المصَّدِّقون

المصَّدِّقون

 

الحمد لله وصلى الله وسلم على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:

فقد دأب النبي -صلى الله عليه وسلم- عند دخول القبائل في الإسلام على تعليمها وتربيتها؛ لأن النفوس تحتاج إلى العناية، والاهتمام وغرس العقائد الصحيحة، والتصورات السليمة فيها، وتبيين شعائر الدين وتعاليمه، وما يجب على كل مسلم أداؤه وفعله، وبالأخص ما كان من أصول الدين وأركانه كالصلاة والزكاة وغيرها.

ولذا نجد في ثنايا كتب السيرة ما ينقل لنا من هدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعضاً من تلك المبادرات التي كان يقوم بها سواء حين استقبال الوفود أو قدوم الأعراب وتعليمهم، أو حين يأتي أحدهم مسلماً، أو سأل سائل عن أمر دينه، أو يبعث صحابياً إلى قوم يعلمهم أمور دينهم.

وفي محرم السنة التاسعة من الهجرة -عقب حنين والطائف- بعث النبي -صلى الله عليه وسلم- جماعة من الصحابة -رضي الله عنهم- إلى المناطق والقبائل المختلفة، عمالاً لجمع الزكاة واستيفائها من القبائل، وكانوا كالتالي:

عيينة بن حصن إلى بني تميم، ويزيد بن الحصين إلى أسلم وغفار، وعباد بن بشر الأشهلي إلى سليم ومزينة، ورافع بن مكيث إلى جهينة، وعمرو بن العاص إلى بني فزارة، والضحاك بن سفيان الكلابي إلى بني كلاب، وبسر بن سفيان الكعبي إلى بني كعب، وابن الأتبية الأزدي إلى بني ذبيان والمهاجر بن أبي أمية إلى صنعاء، وخرج عليه الأسود العنسي وهو بها، وزياد بن لبيد إلى حضرموت، وعدي بن حاتم إلى طيء وبني أسد، ومالك بن نويرة إلى بني حنظلة، والزبرقان بن بدر إلى بني سعد (إلى قسم منهم)، وقيس بن عاصم إلى بني سعد (إلى قسم آخر منهم)، والعلاء بن الحضرمي إلى البحرين، وعلي بن أبي طالب إلى نجران لجمع الصدقة والجزية كليهما -رضي الله عن الجميع- وليس هؤلاء العمال كلهم بعثوا في المحرم من السنة التاسعة، بل تأخر بعث عدة منهم إلى اعتناق الإسلام من تلك القبائل التي بعثوا إليه1.

وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يستوفي على العمال، يحاسبهم على المستخرج والمصروف، كما فعل مع عامله ابن الأتبية بن الأزد حيث حاسبه كما جاء عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: اسْتَعْمَلَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- رَجُلًا مِنْ الْأَزْدِ يُقَالُ لَهُ: ابْنُ الْأُتْبِيَّةِ عَلَى الصَّدَقَةِ، فَلَمَّا قَدِمَ قَالَ: هَذَا لَكُمْ وَهَذَا أُهْدِيَ لِي، قَالَ: (فَهَلَّا جَلَسَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ أَوْ بَيْتِ أُمِّهِ، فَيَنْظُرَ يُهْدَى لَهُ أَمْ لَا، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يَأْخُذُ أَحَدٌ مِنْهُ شَيْئًا إِلَّا جَاءَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُهُ عَلَى رَقَبَتِهِ، إِنْ كَانَ بَعِيرًا لَهُ رُغَاءٌ، أَوْ بَقَرَةً لَهَا خُوَارٌ، أَوْ شَاةً تَيْعَرُ) ثُمَّ رَفَعَ بِيَدِهِ حَتَّى رَأَيْنَا عُفْرَةَ إِبْطَيْهِ (اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ، اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ) ثَلَاثً2.

وفي المقابل كان يوصي المسلمين بإرضاء المصَّدِّقين وبذل الواجب وملاطفتهم وترك مشاقهم، فقد جاء عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ -رضي الله عنه- قَالَ: جَاءَ نَاسٌ مِنْ الْأَعْرَابِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالُوا: إِنَّ نَاسًا مِنْ المصَّدِّقين يَأْتُونَنَا فَيَظْلِمُونَنَا، قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: (أَرْضُوا مُصَدِّقِيكُمْ)3.

وقولهم يأتوننا فيظلموننا محمول على ظلمٍ لا يفسق به الساعي، إذ لو فسق لانعزل ولم يجب الدفع إليه، بل لا يجزي، فالظلم قد يكون بغير معصية فإنه مجاوزة الحد، ويدخل في ذلك المكروهات4، ومع هذا فإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أوصى الشاكين من السعاة بإرضائهم وبذل ما يطلبون منهم حتى يرضوا، وفي الوقت نفسه فرسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد أوصى المصَّدِّقين وأمرهم أن يأخذوا العفو -ما فضل- من القبائل، ويتوقوا كرائم أموالهم، فكانت موازنة حكيمة في التشريع الرباني بأمر كلٍّ بما يجب عليه، ولا شأن له بجزئيات أفعال الآخر إن ظن هو التقصير من قبله، فكلٌّ يؤدي الواجب الذي عليه وحسبه.

ولم تكن طريق المصَّدِّقين كلها ممهدة معبدة لهم بل كانت هنالك عثار وعقبات تقف أمامهم، تحول بينهم وبين القبائل المسلمة، كما وقع لبعضهم، ونذكر ما وقع لبسر بن سفيان حين خرج إلى قوم من بني خزاعة يقال لهم: بني كعب، ويقال: إنما سعى عليهم نعيم بن عبد الله النحام العدوي، فجاء وقد حلَّ بنواحيهم بنو جهيم من بني تميم وبنو عمرو بن جندب بن العتير بن عمرو بن تميم فهم يشربون معهم على غدير لهم بذات الأشطاط، ويقال: وجدهم على عسفان، ثم أمر بجمع مواشي خزاعة ليأخذ منها الصدقة، فحشرت خزاعة الصدقة من كل ناحية، فاستنكرت ذلك بنو تميم وقالوا: ما هذا؟ تؤخذ أموالكم منكم بالباطل وتجيشوا؟ وتقلدوا القِسِيَّ وشهروا السيوف، فقال الخزاعيون: نحن قوم نَدِين بدين الإسلام، وهذا من ديننا، قال التميميون: والله لا يصل إلى بعير منها أبداً، فلما رآهم المصدِّق هرب منهم وانطلق موليًّا، وهو يخافهم والإسلام يومئذ لم يعم العرب، فقد بقيت بقايا من العرب، وهم يخافون السيف لما فعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بمكة وحنين، فقدم المصدق على النبي -صلى الله عليه وسلم- فأخبره الخبر، قال يا رسول الله إنما كنت في ثلاثة نفر.

فوثبَتْ خزاعة على التميميين، فأخرجوهم من محالهم وقالوا: لولا قرابتكم ما وصلتم إلى بلادكم ليدخلن علينا بلاء من عداوة محمد -صلى الله عليه وسلم- وعلى أنفسكم حيث تعرضون لرسل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تردونهم عن صدقات أموالنا، فخرجوا راجعين إلى بلادهم فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (من لهؤلاء القوم الذين فعلوا ما فعلوا؟) فانتدب أول الناس عيينة بن حصن الفزاري، فقال: أنا والله لهم، أتبع آثارهم ولو بلغوا يبرين حتى آتيك بهم إن شاء الله فترى فيهم رأيك أو يسلموا، فبعثه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في خمسين فارسا من العرب، ليس فيها مهاجر واحد ولا أنصاري5.

ما يستفاد من بعوث المصَّدِّقين:

1.   اهتمام النبي -صلى الله عليه وسلم- بحديثي الإسلام، واعتبار حياتهم بعد الدخول في الإسلام قد بدأت، مما يجعله لا يغفل جانباً من الجوانب المتعلقة بالتشريع إلا بينه وأوضحه لهم دون اكتفاء بما يُظن أن أحداً يعلمه، أو أن يوكل الأمر إليه، بل بعث بالمصَّدِّقين ليعلموا القبائل، ويأخذوا منهم الصدقات، ولم يوكل الأمر إليهم لينظر هل سيدفعون من أنفسهم أو لا، وهذا يدل على أهمية المتابعة للمدعوين والأتباع.

2.   حرص النبي -صلى الله عليه وسلم- على تعاليم الدين أن تطبق، وأن تكون أكثر انتشاراً، وبمعنى آخر يريد أن ينشر أمور الدين في بيئةٍ لم تكن تعلم حتى بعض المصطلحات الشرعية.

3.   اختيار الأشخاص لم يكن إلا عن فحص وحكمة لاختيار العمال والمصَّدِّقين كلٍّ في البلد التي يناسبها، ومن هنا ينبغي على ولاة الأمور والجهات المعنية بالزكاة اختيار الأصلح والأنسب وكلما كان أعلم كان أفضل وأولى فأمور الزكاة مفتقرة إلى أهل الورع والتقوى.

4.   لا يشترط في المصَّدِّقين العدالة المطلقة فالكمال لله، والنقص كامن في بني البشر، فلو تظلمت القبائل واشتكت من المصَّدِّقين كان على الإمام أن يقدر نوع المظالم هل هي مسقطة لعدالته موجبة لعزله، أم لا.

5.   محاسبة العمال على ما جمعوه من القبائل، ففيها تصحيح لأمانتهم، وقد ورد في محاسبة بن الأتبية ما وقع من النبي -صلى الله عليه وسلم- لما وجد معه من جنس مال الصدقة، وادَّعى أنه أهدي إليه6.

6.   قال ابن بطال: اتفق العلماء أن العمال لا يستحقون على قبض الزكاة جزءاً منها معلومًا سبعاً أو ثمناً، وإنما للعامل بقدر عمالته على حسب اجتهاد الإمام7.

7.   في تقديم هؤلاء الصحابة لجمع الصدقات جواز تقديم الأدْوَن إلى الإمارة والأمانة والعمل وثَمَّ من هو أعلى منه وأفقه، لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قدم ابن اللتبية وثم من صحابته من هو أفضل منه8.

8.   قال ابن بطال رحمه الله تعالى: فيه جواز توبيخ المخطئ، فالنبي -صلى الله عليه وسلم- وبخ ابن اللتبية أمام الملأ، وكان الغرض أن ينفعه وينفع أمته بتوبيخه للعاملين على الصدقات إلى يوم الدين.

9.   النهي الشديد لمن أخذ شيئاً من الصدقات، وقد أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- بإتيانها يوم القيامة محمولة على عاتقه لها صوت ترفعه أمام الملأ.

10. الحث على إرضاء المصَّدِّقين، وبذل الزكاة لهم دون إسخاط أو مشقة.

11. في شكوى الناس من المصَّدِّقين قال العلامة المناوي: لا ريب أن المصطفى -صلى الله عليه وسلم- لم يستعمل ظالما قط بل كانت سعاته على غاية من تحري العدل، كيف ومنهم علي وعمر ومعاذ؟ ومعاذَ الله أن يولي المصطفى -صلى الله عليه وسلم- ظالما، فالمعنى أن النفس مجبولة على حب المال فقد تبغضونهم وتزعمون أنهم ظالمون، وليسوا بذلك9.

هذا ما تيسر جمعه واستنباطه من هذا الحدث التاريخي، وفيه فوائد أخرى تتضح لمن تأملها، وفق الله الجميع لما يحب ويرضى.

ونصلي ونسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.


1 عيون الأثر لابن سيد الناس: (2/234) زاد المعاد لابن القيم: (3/444)، وفقه السيرة للغزالي: (429).

2 صحيح البخاري: (2407) وصحيح مسلم: (3413) واللفظ للبخاري.

3 صحيح مسلم: (1651).

4 شرح النووي على مسلم: (3/427).

5 مغازي الواقدي: (1/974).

6 فتح الباري لابن حجر: (5/129).

7 شرح ابن بطال: (6/105).

8 المرجع السابق نفس الموضع.

9 فيض القدير: (1/608) بتصرف.