تابع من تصح صلاته ممن لا تصح
الحمد لله وحده، ثم الصلاة والسلام على من لا نبي بعده أما بعد:
فقد تكلمنا في المبحث المتقدم عمن تصح صلاته ومن لا تصح صلاته، وبقي معنا في هذا المبحث أصنافا لم يتسع المجال لذكرهم في المبحث المتقدم، وسنتكلم عن هذه الأصناف واحدا بعد الآخر؛ حتى نكون قد الممنا بالموضوع من جميع جوانبه.
أ- إمامة اللحان: اللحَن: "بفتح الحاء" هو الخطأ في الإعراب، وهو تغيير الحركات، سواء كان تغييراً صرفياً أو نحوياً..1، واللحن على نوعين؛ لحنٌ يغير المعنى، وهو اللحن الجلي، ولحنٌ لا يغير المعنى، وهو اللحن الخفي، وهناك تقسيم آخر معتبر في القراءة في الصلاة، وهو اللحن بفاتحة الكتاب، والقسم الآخر اللحن فيما سوى فاتحة الكتاب، فإن كان الإمام يلحن في فاتحة الكتاب لحناً يغير المعنى فلا تصح إمامته؛ إلا بمثله كقول:"أَهدنا الصراط المستقيم" بفتح همزة أهدنا، فلا شك أن هذا لحناً يغير المعنى، فبالفتح، يكون معنى أَهدنا: من إهداء الهدية، وبهمزة الوصل؛ يكون معنى أهدنا: من الهداية وهي الدلالة والتوفيق، وكذا لو قال:"إياكِ نعبد" بكسر الكاف، أو قال:"صراط الذين أنعمتُ" بضم التاء من أنعمتَ؛ فإن هذا كله لحنٌ شديد يغير المعنى ويخل بقراءة الفاتحة ويفسد الصلاة، وأما إن كان الإمام يلحن في فاتحة الكتاب لحناً لا يغير المعنى؛ فإمامته صحيحة؛ كقول:"إياكَ نعبَد"بفتح الباء من نعبُد، أو قول:"إياك نستعينَ" بفتح النون من نستعينُ،فهذا وإن كان لحنٌ؛ إلا أنه لا يغير المعنى، إلا أنه لا يمنع صحة إمامة ذلك القارئ، وليعلم أنه لا يجوز قراءة الفاتحة بلحن يغير المعنى أو لا يغيره، وإنما الكلام هنا على صحة إمامة من يلحن فيها من عدمه2.
وأما إن كان الإمام يلحن كثيراً في غير فاتحة الكتاب؛ فإمامته صحيحة مع الكراهة، كما ذكر ذلك صاحب "المغني" فقال:" وتكره إمامة اللحان الذي لا يحيل المعنى، نص عليه أحمد – رحمه الله -، وتصح صلاته بمن لا يلحن؛ لأنه أتى بفرض القراءة، فإن أحال المعنى في غير الفاتحة، لم يمنع صحة صلاته، ولا الائتمام به، إلا أن يتعمده، فتبطل صلاتهما"3.
تتمة: لا تصح إمامة من يبدل حرفاً بآخر إلا بمثله،كالألثغ، كأن يبدل الراء باللام فيقول:"الحمد لله لب العالمين"، وتصح إمامة"الفأفاء" و"التمتام" مع الكراهة، الفأفاء: هو الذي يكرر حرف الفاء، والتمتام: هوا لذي يكرر حرف التاء .
ب- إمامة من به سلس البول: سلس البول: هو عدم القدرة على إمساك البول، فهو يخرج بغير اختيار من المصاب به، فهل تصح إمامته؟ أفتت "اللجنة الدائمة" بأن من به سلس بول أو نحوه صلاته في نفسه صحيحة لقوله – تعالى- :{ فاتقوا الله ما استطعتم} وقوله:{ لا يكلف الله نفساً إلا وسعها }، وقول: النبي – صلى الله عليه وسلم – ((إذا أمرتكم بشيء فأتو منه ما استطعتم))4، وفي صحة صلاة من ائتم به من الأصحاء خلاف، والراجح: الصحة، لكن الأولى أن يؤم الناس غيره من الأصحاء خروجاً من الخلاف"5.
ج- إمامة الفاسق: وهو كل من خرج عن طاعة الله بفعل كبيرة دون الكفر، أوبا لإصرار على صغيرة6، والمتعين على الناس أنهم لا يمكنون الفساق من إمامتهم بالصلاة، لأن الصلاة خير قربه، وأشرف عبادة بعد توحيد الله، فوجب التحري فيمن يقيم لهم الصلاة.
أما صحة الصلاة خلف الفاسق ففيه قولين: لأهل العلم، الراجح منهما صحة الصلاة خلف الفاسق، لدليل شرعي، وفعل جماعة من الصحابة. أما الدليل: فعن أبي ذر – رضي الله عنه – قال: قال: لي رسول الله – صلى الله عليه وسلم –((كيف أنت إذا كانت عليك أمراء يؤخرون الصلاة عن وقتها، أو يميتون الصلاة عن وقتها؟)) قال قلت: فما تأمرني؟ قال: ((صل الصلاة لوقتها، فإن أدركتها معهم فصل، فإنها لك نافلة))7. وعن أبي هريرة – رضي الله عنه – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: – أي: في أئمة الجور- ((يصلون لكم، فإن أصابوا فلكم، وإن أخطئوا فلكم وعليهم))8.
وأما فعل الصحابة: فقد كان ابن عمر – رضي الله عنهما – يصلي خلف الحجاج، وصلى بعض الصحابة خلف الوليد بن عقبة وقد شرب الخمر.
وقد أفتت اللجنة الدائمة بهذا عندما سئلت عن حكم الصلاة خلفه –أي خلف إمام يشرب الدخان- فأجابت"إن كان يترتب على ترك الصلاة وراءه فوات صلاة الجمعة أو الجماعة، أو حدوث فتنة وجبت الصلاة وراءه؛ تقديماً لأخف الضررين على أشدهما، وإن كان ترك بعض الناس للصلاة خلفه لا يخشى منه فوات جمعة ولا جماعة ولا ضرر وإنما يترتب على عدم الصلاة خلفه زجره وكفه عن شرب الدخان؛ وجب ترك الصلاة خلفه؛ ردعاً له، وحملاً له على ترك ما حرم الله عليه، وذلك من باب إنكار المنكر، وإن كان لا يترتب على ترك الصلاة خلفه مضرة ولا فوات جمعة ولا جماعة ولا يزدجر بترك الصلاة وراءه فالأفضل أن يتحرى الصلاة وراء من ليس مثله في الفسق والمعصية، وذلك أتم لصلاته وأحفظ لدينه"9. ومن يتأمل فتوى اللجنة الدائمة يتبين لك عظيم فقه الصحابة -رضي الله عنهم – في الصلاة خلف أئمة الجور.
د- إمامة المبتدع: والبدعة إما أن تكون مكفرة أو غير مكفرة، فالبدعة المكفرة: كمن يستغيث بغير الله، أو يذبح لغير الله، أو يدعو غير الله. والبدعة غير المكفرة: كالتلفظ بالنية، ونحوها.
فلا يصلى خلف إمام مبتدع يكفر ببدعته؛ لأنه كافر، ومن صلى فعليه إعادة الصلاة، ويُتقى من لا يكفر ببدعته، إلا أن يُلجأ لذلك، فإن صلى خلف من لا يكفر ببدعته فصلاته صحيحة؛ لما جاء عن عبيد الله بن عدي بن خيار أنه دخل على عثمان – رضي الله عنه – وهو محصورٌ فقال:" إنك إمام عامة، ونزل بك ما ترى، ويُصلي لنا إمام فتنة ونتحرج" فقال:"الصلاة أحسن ما يعمل الناس، فإذا أحسن الناس فأحسن معهم، وإذا أساءوا فاجتنب إساءتهم"10.
قال:ابن رجب- رحمه الله –"وفرقت طائفةٌ بين البدع المغلظة وغيرها" وقال: أبو عبيد – فيمن صلى خلف الجهمي أو الرافضي-"يعيدُ، ومن صلى خلف قدري أو مرجئ أو خارجيّ، لا آمره بالإعادة" وكذلك الإمام أحمد – رحمه الله – قال:- في الصلاة خلف الجهمية-"إنها تعاد" والجهمي عنده من يقول بخلق القرآن؛ فهو كافر أو يقف ولا يقول مخلوق ولا غير مخلوق، ونص على أنه تعاد الصلاة خلفه…! وقال: – في الخوارج إذا تغلبوا على بلد-"صل خلفهم" وقال: مرة"يصلي خلفهم الجمعة، صلى ابن عمر – رضي الله عنه – خلف نجدة الحر وري" وقال: في الرافضي الذي يتناول الصحابة"لا يُصلى خلفه" وقال: فيمن يقدم علياً على أبي بكر وعمر – رضي الله عنهما –"إن كان جاهلاً لا علم له فصلّى خلفه، فأرجو أن لا يكون به بأسٌ، وإن كان يتخذه ديناً فلا تصلي خلفه" . وقال: في المرجئ – وهو من لا يُدخل الأعمال في الإيمان-"إن كان داعياً فلا تصلي خلفه" وقال:- في الصلاة خلف أهل الأهواء –"إذا كان داعية أو يخاصم في بدعته فلا يُصلى خلفه، وإلا فلا بأس.
وهذا محمولٌ على البدع التي لا يُكفّر صاحبها، فأما ما يكفر صاحبها؛ فتعاد الصلاة خلفه. كما تقدم"اه11.
وبهذا نكون قد استوفينا أصناف الأئمة الذين تصح إمامتهم والذين لا تصح والله أعلم.
اللهم اغفر لنا وارحمنا، ووفقنا لكل خير.
والحمد لله رب العالمين.
1 . انظر : لسان العرب (13/381) مادة:لحن . و الشرح الممتع لابن عثيمين (4/247)
2 .انظر: الشرح الممتع (4/248-249)
3 .(4/32)
4– صحيح مسلم رقم (1337)
5 . فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (7/392-393)
6 .الشرح الممتع لابن عثيمين (4/216)
7 .رواه مسلم رقم (648)
8 .رواه البخاري رقم (694)
9 .فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (7/372)
10 .رواه البخاري رقم (695)
11 .فتح الباري لابن رجب الحنبلي . مكتبة الغرباء الأثرية (6/190-191)