خروج الروح
الحمد لله الذي كتب الفناء على خلقه ولم يستثنِ أحداً، وقهر بقوته الخلائق فلم يخرج عن ذلك أحدٌ أبداً، فهو المتفرد بالجلال والكمال والبقاء أبداً وسرمداً، وصلى الله على نبينا محمد البشير النذير، والسراج المنير، الذي عم نور دعوته الأرض كلها، وبصرنا بأنفسنا فلم يكن للناس بعد ذلك على الله حجة، وعلى آله وصحبه أولي البيان والمحجة، أما بعد:
فما أكبر الفرق بين خروج الإنسان إلى الحياة، وبين خروجه من الحياة.. سبحان الله.. ولد الإنسان والناس يضحكون، فرحة بقدومه عليهم.. وخرج وهم يبكون حزناً وغماً لفراقه من بين أيديهم.. وهذا التفاوت العجيب والتباين الرهيب، قلَّ ما نظر الناس فيه وفكروا، وأمعنوا النظر في ذلك واعتبروا، فالناس بغفلتهم في هذه الحياة نيام، فإذا ماتوا استيقظوا:
ولدتك أمك يا ابن آدم باكــياً والناس حولك يضحكون سروراً
فاعمل لنفسك أن تكون إذا بكوا في يوم موتك ضاحكاً مسروراً
خروج الإنسان من الحياة يكون بانفصال الروح العلوية عن الجسد السفلي، وإذا خرجت الروح من الجسد بقي الإنسان جثة هامدة.. وجيفة قذرة، حتى قيل: إنه لو رميت جثث ابن آدم على الأرض دون دفن لما استطاع أحد العيش على هذا الكوكب العظيم، لهذا كان من حكمة الله وعلمه بالأمور أن شرع الدفن للميت؛ حتى لا تنفذ تلك الرائحة إلى بني جنسه فلا يطيقون البقاء!! جيفة لا كالجيف، بل أشد نتناً من أي جيفة..!! ومع هذا تجد غروراً وتكبراً، وشطحات وبعداً عن الهدف الحقيقي الذي وجد له الإنسان..
يا سبحان الله.. بمجرد أن تنفصل تلك الروح العجيبة الذي لا يعلم أحدٌ أمرها إلا الله يصبح: الزعيم.. القائد.. الملك.. الذي كان يحمي بالجنود والحرس.. المعظم.. صاحب الجلالة والفخامة والسمو!! الغني.. الفقير… كل الخلق.. جثة لا قيمة لها، بل لا يطيق حتى أقرب الناس إليه البقاء معه.. بل أفضل واحد يقول: خذوه إلى القبر وادفنوه!!{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} (85) سورة الإسراء.
خروج الروح عن الجسد أمر هائل، لا يسعها ولا يقدر قدرها قول قائل، قد شاب من هولها الأواخر والأوائل.. فيا من أصبحت غارقاً في حَمْأة الرذائل.. وأيقنت بالفناء فما عملت لتلك الغوائل.. ويحك! أين أنت من مصرع القوم..!! أما تراهم تركوك وافترقوا.. وأبكمت أفواههم فما نطقوا.. ولو أذن لهم في الكلام لما كان كلامهم إلا تمني عمل الصالحات مهما بقوا..{وَلَوْ تَرَىَ إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ فَقَالُواْ يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} (27) سورة الأنعام
{حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ* لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ}(99-100) سورة المؤمنون.
وبخروج الروح تحصل السكرات، والآلام والكربات، ( فلو لم يكن بين يدي العبد المسكين كرب ولا هول ولا عذاب سوى سكرات الموت بمجردها، لكان جديراً بأن يتنغص عليه عيشه، ويتكدر عليه سروره، ويفارق سهوه وغفلته، فالموت كما قيل: (كرب بيد سواك لا تدري متى يغشاك)، والعجيب أن الإنسان لو كان في أعظم اللذات، وأطيب مجالس اللهو، فانتظر أن يدخل عليه جندي فيضربه خمس خشبات لتكدرت عليه لذته، وفسد عليه عيشه، وهو في كل نفس بصدد أن يدخل عليه ملك الموت بسكرات النزع، وسكرات النزع كما ذكر في كلام السلف: أشد من ضربٍ بالسيف ونشرٍ بالمناشير، وقرضٍ بالمقاريض، لأن قطع البدن بالسيف إنما يؤلم لتعلقه بالروح، فكيف إذا كان المتناول المباشر نفس الروح!!)1 تخرج الروح من الجسد شيئاً فشيئاً… فأول ما تخرج من الأطراف.. الرجلين واليدين، فيموت مواضع خروجها، وتذهب حرارة الحياة ليصبح الجسم بارداً.. ولكل عضوٍ سكرة بعد سكرة، وكربة بعد كربة..{وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ} (19) سورة ق، حتى تصل الروح إلى الحلقوم:{كَلَّا إِذَا بَلَغَتْ التَّرَاقِيَ* وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ* وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ} (26- 28) سورة القيامة{فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ* وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ {(83-84 ) سورة الواقعة. فعند وصولها الحلقوم ينقطع نظره عن الدنيا وساكنيها، ويغلق دونه باب التوبة، وعند ذلك يقول الله-تعالى-:{وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} (18) سورة النساء, قال مجاهد: إذا عاينت الرسل.. أي إذا رأت الملائكة فلا توبة عندئذ، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (( إن الله تعالى يقبل توبة العبد ما لم يغرغر )). رواه الترمذي وأحمد وابن ماجه وحسنه الألباني.
وإذا خرجت الروح من الجسد فهي على حالين: إما أن يكون صاحبها من أهل السعادة، وإما من أهل الشقاوة.. فإن كان من أهل السعادة-{الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ}- صعدت الملائكة بها إلى السماء، وإن كانت من أهل الشقاوة- الذين كفروا بالله ولم يؤدوا حقوقه- قيل لحامليها: اكتبوا كتابه في سجين في الأرض السفلى، ولا يؤذن لها بصعود السموات، ثم تعاد أرواح كل منهما إلى جسده ليتم الحساب في حياة البرزخ – حياة القبر إلى يوم القيامة-.
وقد ورد في قبض الروح وخروجها من الجسم حديث طويل عن النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي رواه البراء بن عازب رضي الله عنه قال: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في جنازة رجل من الأنصار ، فانتهينا إلى القبر ، ولما يُلْحَد ، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وجلسنا حوله كأن على رؤوسنا الطير ، وفي يده عودٌ يِنكُت به في الأرض ، فرفع رأسه فقال: (( استعيذوا بالله من عذاب القبر )) مرتين أو ثلاثاً ، ثم قال: (( إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا ، وإقبال من الآخرة ، نزل إليه ملائكة من السماء ، بيض الوجوه ، كأن وجوههم الشمس ، معهم كفن من أكفان الجنة، وحنوط من حنوط الجنة ، حتى يجلسوا منه مدَّ البصر ، ثم يجيء ملك الموت عليه السلام، حتى يجلس عند رأسه ، فيقول : أيتها النفس الطيبة ! اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان ، قال: فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من السقاء فيأخذها، فإذا أخذها لم يَدَعوها في يده طَرْفة عين حتى يأخذوها، فيجعلوها في ذلك الكفن وفي ذلك الحنوط، ويخرج منها كأطيب نفحة مسك وجدت على وجه الأرض)) قال: ((فيصعدون بها ، فلا يمرون على ملأ من الملائكة إلا قالوا : ما هذا الروح الطيب ؟! فيقولون : فلان بن فلان – بأحسن أسمائه التي كانوا يسمونه بها في الدنيا – حتى ينتهوا بها إلى السماء الدنيا، فيستفتحون له، فيفتح لهم، فيشَّيعه من كل سماء مقرَّبوها إلى السماء التي تليها، حتى يُنتهى به إلى السماء السابعة، فيقول الله -عز وجل- : اكتبوا كتاب عبدي في علّيين، وأعيدوه إلى الأرض؛ فإني منها خلقتهم، وفيها أعيدهم، ومنها أخرجهم تارة أخرى)) قال: (( فتُعاد روحه في جسده، فيأتيه ملَكان، فيجلسانه، فيقولان له: من ربك ؟ فيقول: ربي الله. فيقولان له: ما دينك ؟ فيقول: ديني الإسلام. فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بُعث فيكم ؟ فيقول: هو رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فيقولان له: وما علمك ؟ فيقول: قرأت كتاب الله فآمنت به وصدَّقت . فينادي منادٍ من السماء: أنْ صدق عبدي، فأفَرْشوه من الجنة، وألبسوه من الجنة، وافتحوا له باباً إلى الجنة )) قال: (( فيأتيه من رَوْحها وطيبها، فَيُفْسَحُ لَهُ في قبره مد بصره، ويأتيه رجل حسن ، حسن الثياب، طيب ، فيقول: أبشر بالذي يسرّك، هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول له : من أنت ؟ فوجهك الوجه يجيء بالخير، فيقول : أنا عملك الصالح ، فيقول: رب أقم الساعة ! ربَّ أقم الساعة! حتى أرجع إلى أهلي ومالي)) .
قال : وإن العبد الكافر إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة، نزل إليه من السماء ملائكة سود الوجوه، معهم المسوح ( يعني الكفن ) ، فيجلسون منه مدَّ البصر، ثم يجيء ملك الموت، حتى يجلس عند ، فيقول : أيتها النفس الخبيثة ! اخرجي إلى سخط من الله قال: فتُفَرَّق في جسده، فينتزعها كما يُنْتَزَع السَّفُّود، من الصوف، فيأخذها، فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين، حتى يجعلوها في تلك المسوح، وتخرج منها كأنتن ريح جيفة وجدت على وجه الأرض، فيصعدون بها، فلا يمرون بها على ملأ من الملائكة، إلا قالوا : ما هذا الروح الخبيث ؟ فيقولون : فلان بن فلان – بأقبح أسمائه التي كان يسمى بها في الدنيا – حتى يُنتهى به إلى السماء الدنيا، فيستفتح له فلا يفتح له ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا تُفتَّح لهم أبوابُ السماء ولا يدخلون الجنة حتى يَلج الجمل في سَمَّ الخِياط) الأعراف 40 فيقول الله عز وجل: اكتبوا كتابه في سِجّين، في الأرض السفلى، فتطرح روحه طرحاً ثم قرأ :
( ومَنْ يُشركْ بالله فكأنما خرَّ من السماء فَتَخْطَفُه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق ) ، الحج 31 "فتعاد روحه في جسده، ويأتيه ملكان ، فيجلسانه ، فيقولان له : من ربك ؟ فيقول : هاه هاه ، لا أدري ، فيقولان له : ما دينك ؟ فيقول : هاه هاه ، لا أدري ، فيقولان له : ما هذا الرجل الذي بُعث فيكم ؟ فيقول : هاه هاه ، لا أدري ، فينادي منادٍ من السماء : أن كذب ، فَأفرشوه من النار ، وافتحوا له باباً إلى النار ، فيأتيه من حرها وسمومها ، ويضيق عليه قبره حتى تختلف فيه أضلاعه ، ويأتيه رجل قبيح الوجه ، قبيح الثياب ، منتن الريح ، فيقول : أبشر بالذي يسوؤك ، هذا يومك الذي كنت توعد. فيقول : من أنت ؟ فوجهك الوجه يجيء بالشر . فيقول : أنا عملك الخبيث. فيقول : رب ! لا تُقِمْ الساعة . وفي رواية نحوه ، وزاد فيه : إذا خرجت روحه ( يعني المؤمن ) صلى عليه كل ملك بين السماء والأرض ، وكل ملك في السماء ، وفتحت له أبواب السماء ، ليس من أهل باب إلا وهم يدعون الله أن يُعَرج بروحه من قِبلهم . وتنزع نفسه – يعني الكافر – مع العروق، فيلعنه كل ملك بين السماء والأرض، وكل ملك في السماء، وتغلق أبواب السماء، ليس من أهل باب إلا وهم يدعون الله ألا يعرج روحه من قبلهم رواه أحمد في مسنده .
وبعد هذا البيان.. عرفنا كيف الأمر قبل الموت وأثناء الموت وبعد الموت.. فما بقي علينا إلا الاستعداد لتلك اللحظات الخانقة حتى يسهل الأمر ويرحمنا ربنا –سبحانه- إذا عملنا صالحاً، وأحسنا الظن به عند الفراق..
اللهم ارحمنا واغفر لنا وهوّن علينا سكرات الموت يا رب العالمين…
1– البحر الرائق في الزهد والرقائق (ص264-265) لأحمد فريد، مع تصرف يسير.