوازاً؛ أو استحباباً، أو وجوباً – على حسب الحال – إن كان في الهجر إصلاح له، فإن قال قائل:أفلا يشكل هذا على القاعدة المعروفة أن الفسق لا يتصف به الفاعل إلا إذا تكرر منه أو كان كبيرة؟ فالجواب: أن الله – تعالى- حكم على المضارة بأنها فسوق؛ والقرآن يَحكم ولا يُحكَم عليه.

48- ومن فوائد الآية: أن هذا الفعل فسوق لا يخرج من الإيمان؛ لأنه لم يصف الفاعل بالكفر؛ بل قال – تعالى-: {فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ}، ومجرد الفسق لا يخرج من الإيمان؛ ولكن الفسق المطلق يخرج من الإيمان؛ لأن الخروج عن الطاعة خروجاً عاماً يخرج من الإيمان، ويوجب الخلود في النار كما قال الله – تعالى-: {أَفَمَن كَانَ مُؤْمِنًا كَمَن كَانَ فَاسِقًا لَّا يَسْتَوُونَ* أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ* وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَاأُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ}(18-20)سورة السجدة.

49- وجوب تقوى الله – سبحانه وتعالى – لقوله – تعالى-: {وَاتَّقُواْاللّهَ}.

50- امتنان الله – عز وجل – على عباده بالتعليم، حيث قال – تعالى-: {وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ}.

51- الأصل في الإنسان الجهل؛ لقوله – تعالى-: {وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ}؛ قال الله – عز وجل -: {وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (78) سورة النحل.

52- ثبوت صفة العلم لله – عز وجل – لقوله – تعالى-: {وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ}؛لأن المعلم عالم.

53- العلم من منة الله – عز وجل – على عباده؛ لقوله – تعالى-: {وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ}، وكما قال – تعالى-: {لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} (164) سورة آل عمران، ولا شك أن العلم من أكبر النعم، حيث قال الله – عز وجل -: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٌٍ}(11) سورة المجادلة، والعلماء كذلك ورثة الأنبياء؛ فالعلم أفضل من المال ولا مقارنة.

54- إثبات هذا الاسم من أسماء الله وهو {عَلِيمٌ}،وإثبات ما دلّ عليه من الصفة وهي العلم.

55- إثبات عموم علم الله؛ لقوله – تعالى-: {وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}.

56-الرد على القدرية سواء الغلاة منهم أو غيرهم؛ فإن غلاتهم يقولون: إن الله لا يعلم شيئاً من أفعال العباد حتى يقع، يقول شيخ الإسلام في العقيدة الواسطية: إن هؤلاء قليل – وهذا في عهده؛ ولا ندري الآن هل زادوا، أم نقصوا؛ لكن في الآية ردّ حتى على غير الغالية منهم – وهم الذين يقولون: إن الله يعلم؛ لكنه لم يُرد أفعال الإنسان، وأن الإنسان مستقل بإرادته، وفعله؛ ووجه ذلك ما قاله الشافعي – رحمه الله -:«ناظروهم بالعلم؛ فإن أقروا به خُصموا، وإن أنكروه كفروا»؛ وعلى هذا نقول: في هذه الآية الكريمة دليل على أن أفعال العباد مرادة لله – عز وجل -؛ لأنها إن لم تكن مرادة فهي إما أن تقع على وفق علمه، أو على خلافه؛ فإن كان على خلافه فهو إنكار لعلمه؛ وإن كان على وفقه فلا بد أن تكون مرادة له؛ لأنه أراد أن تقع على حسب علمه5.

نسأل الله – جل وعلا – أن يفقهنا في الدين، وأن يعلمنا التأويل، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.


1 رواه مسلم (2363).

2  رواه البخاري (2125) ومسلم (1604).

3 هذا ما ذكره ورجحه الشيخ ابن عثيمين.

4  رواه البخاري (2587) ومسلم (1627).

5  من موقع الشيخ محمد بن صالح ابن عثيمين.