تقلب الأيام في عيون الأدباء

تقلب الأيام في عيون الأدباء

 

الحمد لله الملك العلام، خالق الأنام ومصرف الليالي والأيام، ومقلب الشهور والأعوام، الذي لا راد لأمره ولا معارض لفعله مصرف الأمر بحكمته وقدرته وعدله، الملك الحق الذي بيده ملاك الأمر كله، مقدر الآجال والأعمار فلا يتأخر شيء عن ميقاته ولا يبرح عن محله سبحان مقدر الأعمار ومؤقت الآجال، سبحانه " فوق سماواته مستو على عرشه بائن من خلقه، يرى من فوق سبع سماوات ويسمع ضجيج الأصوات باختلاف اللغات على تفنن الحاجات، ويرى دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في غياهب الظلمات، لا تتحرك ذرة إلا بإذنه ولا تسقط ورقة إلا بعلمه ولا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض والسموات، قريب مجيد رحيم ودود لطيف خبير" 1{يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ}2" أي: أنه – سبحانه – يسأله من في السموات والأرض،سؤال المحتاج إلى رزقه وفضله وستره وعافيته، وهو – عز وجل – في كل وقت من الأوقات، وفى كل لحظة من اللحظات في شأن عظيم وأمر جليل، حيث يُحدِث ما يحدث من أحوال في هذا الكون،فيحيى ويميت ويعز ويذل ويغنى ويفقر ويشفى ويمرض.. دون أن يشغله شأن عن شأن…عن أبى الدرداء – رضي الله عنه – عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه قال في هذه الآية: ((مِن شأنه: أن يغفر ذنبا، ويفرج كربا، ويرفع قوما ويخفض آخرين )) .3

وسأل بعضهم أحد الحكماء عن كيفية الجمع بين هذه الآية، وبين ما صح من أن القلم قد جف بما هو كائن إلى يوم القيامة ؟ فقال: " شئون يبديها لا شئون يبتديها "… 4"

سبحانَه مِن خالقِ قديرِ … وعالمٍ بِخلْقه بَصير

وأوّلٌ ليس له ابتداءُ … وآخِرٌ ليس له انتهاءُ

ومَن عَنت لوجهه الوُجوهُ … فما له نِد ولا شَبيهُ5

أما بعد: فيقول سبحانه: {وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ }6 فلقد حارت العقول، وبارت الحيل وسجدت القلوب، واستسلم العالم وركع الكون كله أمام نفاذ القدرة، وعلى عتبة القضاء – ذلك الباب المغلق الذي أخفى الله عن الخلق مفتاحه –   

وإذا أتاك من الأمور مقدّرٌ … ففررت منه فنحوه تتوجّه7

إنا نؤمن أن تقلب الأيام ومداولتها بين الناس سنة من سنن الله – عز وجل – الكونية، لكن الله سبحانه أخبر عباده في أكثر من آية في كتابه أن تقلب الأيام والليالي يحمل في طياته عبرا لأصحاب العقول والألباب ، ودروسا لأولي الأبصار ،  {يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّأُوْلِي الْأَبْصَارِ}8 فكم من أسرار عجيبة في تقلب هذه الأيام وتصرمها!     كم من قصص وأحداث! قال فيلسوف: من أيسر فتن، ومن أعسر حزن، وفي ممر الأيام معتبر الأنام.9

ليس الذي عاش أيّاماً مطولةً … بل الذي عركَ الأيام يدريها

لكن قد قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: (( إن من البيان سحرا وإن من الشعر حكما ))10 وقال أحدهم:

"لو سألوا الحقيقة أن تختار لها مكانا تتشرف منه على الكون لما اختارت غير بيت من الشعر"!11

فدعونا هذه اللحظات نعيش مع الأدباء والشعراء لنرى كيف درسوا هذه القضية، وكيف تعاملوا مع هذه السنة  الكونية:

قال أحدهم: كل آتٍ فكأن قد، لا حذر من قدرٍ، من رضي بالقضاء طاب عيشه، إذا جاء القضاء ضاق الفضاء، إذا ذكر القضاء فأمسك، التوفيق موافقة القضاء، فانظر هذه القطع الماسية من الحِكَم، كيف اختصرت الكتب وجمعت مملكة الكلام في قصر واحد!

ويقول آخر:

وفي الأيام معتبر … لها في أهلها دول

فقوم قد علوا فيها … وأقوام بها سفلوا

وكم صرعت محبيها … ولا بيض ولا أسل

وكم باتوا على فرش … عليها تضرب الكلل

أباد الدهر جمعهم … وجوزوا بالذي عملوا

فما للنفس غافلة … وبالشهوات تشتغل12

وتأمل في هذا العقد الفريد من البيان كما في (العقد الفريد): الأيام مزارع فما زرعت فيها حصدته!!13

ويقول أبو دلف:

هي المقادير تجري في أعنّتها … فاصبر فليس لها صبرٌ على حال

 

وقال أبو العتاهية:

هي المقادير فلمني أو فذر … إن كنتُ أخطأتُ فما أخطأ القدر

أخي: اعلم أن الزمان لا يثبت على حال كما قال عز وجل: {وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ }14

فتارة فقر، وتارة غنى، وتارة عز، وتارة ذل، وتارة يفرح الموالي، وتارة يشمت الأعادي.15

قال الأدباء في هذا: الدهر يومان، فيوم لك ويوم عليك، فإذا كان لك فلا تبطر، وإذا كان عليك فاصبر، فكلاهما سينحسر16، وقالوا: اليوم يومان فيوم حبرة ويوم عبرة،17

وقال آخر في تصرف الدهر: مرَّةً عيش ومرة جيش، ثم ترجم الشاعر تلك الحقيقة في قوله:

فيَومٌ علينا ويومٌ لنا … ويوماً نُساء ويوماً نسَرّ18

وانظر لهذا الشاعر كيف وصف حال الناس مع هذه الأيام، وكيف أن هذا الإنسان لا يرضيه ولا يشبعه شيء مصداقا للحديث النبوي: ((فيقول الله: دونك يا ابن آدم فإنه لا يشبعك شيء))19 يقول الشاعر:

صغيراً يشتهي الكبرَ…وشيخ ود لو صغرَ

ورب مال في تعب…وفي تعب من افتقرَ

وخال يبتغي عملا…وذو عمل به ضجرا

    ويشقى المرء منهزماً…ولا يرتاح منتصرا!!!

كم من شعراء دوختهم الأيام، وطحنتهم المصائب، وتقلبت عليهم الأحوال، فمنهم ومنهم.. منهم من صبر وصابر لعلمه أن هذه هي طبيعة الأيام، ومنهم من ضجر وأعلن التسخط من تلك الأقدار لعدم علمه بسنة الله في السنين

فانظر لهذا الشاعر كيف بدأ متضجرا حانقا ثم رد على نفسه، وراجع تلك السنة الكونية، فيقول:

يا دهر ويحك ما أبقيت لي أحدا … وأنت والد سوء تأكل الولدا

أستغفر الله بل ذا كله قدر … رضيت بالله ربا واحدا صمدا

"إن من لا يعرف هذه الحقيقة سيفاجأ بوقائع الأحداث تصب على رأسه صباً فيظن أنه الوحيد من بين بني الإنسان الذي يصاب بذلك لشؤمه وسوء حظه، ولذلك يبادر بعضهم بالإجهاز على نفسه بالانتحار، لأنه ما علم أن لكل فرحة ترحة وما كان ضحك إلا كان بعده بكاء، وما ملئ بيت حبرة إلا ملىء عبرة، وما عبّت دار من السرور إلا عبّت من الحزن، "وأنه لو فتش العالم لم ير فيه إلا مبتلى: إما بفوات محبوب أو حصول مكروه، وأن سرور الدنيا أحلام نوم أو كظل زائل، إن أضحكت قليلاً أبكت كثيراً، وإن سرت يوماً أساءت دهراً، وإن متعت قليلاً، منعت طويلاً… ".20

ألا فاشكر لربك كل وقت … على الآلاء والنعم الجسيمة

إذا كان الزمان زمان سوء … فيوم صالح منه غنيمة21

كانت هذه جولة سريعة في بستان الشعر والأدب، ولغتهم مع الأيام .. وحان أن نودعكم إخواننا الفضلاء إلى لقاء آخر – بإذن الله تعالى – مع الأدب والأدباء .

والحمد لله رب العالمين


1 الصواعق المرسلة – (ج 3 / ص 1114-1115).

2  سورة الرحمن (29).

3 روه ابن ماجة في سننه برقم (202)  وحسنه الألباتي في صحيح ابن ماجة برقم (167).

4 الوسيط لسيد طنطاوي (ج 1 / ص 4047).

5 العقد الفريد  (ج 2 / ص 189).

6  سورة آل عمران (140).

7 التمثيل والمحاضرة  (ج 1 / ص 24) البيت لابن الرومي.

8  سورة النــور (44).

9 البصائر والذخائر (ج 1 / ص 52).

10 رواه أبو داود في سننه برقم (5013)، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (1731).

11 تنسب المقولة لمحمد عبده الشيخ المصري المعروف.

12 خريدة القصر وجريدة العصر  (ج 3 / ص 140) من شعر أبي الحسن عبد الله بن شماخ.

13 العقد الفريد (ج 1 / ص 65).

14  سورة آل عمران (140).

15 صيد الخاطر(ج 1 / ص 39).

16 أمالي القالي (ج 1 / ص 48).

17 التذكرة الحمدونية (ج 1 / ص 386).

18 العقد الفريد (ج 1 / ص 292)

19 رواه البخاري برقم (2221). 

20 موسوعة فقه الابتلاء – (ج 3 / ص 161)

21 معجم الأدباء – (ج 1 / ص 243)