التشدق بالكلام

 

 

التشدق بالكلام

الحمد لله الملك المنان، القوي العظيم السلطان، خلق الإنسان وميزه بالعقل واللسان،أحمده حمدا طيبا كثيرا يملأ الميزان، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تنزه عن الأنداد والشركاء والأعوان، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله المؤيد بالحجة والبرهان، حذر أيما تحذير من خطر اللسان، بل جعل الصمت من كمال الإيمان، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه أولي الفضل والعرفان، وعلى تابعيهم بإحسان على مر الأزمان.

أما بعد:

فمن المعلوم أن من أكبر النعم التي أنعم الله تبارك وتعالى بها على الإنسان بعد نعمة الإسلام، هي نعمة اللسان، فهو من نعم الله العظيمة، ولطائف صنعه العجيبة، فإنه صغير الجرم ولكنه عظيم الخطر كثير النفع والضرر، سلاح ذو حدين، ولا يستبين الكفر والإيمان، إلا بشهادة اللسان، وهما غاية الطاعة والعصيان يقول الإمام الغزالي رحمه الله: “ما من موجود أو معدوم، ولا متخيل أو مصروم، مظنون أو موهوم، إلا واللسان يتناوله ويتعرض له بإثبات أو نفي فإن كل ما يتناوله العلم يعرب عنه اللسان إما بحق أو باطل ولا شيء إلا والعلم متناول له وهذه خاصية لا توجد في سائر الأعضاء”1، ومن أطلق للسانه العنان، وأهمله سلك به الشيطان في كل ميدان، وساقه إلى شفا جرف هار،واضطره إلى البوار، فكم جر كلام مباح إلى الحرام عياذاً بالله الكريم المنان، ولا ينجو من شر اللسان إلا من قيده بلجام الشرع المطهر فلا يطلقه إلا فيما ينفعه في دنياه وآخرته، ويكفه عن كل ما يخشى غائلته في عاجله أو آجلة.

أخي الكريم: وعليك أن تعلم أن أكثر ما يدخل النار الأجوفان الفم والفرج، وإن أكثر خطايا ابن آدم في لسانه، ولذلك تخوفه النبي صلى الله عليه وسلم على أمته، كما في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه يرفعه قال: ((إذا أصبح ابن آدم فإن الأعضاء كلها تكفر اللسان فتقول اتق الله فينا فإنما نحن بك فإن استقمت استقمنا وإن اعوججت اعوججنا))2، ولما سأل عقبة بن عامر رضي الله عنه عن النجاة قال له النبي  :((أمسك عليك لسانك وليسعك بيتك وابك على خطيئتك))3، عن أبي شريح الخزاعي رضي الله عنه قال: سمع أذناي ووعاه قلبي: النبي   يقول: ((الضيافة ثلاثة أيام جائزته)). قيل ما جائزته؟ قال: ((يوم وليلة ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليسكت))رواه البخاري برقم (6111)؛ ومسلم برقم (48).

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله  :((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذي جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليسكت)) رواه مسلم برقم (47).، ولمَّا كان اللسان آله النطق والبيان، فبه يبين الإنسان ما في ضميره، وكان مسئولاً عن كل كلمة تخرج منه لقول الله تبارك وتعالى: {مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}(سورة ق:18).، كان لزاماً على الإنسان أن يحفظه عن التشدق في الكلام، ويحفظه عن الغيبة والبهتان، حتى يفوز برضا الرحمن فيدخله ربه تبارك وتعالى الجنان، فقد صح عن خير الأنام، وشفيع الناس في عرصات القيامة يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون عند إمام المحدثين محمد بن إسماعيل رحمه الله من حديث سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه: عن رسول الله   قال: ((من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة)) رواه البخاري برقم(6109).، واللسان كما أنه سبب في دخول الجنة يكون كذلك سبب في دخول النار لحديث أبي هريرة رضي الله عنه: قال سئل رسول الله   عن أكثر ما يدخل الناس الجنة ؟ فقال: (( تقوى الله وحسن الخلق. وسئل عن أكثر ما يدخل الناس النار؟ فقال: الفم والفرج)).4

فاللسان سبب والعياذ بالله من أسباب دخول النار كما في هذا الحديث؛ وكما في حديث معاذ رضي الله تعالى عنه الطويل: (( يا رسول الله: وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ فقال: ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكب الناس في النار على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم))5.

وكما قلنا أن اللسان قد يكون سبب في دخول النار والعياذ بالله فإنه سبب في دخول الجنة كذلك، فباللسان يكون ذكر الله تبارك وتعالى، من تسبيح وتهليل واستغفار وقراءة للقرآن وغيرها من الطاعات ولقد جاء أعرابي إلى النبي   فقال: يارسول الله: ((دلني على عمل يدخلني الجنة، فقال الرسول  :أطعم الجائع، واسق الظمآن وأمر بالمعروف وانه عن المنكر، فإن لم تطق فكف لسانك إلا من خير))6.

ولقد حث الإسلام على اختيار أحسن الكلام وأطيبه: ورد في الحديث أن النبي   قال: (( إن في الجنة غرفاً يُرى ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها، أعدها الله لمن أطاب الكلام، وأطعم الطعام، وصلّى بالليل والناس نيام))7. واللسان في الإنسان يمرض كما تمرض بقية الأعضاء، ولعل مرض اللسان من أخطر هذه الأمراض القاتلة التي تصيب هذا الإنسان الضعيف، والله تبارك وتعالى حذرنا من كل الأمراض التي يصاب بها اللسان كما أن الإسلام العظيم قد وضع الدواء الناجع لكل نوع من أنواع المراض التي يصاب بها اللسان، وليس هنا محل تفصيلها ولكن نشير إليها إشارة فحسب لأن المقام لا يتسع لتفصيل فيها وهي كالتالي:

الكذب، والغيبة، والنميمة، والفحش، والسب، وبذاءة اللسان، والجدال، وفضول الكلام،والخوض في الباطل، والخصومة والتقعر في الكلام، واللعن والطعن والتشدق والتصنع في الكلام، والمزاح والسخرية، والاستهزاء وإفشاء السر، والوعد الكاذب، واليمين الكاذب،والمدح الكاذب.

وكل مرض من هذه الأمراض قد ورد في الكتاب والسنة ما يدل على تحريمه، وبيان خطره،وأنه سبب لنيل العذاب من رب الأرباب، فعلى كل مسلم أن يتفقد نفسه فيستغفر الله تبارك وتعالى على الزلل، و يظهر الندم، ويلجأ إلى الله تبارك وتعالى ويدعوه في أن يخلصه الذنوب، فالذنوب كثير من الناس يحاول أن لا يعملها، فلا يسرق ولا يزني، ولا يظلم، ولا يأكل أموال الناس بالباطل،لكنه لا يحترز من لسانه فتجده يتكلم الكلام لا يلقي له بالاً ويكون ذلك من سخط الرحمن كالغيبة والنميمة، والخصومات والأيمان الكاذبة التي يحلف بها وغير ذلك.

أيها الأخ الكريم: فعليك أن تحفظ لسانك فلا تتكلم به إلا في الخير، وتجتنب كل كلام مكروه أو مباح ناهيك عن الحرام، وتذكر أنك مسئول عن كل لفظ تتلفظ به في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أحسن العمل في هذه الحياة وأتى الله تبارك وتعالى بقلب سليم.

فتكلَّم -رحمك الله- بخير وإلا فاسكت، واجتنب فضول الكلام، واسمع قول نبيك محمد  : ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت))، فلا تقل ما لا تعلم، وإن قلَّ ما تعلم، وخير القول ما نفع، والقول على الله بغير علم قرين الشرك بالله، وسبيل من سبل الشيطان العريضة، ولقد قال سبحانه: {وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ } (سورةالبقرة:168-169).

نسأل الله تبارك وتعالى أن يحفظ علينا ديننا الذي هو عصمة أمرنا ونسأله جل وعلا أن يعيننا على طاعته، وأن يرزقنا لساناً ذاكراً وعملاً متقبلاً إنه على كل شيء قدير، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على البشير النذير والسراج المنير محمد بن عبد الله الصادق الأمين.


1 إحياء علوم الدين (3/108), للغزالي أبو حامد, دار االمعرفة – بيروت.

2 رواه الترمذي برقم(2407)؛ وأحمد في المسند برقم(11927) وقال شعيب الأرناؤوط: إسناده حسن, تحقيق: شعيب الأرناؤوط وآخرون, مؤسسة الرسالة, ط2, سنة النشر 1420هـ – 1999م؛ والبيهقي في شعب الإيمان برقم (4946), للحافظ أبي بكر أحمد بن الحسين البيهقي, تحقيق : محمد السعيد بسيوني زغلول, دار الكتب العلمية – بيروت, ط1, سنة النشر:1410هـ؛ وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب برقم(2871), للعلامة محمد ناصر الدين الألباني, مكتبة المعارف – الرياض, ط5.

3 رواه الترمذي برقم (2406) وقال أبو عيسى: هذا حديث حسن؛ والطبراني في الكبير برقم(741), للإمام سليمان بن أحمد بن أيوب أبو القاسم الطبراني, تحقيق: حمدي بن عبد المجيد السلفي, مكتبة العلوم والحكم – الموصل, ط2، سنة النشر: 1404هـ – 1983م؛ وقال الألباني: “صحيح لغيره” صحيح الترغيب والترهيب برقم(2741)؛ ورقم (2854).

4 رواه الترمذي برقم (2004) وقال أبو عيسى: هذا حديث صحيح غريب, تحقيق: أحمد محمد شاكر وآخرون, دار إحياء التراث العربي – بيروت؛ ورواه ابن ماجة برقم(4246), تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي, دار الفكر – بيروت؛ وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب برقم(1723)؛ ورقم (2642)؛ السلسلة الصحيحة برقم(977), للإمام محمد ناصر الدين الألباني, مكتبة المعارف – الرياض؛ صحيح ابن ماجة برقم(3424).

5 رواه الترمذي برقم(2616) وقال: هذا حديث حسن صحيح؛ وأحمد في المسند برقم (22069)؛ وصححه الألباني في إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل برقم (413)؛ و صحيح وضعيف سنن الترمذي برقم(2616)؛ و السلسلة الصحيحة برقم(1122)وقال: صحيح بمجموع طرقه.

6 رواه ابن حبان في صحيحه برقم(374), تحقيق: شعيب الأرناؤوط, مؤسسة الرسالة – بيروت, ط2, سنة النشر: 1414هـ – 1993م؛ وبمعناه أخرجه الحاكم في المستدرك على الصحيحين برقم(2861), تحقيق: مصطفى عبد القادر عطا, دار الكتب العلمية – بيروت, ط1, سنة النشر: 1411هـ – 1990م؛ والبخاري في الأدب المفرد برقم(69), تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي, دار البشائر الإسلامية – بيروت, ط3, سنة النشر: 1409هـ – 1989م؛ وصححه الألباني في مشكاة المصابيح برقم(3384), تحقيق محمد ناصر الدين الألباني, المكتب الإسلامي – بيروت, ط3, سنة النشر: 1405هـ – 1985م.

7 رواه ابن حبان في صحيحه برقم(509) تحقيق: شعيب الأرناؤوط, مؤسسة الرسالة – بيروت, ط2, سنة النشر: 1414هـ – 1993م؛ والحاكم في المستدرك برقم(270)من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه وقال: على شرط الشيخين؛ وقال الألباني: صحيح لغيره في صحيح الترغيب والترهيب برقم(681)، ورقم(946). وقال شعيب الأرناؤوط: إسناده قوي من حديث أبي مالك الأشعري رضي الله عنه.