المسؤولية الأسرية
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان وسلم تسليما.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}(سورة آل عمران:102).
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً}(سورة النساء:1).
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً}(سورة الأحزاب:70- 71).
أما بعد :
فإن خير الحديث كلام الله – عز وجل -، وخير الهدي هدي محمد – صلى الله عليه وسلم- وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
أيها المسلمون عباد الله: عليكم بتقوى الله تبارك وتعالى في السر والعلن وأن تقدموا لأنفسكم أعمالاً صالحة لتسعدوا في يوم معادكم إلى ربكم جل وعلا فالتقوى هي وصية الله تبارك وتعالى للأولين والآخرين قال رب العالمين سبحانه:{وَللّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللّهَ وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ لِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا}(سورة النساء:131).
عباد الله معاشر المؤمنين: فمنذ أن خلق الله – تبارك وتعالى – الإنسان وأنزله على هذه الأرض حمَّله حملاً ثقيلاً من المهام والمسئوليات حمله أمانة عظيمة قال الله تبارك وتعالى:{إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا}(سورة الأحزاب:72).، إن حمل الإنسان للأمانة يعني مسئوليته الكاملة عنها، واستعداده لتحمل نتائجها، قال العلامة بن سعدي رحمه الله تعالى: " يأمر تعالى عباده المؤمنين أن يؤدوا ما ائتمنهم اللّه عليه من أوامره ونواهيه، فإن الأمانة قد عرضها اللّه على السماوات والأرض والجبال، {فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} فمن أدى الأمانة استحق من اللّه الثواب الجزيل، ومن لم يؤدها بل خانها استحق العقاب الوبيل، وصار خائنا للّه وللرسول ولأمانته، منقصا لنفسه بكونه اتصفت نفسه بأخس الصفات، وأقبح الشيات، وهي الخيانة مفوتا لها أكمل الصفات وأتمها، وهي الأمانة.
ولما كان العبد ممتحنا بأمواله وأولاده، فربما حمله محبة ذلك على تقديم هوى نفسه على أداء أمانته، أخبر اللّه تعالى أن الأموال والأولاد فتنة يبتلي اللّه بهما عباده، وأنها عارية ستؤدى لمن أعطاها، وترد لمن استودعها {وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ}(سورة الأنفال:28).، فإن كان لكم عقل ورَأْيٌ، فآثروا فضله العظيم على لذة صغيرة فانية مضمحلة، فالعاقل يوازن بين الأشياء، ويؤثر أولاها بالإيثار، وأحقها بالتقديم"1، وقال: " جميع ما أوجبه الله على عبده أمانة، على العبد حفظها بالقيام التام بها، وكذلك يدخل في ذلك أمانات الآدميين، كأمانات الأموال والأسرار ونحوهما، فعلى العبد مراعاة الأمرين، وأداء الأمانتين {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا}"2، وقال: " يعظم تعالى شأن الأمانة، التي ائتمن اللّه عليها المكلفين، التي هي امتثال الأوامر، واجتناب المحارم، في حال السر والخفية، كحال العلانية، وأنه – تعالى – عرضها على المخلوقات العظيمة، السماوات والأرض والجبال، عرض تخيير لا تحتيم، وأنك إن قمت بها وأدَّيتِهَا على وجهها، فلك الثواب، وإن لم تقومي بها، ولم تؤديها فعليك العقاب.
{فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا} أي: خوفًا أن لا يقمن بما حُمِّلْنَ، لا عصيانًا لربهن، ولا زهدًا في ثوابه، وعرضها اللّه على الإنسان، على ذلك الشرط المذكور، فقبلها، وحملها مع ظلمه وجهله، وحمل هذا الحمل الثقيل"3.
فالإنسان في هذه الحياة الدنيا أيها المسلمون يحمل حملاً ثقيلاً من التكاليف، والمهام، والمسئوليات، التي يجب عليه أدائها، والقيام بها على أحسن وجه، ومعلوم أن الشريعة تعد كل ما يجب على العبد أداؤه تجاه خالقه تبارك وتعالى، أو ما يجب عليه أداؤه تجاه نفسه، أو ما يجب عليه أداؤه تجاه الآخرين: مسؤولية.
والمسئولية ليست على درجة واحدة بل تختلف باختلاف أحوال الناس، ولكن ثمة قدر مشترك من المسئولية يتحمله الجميع بمختلف أحوالهم، فلا يوجد إنسان غير مسئول في هذه الدنيا، فكلنا مسئولون، وتتسع دائرة المسئولية وتضيق من شخص لآخر، وأقلها مسئولية الإنسان عن نفسه، وأوسعها مسئولية ولي الأمر عن رعيته ومن تحت سلطته.
وما بين ذلك أنواع كثيرة من المسئولية، وقد بين ذلك الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم كما هو في الصحيحين من حديث عن ابن عمر – رضي الله عنهما -: عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه قال ((ألا كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته فالأمير الذي على الناس راع وهو مسئول عن رعيته والرجل راع على أهل بيته وهو مسئول عنهم والمرأة راعية على بيت بعلها وولده وهي مسئولة عنهم والعبد راع على مال سيده وهو مسئول عنه ألا فكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته)) رواه البخاري برقم(853)ورقم(2416)؛و مسلم برقم(1829).
أيها المسلمون عباد الله: تعتبر الأسرة الخلية الحية فى كيان المجتمع البشرى الذي يحيط بها تيارات مختلفة من فساد وانحلال وانهيار وهذا يهدد المجتمع كله. والأسرة تتكون من الأب والأم والأولاد أو الزوج والزوجة فقط، وكل فرد في الأسرة له دور فعال في كيان الأسرة حيث يؤثر فيها ويتأثر بها، والأبوة اليقظة والقلب المفتوح حماية للأبناء وبناء لمستقبلهم فإحساس الأبناء بالحب يحميهم من أي انفعال عاطفي طائش ربما يعرضهم للهلاك، وفي حديث ابن عمر – رضي الله عنهما – المتقدم يبين لنا أن لكل فرد له مسؤولية في أي موضع كان، وسيكون الكلام على المسؤولية الأسرية في هذا المقام، وأول واجب على الآباء تجاه أبنائهم تربيتهم على العقيدة الإسلامية السلفية النقية من الشوائب في صغرهم فإن حاجتنا إلى العقيدة فوق كل حاجة، وضرورتنا إليها فوق كل ضرورة، لأنه لا سعادة للقلوب، ولا نعيم، ولا سرور إلا بأن تعبد ربها – تبارك وتعالى – وفاطرها، ولقد أرسل الله – تبارك وتعالى – رسله جميعاً بالدعوة إلى التوحيد قال الله – تبارك وتعالى -: {ولَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ واجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}(سورة النحل:36).، ويقرر الله – تبارك وتعالى – أيضاً هذه الحقيقة ويؤكدها، ويكررها في قصة كل رسول على وجه الانفراد فيقول: {ولَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إلَهٍ غَيْرُهُ}(سورة المؤمنون:23).، ويقول: {وإلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إلَهٍ غَيْرُهُ}(سورة الأعراف:65).، وهي الكلمة نفسها التي تكررت على لسان صالح وشعيب وموسى وعيسى- عليهم الصلاة والسلام- ، حتى أصبحت قاعدة عامة قال الله – تبارك وتعالى -: {ومَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إلاَّ نُوحِي إلَيْهِ أَنَّهُ لا إلَهَ إلاَّ أَنَا فَاعْبدُونِ}(سورة الأنبياء:25).، فالتوحيد مفتاح دعوة الرسل – عليهم الصلاة والسلام -، وهو أول ما يدخل به المرء في الإسلام، وأخر ما يخرج به من الدنيا، فهو أول واجب وآخر واجب، ولقد أمضى نبينا محمد – صلى الله عليه وسلم – حياته في الدعوة إلى هذه العقيدة وجاهد أعدائه من أجلها عن ابن عمر – رضي الله عنهما – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله)) رواه البخاري برقم(25)؛ ومسلم برقم(21).
عباد الله، إن مما يحزن له القلب ويتفتت له الفؤاد أن ترى كثيرًا من الناس قد أهملوا تربية أولادهم، واستهانوا بها وأضاعوها، فلا حفظوا أولادهم ولا ربوهم على البر والتقوى، بل وللأسف الشديد إن كثيرًا من الآباء ـ أصلح الله أحوالهم ـ يكونون سببًا لشقاء أولادهم وفسادهم، قال الإمام ابن القيم – رحمه الله -: "وكم ممن أشقى ولده وفلذة كبده في الدنيا والآخرة بإهماله وترك تأديبه وإعانته له على شهواته ويزعم أنه يكرمه وقد أهانه وأنه يرحمه وقد ظلمه وحرمه ففاته انتفاعه بولده وفوت عليه حظه في الدنيا والآخرة وإذا اعتبرت الفساد في الأولاد رأيت عامته من قبل الآباء"4، وقال – رحمه الله تعالى -: "قال بعض أهل العلم: " إن الله سبحانه يسأل الوالد عن ولده يوم القيامة قبل أن يسأل الولد عن والده فانه كما أن للأب على أبنه حقا فللابن على أبيه حق فكما قال تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا}(سورة العنكبوت:8).، قال تعالى: {قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ}(سورة التحريم:6).، قال علي بن أبي طالب علموهم وأدبوهم، وقال تعالى: {وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى}(سورة النساء:36).، وقال النبي – صلى الله عليه وسلم -: ((اعدلوا بين أولادكم)) رواه البخاري برقم(2447) من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما، فوصية الله للآباء بأولادهم سابقة على وصية الأولاد بآبائهم قال الله تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ}(سورة الإسراء:31).، فمن أهمل تعليم ولده ما ينفعه وتركه سدى فقد أساء إليه غاية الإساءة وأكثر الأولاد إنما جاء فسادهم من قبل الآباء وإهمالهم لهم وترك تعليمهم فرائض الدين وسننه فأضاعوهم صغارا فلم ينتفعوا بأنفسهم ولم ينفعوا آباءهم كبارا كما عاتب بعضهم ولده على العقوق فقال يا أبت إنك عققتني صغيرا فعققتك كبيرا وأضعتني وليدا فأضعتك شيخا"5، بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة ونفعني وإياكم بما فيهما من الآيات والحكمة قلت ما سمعتم واستغفر الله فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، الملك الحق المبين القائل في محكم التنزيل وأحسن القيل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}(سورة التحريم:6).، والصلاة والسلام على البشير النذير والسراج المنير محمد بن عبد الله الصادق الأمين صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليما كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها المسلمون عباد الله: فالأولاد أمانة عند الآباء والأمهات والأولياء، في دينهم وتزكية أخلاقهم وتربيتهم على النهج السليم، قال الله – تبارك وتعالى -:{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا ٱلنَّاسُ وَٱلْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَـئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَّ يَعْصُونَ ٱللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}(سورة التحريم:6).، أي: اجعلوا بينكم وبين النار وقايةً بطاعة الله – تبارك وتعالى – وترك معصيته، عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: ((مروا أولادكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر، وفرقوا بينهم في المضاجع))6، فالطفل أيها المسلمون وإن لم يكن مكلَّفاً يُؤمر بالصلاة لهذه السنن؛ لسبع سنين لحديث سيد المرسلين – صلى الله عليه وسلم -، ليكون تمريناً له على العبادة، لكي يبلغ وهو مستمرّ على العبادة، آلفٌ لها، معتاد عليها، فالمكلف هم الآباء والأولياء. ومجانبة المعصية كذلك مما يُعوَّد عليه الطفل، فالمكلَّف بهذا الأمر هو الولي، فإذا لم يأمره في هذه السنن كان الإثم على الولي، وكذلك الصوم ينبغي أن يُعوَّد عليه قبل البلوغ.
أيها المسلمون عباد الله: إن العناية بالدين والخلق أهمّ واجب على الآباء والأمهات تجاه الأبناء؛ لأن الصغير إذا نشأ محافظاً على دينه شبّ مراعياً للحقوق كلها، قائماً بواجبات والديه وأقربائه ومجتمعه، وإذا ضيّع حقوق الله فهو لحقوق العباد أضيع. وتعوُّد الخلق الحسن يكون ملكةً راسخة في النفس، لا تزول بالمؤثرات، كما أن تعوُّد الصفات المذمومة يجرّ إلى كل هوان وشر وخسران ووبال؛ لأن من شبَّ على شيء شاب عليه، ومن شاب على شيء مات عليه، ومن مات على شيء بُعث عليه بإذن الله.
فالقيام بالجانب الديني تجاه الأولاد أعظمُ واجب شرعي في حقهم، ولذلك كانت وصية الله لعباده أولا وآخراً بالتمسك بالدين القومي، قال الله تعالى: {يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ}(سورة آل عمران:102).، وكانت هذه الوصية وصية الأنبياء والصالحين بالإسلام، قال الله – تبارك وتعالى -:{وَوَصَّىٰ بِهَا إِبْرٰهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَـٰبَنِىَّ إِنَّ ٱللَّهَ ٱصْطَفَىٰ لَكُمُ ٱلدّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ * أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ ٱلْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِى قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَـٰهَكَ وَإِلَـٰهَ آبَائِكَ إِبْرٰهِيمَ وَإِسْمَـٰعِيلَ وَإِسْحَـٰقَ إِلَـٰهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}(سورة البقرة:132- 133). وقال الله تعالى عن لقمان: {يٰبُنَىَّ أَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ وَأْمُرْ بِٱلْمَعْرُوفِ وَٱنْهَ عَنِ ٱلْمُنْكَرِ وَٱصْبِرْ عَلَىٰ مَا أَصَابَكَ}(سورة لقمان:17).، وعن ابن عباس- رضي الله عنهما- قال: قال النبي- عليه الصلاة والسلام-: ((يا غلام إني أعلمك كلمات احفظ الله يحفظك احفظ الله تجده تجاهك إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك رفعت الأقلام وجفت الصحف))7، والآباء والأمهات والأولياء القدوةُ الحسنة متأكِّدةٌ عليهم لتنفع النصائح ويجدي التوجيه، فإن القدوة من الأبوين أعظم مؤثر في سلوك الطفل، وتثمر ثمرات حسنة أو سيئة، فليتق الله المسلم في الأمانات التي طوّق الله بها عنقَه، فإن الله تعالى يقول عن المؤمنين:{وَٱلَّذِينَ هُمْ لأَِمَـٰنَـٰتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رٰعُونَ}(سورة المعارج:32).، وتعليم الأولاد أمانة الآباء والأمهات والأولياء، وأوجب علم هو العلم الشرعي الذي لا يُعذر أحد بجهله، ثم يُوجَّه بعد ذلك إلى العلوم التي تناسب مواهبه وقدراته وميولَه، فإن كلاً ميسَّر لما خُلق له، ويُرشَد الناشئ إلى ما فيه الأصلح له في دنياه وآخرته.
ومما أُمر به الآباء والأمهات والأولياء الحيلولةُ بين الأولاد والمؤثرات الضارة، بإبعادهم عن جلساء السوء وقرناء الشر، فإن قرين السوء الهلاك المحقق والعار الشنيع، وأن يحيطهم بقرناء الخير والجو التربوي النظيف، وقد قال النبي الكريم – عليه أفضل الصلاة والسلام-: ((مثل الجليس الصالح كمثل حامل المسك، إن لم يعطك منه شيئاً أصابك من ريحه، ومثل جليس السوء كنافخ الكير، إن لم يحرق ثيابك أصابتك منه رائحة كريهة))8، وأن يجنبهم الكتب الضارة ذات المبادئ الهدامة والمجلات الفاسدة والأفلام الخليعة، فإن هذه المؤثرات تفسد القلوب، وتهدم الأخلاق، وتجعل الشبان أرِقَّاء الشهوات، منحرفي الأخلاق والصفات، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وأن يحاط الأولاد بالرعاية والتوجيه ولو كانوا كباراً، فإن هذا دأب الصالحين، عباد الله فعليكم بمراقبة الله تبارك وتعالى في تربية أبنائكم ومن تعولون وعلموا أنهم أمانة في أعناقكم وأنكم ستسألون عنهم، في يوم لا ينفع فيه الندم، ولا ينفع فيه مال ولا بنون.
عباد الله: هذا وصلوا وسلموا على سيد الأولين والآخرين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بالصلاة والسلام عليه في قوله – تبارك وتعالى -: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}(سورة الأحزاب:56).، وقد قال – عليه الصلاة والسلام -: ((من صلى عليَّ صلاة صلى الله عليه بها عشراً)) رواه مسلم برقم(384).، فاللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد – صلى الله عليه وسلم -، اللهم أعنا على تربية الأبناء والبنات، اللهم أعنا على تربية من نعول، وجعلهم صلحا مصلحين يا أرحم الراحمين، اللهم غفر لنا ورحمنا، وتجاوز عنا يا أرحم الرحمين، اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل ونعوذ بك اللهم من النار وما قرب إليها من قول أو عمل، اللهم إن أجسادنا ضعيفة لا تقوى على النار وأنت الغفور الرحيم، اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يرحمنا برحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم إنا نسألك رضاك والجنة ونعوذ بك من سخطك والنار يا عزيز يا غفار، {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}(سورة الأعراف:23).، {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}(سورة البقرة:201). والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
1 تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان (319), للعلامة عبد الرحمن بن ناصر بن السعدي, تحقق: عبد الرحمن بن معلا اللويحق, مؤسسة الرسالة, ط1, سنة النشر: 1420هـ -2000م.
2 تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان (547).
3 تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان (673).
4 تحفة المودود بأحكام المولود(242), للإمام محمد بن أبي بكر أيوب الزرعي أبو عبد الله, تحقيق: عبد القادر الأرناؤوط, مكتبة دار البيان – دمشق
ط1، سنة النشر: 1391 – 1971م.
5 تحفة المودود(229).
6 رواه وأبو داود برقم(495 – 496) واللفظ له, وأحمد في المسند برقم(6467)وقال أحمد شاكر: إسناده صحيح؛ و صححه الألباني في تحقيق حجاب المرأة ولباسها في الصلاة (22), المؤلف: شيخ الإسلام ابن تيمية, حققه وقدم له وخرج أحاديثه وعلق عليه محمد ناصر الدين الألباني, المكتب الإسلامي – بيروت, ط5, سنة النشر: 1403هـ؛ إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل رقم(247), للإمام محمد ناصر الدين الألباني, المكتب الإسلامي – بيروت, ط2, سنة النشر: 1405هـ – 1985م.
7 رواه الترمذي برقم(2516) وقال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح, تحقيق : أحمد محمد شاكر وآخرون, دار إحياء التراث العربي – بيروت؛ و أحمد في المسند برقم(2669)؛ وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي برقم(2516)؛ وفي صحيح الجامع برقم(7957)؛.
8 رواه أبو داود برقم(4829), تحقيق : محمد محيي الدين عبد الحميد, دار الفكر؛ وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم(5839)؛ وفي صحيح الجامع الصغير برقم(10778).