تغير النفوس بالمناصب والفلوس

تغير النفوس بالمناصب والفلوس

الشيخ محمد صالح المنجد

  

عناصر الخطبة:

1.    النفوس الكريمة.

2.    نماذج ممن لم تغيرهم المناصب.

3.    نماذج ممن غيرهم المال.

4.    أهمية الوفاء.

5.    نماذج من عدم الوفاء.

 

الخطبة الأولى:

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

النفوس الكريمة

عباد الله:

إن النفوس الكريمة الأصيلة لا تتغير بتغير الأحوال والأزمان من جهة التقوى، فإذا لم تزد فإنها لا تنقص، ومن جهة التواضع فإنها تبقى عليه حافظة لوفائها لمن حولها، ثابتة على هذه المبادئ الشرعية، حتى وإن وصلت إلى أعلى المناصب، أو بلغت ما بلغت من الأموال، وأما الزائف من النفوس فما أن يتبوأ صاحبها منصباً، أو يصبح ذا مال وثروة، حتى يتعالى على الخلق، ويتكبر عليهم، ويتنكر لهم، فينسى ما مضى، ينسى أصدقاءه وإخوانه، بل وأقاربه وأهله، هذه الأموال تغير النفوس، وكذلك المناصب، والشهادات، ودرجات الدنيا، وبعض الناس يكون في أمر من التواضع والتواصل مع أهله وإخوانه، وفجأة إذا حصل له تغير وظيفي، أو ترقية، فيتحول إلى شخص آخر، يتعالى على من حوله، لم يعد يستقبل معارفه إلا بطريقة توحي لهم أنه متبرم منهم، وأنه لا يريدهم، {وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجَانِبِهِ} (سورة فصلت51)، فإذا أنعم الله على العبد بمال، وعافية، وفتح، ورزق، ونال العبد ما يريد، ويصبو، ويؤمل، فرح بالنعم، وبطر بها، وأعرض ونأى بجانبه عن ربه، لا يشكره ولا يذكره، ومثل هذا يظن أن ما حصل له من الدنيا تشريف، ويغفل عن كونه ابتلاء من الله تعالى، وأنه عبء ثقيل يتطلب أن يقوم بشكر نعمة ربه بما ابتلاه به، ودخل فيه من أمور الدنيا ونعيمها، وأنه ينبغي عليه أن يشكر هذه النعمة بالقيام بحقوق العباد بعد حقوق الخالق، ولو دامت لغيرك يا عبد الله ما وصلت إليك.

إنما الدنيا كظل زائل *** أو كضيف بات ليلاً فارتحل

فلا تغترن بمنصب، أو ترقية، أو شهادة، أو مال وربح صفقة، فهي مقادير تأتي وتذهب بمشيئة الرحمن، فإذا كان يشار إليك اليوم بالبنان فربما تكون غداً سيرة ذاهبة.

كان أحد أولئك القوم ممن له عبادة، وزهادة، وعلم، قبل أن يتولى ما تولى، لما أخبر بتوليه هذا المنصب العالي في الدنيا كان في حجره مصحف فأطبقه وقال: هذا آخر العهد بك، فشتان شتان بين من إذا جاءته الدنيا ازداد تواضعاً، وخدمة لعباد الله، وبين من يقول للمصحف: هذا فراق بيني وبينك، ألم يقل الله تعالى: {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} (سورة الحج41)، أي: إن ملكناهم الأرض، وثبتنا لهم الأمر، أقاموا الصلاة في أوقاتها، وآتوا الزكاة، وحق المال، وانتصروا على شح الأنفس، وكفلوا الضعاف والمحاويج، وسدوا خلتهم، وأمروا بالمعروف مما عرفه الشرع، ونهوا عن المنكر، ولله عاقبة الأمور، وإليه المرجع والمصير.

نماذج ممن لم تغيرهم المناصب

 وانظر إلى تواضع نبينا صلى الله عليه وسلم لما فتح الله عليه مكة، ومكنه من أعدائه، كيف دخلها مطأطأ الرأس تواضعاً لله، قال أنس رضي الله عنه: "دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة يوم الفتح وذقنه على راحلته متخشعاً"، هذا التواضع من النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الموطن مع الجيش العرمرم، هذا الذي دخل وتكاد لحيته أن تمس واسطة الرحل، إنها أخلاق الأنبياء، فأين هذا من سفهاء بني إسرائيل الذين لما أمروا بدخول بيت المقدس وهم سجود، أي: ركع، وأن يقولوا حطة، حط عنا خطايانا، دخلوا يزحفون على أستاههم، وأعجازهم، وأدبارهم، ويقولون تحريفاً: حنطة في شعرة.

ولما دخل النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح، وظن مشركو قريش أنهم أحيط بهم، وأنه سيبيرهم، ويهلكهم لا محالة بعدما فعلوا الذي فعلوه به وبأصحابه، إذا به يعفو عنهم، ويعاملهم بالفضل والإحسان بعدما أمكنه الله منهم، فعن عمرو بن سلمة قال: "كانت العرب تلوَّم بإسلامهم الفتح، -يعني ينتظرون، فيقولون: اتركوه وقومه، فإنه إن ظهر عليهم فهو نبي صادق، فلما كانت وقعة أهل الفتح بادر كل قوم بإسلامهم" [رواه البخاري4302]، وذلك لما رأوا من أخلاقه، وعفوه عليه الصلاة والسلام، وأخوه من قبل يوسف عليه السلام لما أصابه ما أصابه من مكر إخوته، وتآمرهم على قتله، ورميه في الجب، وتعريضه للهلاك، وإبعاده عن أبيه، وتسببهم في بيعه عبداً، وفي فتنته، ومحنته، ودخوله السجن، وتجرعه ألم الفراق، لما جعله الله على خزائن الأرض، وأظهره على إخوته، وجاءوه محتاجين قائلين: تصدق علينا، ماذا قال: {قَالَ لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} (سورة يوسف92)، فلا لوم، ولا تعيير، فعفا عنهم بعدما أساءوا إليه، وأكرمهم بعد أن أذلوه، ودعا لهم بالمغفرة والرحمة، وهذه غاية الإحسان، فالذي يقهر نفسه أشجع من الذي يفتح مدينة.

ولما جاء الحسن البصري مع أصحابه منزل الحكم بن أيوب أمير البصرة ليلاً ليشفع لهم عنده ليعفو عنهم، ذكره الحسن بصنيع يوسف عليه السلام، فقال الحكم رحمه الله: وأنا أقول: لا تثريب عليكم اليوم، والله لو لم أجد إلا ثوبي هذا لواريتكم تحته.

ومما يدل على عدم تغير الصحابة بالمناصب، هذا الصنيع العظيم، للصديق أفضل الأمة بعد نبيها، كان يحلب لبعض الناس أغنامهم، فلما بويع له بالخلافة قالت جارية فتاة من الحي: الآن لا يُحلب لنا، لا تحلب لنا منائح دارنا، فسمعها الصديق فقال: بلى لعمري لأحلبنها لكم، وإني لأرجو أن لا يغيرني ما دخلت فيه عن شيء كنت أفعله، فكان يحلب لهم فربما قال للجارية: يا جارية أتحبين أن أرعى لكِ، أو أصرح يعني أحلب، وربما قالت: احلب، فأي ذلك قالت فعله.

قيل للحسن بن علي رضي الله عنهما: ما الإخاء؟ قال: الوفاء في الشدة والرخاء.

ومعن بن زائدة كان مشهوراً بالحلم، يحلم على من يسيء إليه، وربما سبه وشتمه، ولم يوقع به شيئاً، ولا عاقبه، وقد دخل عليه رجل فقال له:

أتذكر إذ لحافك جلد شاة *** وإذ نعلاك من جلد البعير

فقال معن: أذكر ذلك، ولا أنكره، فقال الرجل:

ونومك في الشتاء بلا رداء *** وأكلك دائماً خبز الشعير

فقال: الحمد لله على كل حال، فقال له:

فسبحان الذي أعطاك ملكاً *** وعلمك الجلوس على السرير

فقال: جل ربي وعز، فقال الرجل:

فعجل يا ابن ناقصة بمال *** فإني قد عزمت على المسير

فأمر له بمال جزيل وأخذه وانصرف متعجباً من حلمه عليه، وعدم انتقامه منه، مع أنه سبه في هذا البيت الأخير.

عباد الله:

بعض الناس يكون بعد النعمة أكثر تواضعاً مما كان قبل ذلك، ومن هؤلاء عمر بن عبد العزيز رحمه الله كان قبل أن يتولى الخلافة من أترف الناس عيشاً، ومن أكثرهم إنفاقاً على طيبه، ولباسه، وطعامه، له تلك المشية العمرية التي كانت الجواري يتعلمنها، ويتبخترن فيها لإعجابهن بها، وحينما تزوج بزوجته فاطمة، وضعوا زيت السرج مسكاً، وهذا من الإسراف، فلما بويع بالخلافة أتي بمراكب الخلافة البراذين، والخيل، والبغال، ولكل دابة سائس فقال: ما هذا؟ قالوا: مركب الخلافة، فقال: دابتي أوفق لي، فركب دابته فصرفت تلك الدواب، ثم أقبل سائراً، فقيل: منزل الخلافة، فقال: في فسطاطي كفاية، أتته الدنيا فتركها.

سُئل المنصور ابن عمر بن عبد العزيز: كم كانت غلة أبيك حين أفضت إليه الخلافة؟ قال: خمسون ألف دينار، قال: كم كانت غلته يوم مات؟ قال: ما زال يردها حتى صارت مائتي دينار، ولم يزده السلطان إلا ورعاً، وزهداً، وعفة، كما قال رجاء بن حيوة رحمه الله: سمرت ليلة عند عمر بن عبد العزيز فانطفأ السراج، وإلى جانبه خادم، فقلت: ألا أنبه الخادم يعني يقوم من النوم، ويوقد السراج مرة أخرى، فقال: لا، قلت: أفلا أقوم؟ فقال: ليس من مروءة الرجل أن يستعمل ضيوفه، فقام وأصلح السراج ثم رجع، وقال: قمت وأنا عمر بن عبد العزيز، ورجعت وأنا عمر بن عبد العزيز.

وهكذا ضربت الأمثال للناس بهذا التاريخ العظيم لهذه الشخصيات، فأين من قادة الشرق والغرب من يباري عمر وسيرته، أو من يحاول للفاروق تشبيها.

نماذج ممن غيرهم المال

وقد جعل الله المال فتنة للناس، ومحكاً لتمييز معادنهم، فكم رأينا ممن كان في عسر متواضعاً، متبسطاً لجلسائه، يواسي ضعيفهم، ويرحم صغيرهم على قلة حاله، حتى إذا طلق الفقر، وأنعم الله عليه بالمال الوفير غير إخوانه، ونسي أرحامه، وتكبر على من حوله، ألم يأتنا نبأ الثلاثة من بني إسرائيل، الأبرص والأقرع والأعمى، ((بدا لله أن يبتليهم فبعث إليهم ملكاً، فأتى الأبرص فقال: أي شيء أحب إليك؟ قال: لون حسن وجلد حسن، قد قذرني الناس، فمسحه فذهب عنه فأعطي لوناً حسناً وجلداً حسناً، فقال: أي المال أحب إليك؟ قال: الإبل، فأعطي ناقة عشراء، -على وشك أن تلد-، وقال له: يبارك لك فيها، وأتى الأقرع فقال: أي شيء أحب إليك؟ قال: شعر حسن ويذهب عني هذا، قد قذرني الناس، فمسحه فذهب وأعطي شعراً حسناً، قال: فأي المال أحب إليك؟ قال: البقر، فأعطاه بقرة حاملاً، وقال: يبارك لك فيها، وأتى الأعمى فقال: أي شيء أحب إليك؟ فقال: يرد الله إلي بصري، فمسحه فرد الله إليه بصره، قال: فأي المال أحب إليك؟ قال: الغنم، فأعطاه شاة والداً، فأنتج هذان وولد هذا، فكان لهذا واد من الإبل، ولهذا واد من بقر، ولهذا واد من غنم، ثم إنه أي الملك الذي جاء على صورة رجل في أول الأمر أتى الأبرص في صورته وهيئته، أي الأولى حتى يعرفه، حتى يتذكره، وتقوم الحجة عليه، فقال له –أي الملك على صورة رجل- رجل مسكين تقطعت بي الحبال في سفري، فلا بلاغ اليوم إلا بالله ثم بك، أسألك بالذي أعطاك اللون الحسن والجلد الحسن والمال بعيراً أتبلغ عليه في سفري، فقال له: إن الحقوق كثيرة، فقال له: كأني أعرفك، ألم تكن أبرص يقذرك الناس فقيراً فأعطاك الله؟ فقال: لقد ورثت لكابر عن كابر، أي عن أبي وجدي،– هذا الكذاب، ينكر نعمة الله عليه-، فقال أي الملك: إن كنت كاذباً فصيرك الله إلى ما كنت، وأتى الأقرع في صورته وهيئته فقال له مثل ما قال لهذا، فرد عليه مثل ما رد عليه هذا، فقال: إن كنت كاذباً فصيرك الله إلى ما كنت، وأتى الأعمى في صورته فقال: رجل مسكين وابن سبيل فلا بلاغ اليوم إلا بالله ثم بك، أسألك بالذي رد عليك بصرك شاة أتبلغ بها في سفري، فقال: قد كنت أعمى فرد الله بصري وفقيراً فقد أغناني، فخذ ما شئت فوالله لا أجهدك اليوم بشيء أخذته لله، فقال: أمسك مالك، فإنما ابتليتم، فقد رضي الله عنك وسخط على صاحبيك)) [رواه البخاري3464 ومسلم2964].

نجح الأعمى في الابتلاء والامتحان، ولم يتغير ولم يتنكر، بينما سقط الآخران.

والحر لم يتغير ثروة وغنى *** والشمس رأد الضحى كالشمس في الطُفل

فالشمس اليوم كما كانت بالأمس، وهكذا لم تتغير، وأما من نسي حاله في أيام مرضه؛ لأن بعض الناس يتواضع في المرض، فإذا رزقه الله الصحة تكبر وتجبر، وبعضهم ينسى أيام فقره، وهذا قلة شكر، وكان الإنسان كفوراً، هذا من سجيته، ينسى النعمة، يجحدها إلا من عصى الله، فأين شكر النعمة، والاعتراف بها ونسبتها إلى المنعم، وحمده عليه، واستعمالها فيما يرضيه، والرفق بالفقراء.

تراني مقبلاً وتصد عني *** كأن الله لم يخلق سواك

سيغنيني الذي أغناك عني *** فلا فقري يدوم ولا غناك

ومنهم من يتغير إلى الغرور، ونسيان المنعم، قارون كان من قوم موسى، آتاه الله مالاً كثيراً، كان من المستضعفين من قوم موسى فالتحق بفرعون ومن معه، بغى على قومه بظلم غصبهم، وأخذ حقوقهم، وحرمهم، واستخف بفقرائهم، ونسي ما آتاه الله من النعمة، خرج على قومه في زينته، فلم يذكر يوم خرج من بطن أمه لا يدري ما الدرهم ولا الدينار، ولم يذكر تلك النعمة التي أنعم الله بها عليه حتى إن مفاتح كنوزه لتنوء بالعصبة أولو القوة، فعلا في الأرض فنصحه العقلاء، والعلماء، وذكروه فأبى، يقولون: لا تفرح،{وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} (سورة القصص77) وأصلح يا عبد الله لا تفرح، لكن لا فائدة، فماذا فعل الله به، بطش به، {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ} (سورة القصص81).

لا تحسب الملك الذي أتيته يفضي *** وإن طال الزمان إلى مدى

كالدوح في أفق السماء فروعه *** وعروقه متولجات في الندى

عباد الله:

إن الله ضرب لنا مثلاً، وأخبرنا عن أنواع من الشخصيات، ونماذج من الناس، {وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ} (سورة التوبة75-76) ، مع أن الله وسع عليه، وعاهد ربه لئن آتاه الله من فضله سيصل الرحم، وينفق في سبيل الله، ولكن لا فائدة فإن النفوس إذا كان فيها سوء سيظهر، وإنما تتغير النفوس لعدم أصالتها وخسة معدنها، أما النفوس العظيمة فتزداد حال الرخاء.

قال العز بن عبد السلام رحمه الله: كان صلى الله عليه وسلم قبل الغنى قائماً بوظائف الفقراء، فلما أغناه الله قام بوظائف الفقراء والأغنياء، فكان غنياً، فقيراً، صبوراً، شكوراً، راضياً بعيش الفقراء، جواداً بأفضل جود الأغنياء.

وهل أتاك نبأ الرجلين لما باع أحدهما للآخر عقاراً، فاكتشف المشتري فيه جرة من ذهب، فيقول للبائع: خذ ذهبك مني إنما اشتريت منك الأرض ولم أبتع منك الذهب، فقال البائع: إنما بعتك الأرض وما فيها، فلم يطغ هذا الذهب، ولا الآخر، لقوة الأخوة بينهما، فأشار عليهما حكيم بأن يزوج ابنته لابنه فهذا عنده بنت والآخر عنده ابن، وينفقان على الولدين من هذا الذهب. [رواه البخاري3472 ومسلم 1721].

فانظروا إلى طيب نفسهما، وورعهما، وبعض الناس إذا اكتشف مثل هذا الذهب فماذا سيكون حاله؟ {إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا * إِلَّا الْمُصَلِّينَ}(سورة المعارج19-22).

اللهم اجعلنا من الشاكرين، اللهم اجعلنا عند النعماء من الشاكرين، وعند البلاء من الصابرين، وعافنا يا أرحم الراحمين، اللهم اجعلنا ممن يعرفونك في السر والعلن، والشدة والرخاء، يا سميع الدعاء، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية:

الحمد لله على إحسانه، أشكره ولا أكفره، وأخلع كل من يكفره، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، تفضل وأنعم، ورزق، وأعطى، وهدى، وقدر، وأصلي وأسلم على محمد بن عبد الله خاتم النبيين، وإمام المرسلين، وقائد الغر المحجلين، أشهد أنه رسول الله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه، وعلى أزواجه وذريته الطيبين وخلفائه الميامين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أهمية الوفاء

عباد الله:

قال ربنا: {لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} (سورة إبراهيم7)، إن من الوفاء ألا يتغير حال الإنسان في تواضعه مع إخوانه؛ وإن ارتفع شأنه في الدنيا، واتسعت ولايته وعظم جاهه، فإن الترفع على الإخوان بما يتجدد من الأحوال لؤم.

إن الكرام إذا ما أيسروا ذكروا *** من كان يألفهم في المنزل الخشن

فيعطون هذا، ويصلون هذا، ويغدقون على هذا ذكراً وعرفاناً ووفاءً للعلاقات القديمة.

قال بعض السلف لابنه: يا بني لا تصحب من الناس إلا من إذا افتقرت إليه قرب منك، وإن استغنيت عنه لم يطمع فيك، وإن علت مرتبته لم يرتفع عليك.

إن الوفاء على الكريم فريضة *** واللؤم مقرون بذي الإخلاف

وترى الكريم لمن يعاشر منصفاً *** وترى اللئيم مجانب الإنصاف

نماذج من عدم الوفاء

نفوس تتغير بسبب غناها، يقع في الأزواج والزوجات، كمن تزوجت وهي صغيرة، ثم تعلمت بعد زواجها، وأصبحت ذات شهادة، فشعرت بنقص زوجها، وأنه أدنى منها تعليماً، فطلبت الطلاق، وزوجة تظهر الود لزوجها، فإذا ضعف زوجها، ولم يعد قادراً على الإنفاق عليها، واستغنت بأبنائها هجرته، وتركته، وتظهر بعضهن الوفاء لزوجها ما دام قوياً غنياً صحيحاً، فإذا شاب شعره، وكبر سنه، ورق عظمه، قلبت له ظهر المجن، وتطاولت عليه بلسانها، وآذته بأفعالها، بل ربما عمدت إلى تسليط أبنائه عليه، وتحريضهم لإيذائه حتى يعود كقطعة الأثاث المهملة القديمة في ركن من أركان البيت، أين الوفاء للرابطة الزوجية؟

المرء في زمن الإقبال كالشجرة *** والناس من حولها ما دامت الثمرة

حتى إذا راح عنها حملها انصرفوا *** وخلفوها تقاسي الحر والغبرة

لأنه في المقابل يوجد من الرجال من هو عديم الوفاء أيضاً، وفيٌ لزوجته ما دامت محتفظة بجمالها، تقوم على خدمته، فإذا ما كبرت، وذهب جمالها، أو ابتليت بمرض تنكر لها، وعاقبها بطلاقها على شيء ليس لها ذنب فيه، وقد يتركها في البيت مهملة، ويذهب للبحث عن أخرى رشيقة صغيرة، ولا يعطي تلك المسكينة حقها، بل ينساها وأولادها، وليس العيب أن يتزوج فقد أباح الله له مثنى، وثلاث، ورباع، لكن العيب أن يهمل الأولى، ويتركها كالمعلقة، وراعي الغنم الذي فقد بصره في سن الخمسين، فأصبح قعيد البيت فسهرت عليه زوجته على راحته، وتولت أعباء إعاشته، ولما بلغ السبعين ذهب إلى المدينة، حيث يتقدم الطب فأجرى عملية جراحية فاسترد بصره، فكان أول ما لفت نظره أن زوجته الوفية قد أصبحت عجوزاً، فطلقها مباشرة، أين هؤلاء من وفاء النبي صلى الله عليه وسلم لزوجته خديجة بعد وفاتها بسنوات، وعنده البكر، والثيب، وعنده أصغر منها سناً، وأكثر عدداً، ومع ذلك لا زال يذكر زوجته تلك، وإذا ذبح الشاة أرسل الهدايا في صدائق خديجة، ودخلت عليه هالة بنت خويلد فارتاع، وقام بحق أخت زوجته من حسن الإكرام، والضيافة، وقال لنا معلماً: ((حسن العهد من الإيمان))[رواه الحاكم40 وحسنه الألباني في الجامع الصغير2056 ].

يتنكر طلاب لمعلميهم، يتنكر أبناء لآبائهم، يتنكر بعض الموظفين لمن كان عطف عليه، وشغله عنده، ودربه، وعلمه.

فيا عجباً لمن ربيت طفلاً *** ألقمه بأطراف البنانِ

أعلمه الرماية كل يوم *** فلما اشتد ساعده رماني

وكم علمته نظم القوافي *** فلما قال قافية هجاني

أعلمه الفتوة كل وقت *** فلما طر شاربه جفاني

شاب كان جاهلاً، علمه أبوه، أنفق عليه، درسه في أحسن الجامعات، فلما رجع من السفر بتلك الشهادة، وجاء أصحابه لتهنئته، فرأوا والده في حديقة البيت كبيراً في السن فقالوا: من هذا؟ قال: هذا عامل الحديقة.

وهكذا يشعر بعض الأبناء بالنقص مع الأسف لا عرفان، ولا تقدير للآباء، أين الوفاء في زمن قل فيه الوفاء، ينتحر الوفاء يومياً بأفعال الشباب، أنانيون، ينسون آبائهم وأمهاتهم بمجرد حصولهم على الوظائف، أو استغنائهم عنهم، وبنات أحسن إليهن أهلوهن، فلما تزوجت من رجل من عائلة ثرية مترفة نسيت أهلها، هجرتهم، وترفعت عليهم، وأصبحت تشعر بالنقص لمجرد انتسابها إليهم، ألم يقل الله: {هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ}(سورة الرحمن60)، الوالدان أنفقا حياتهما، وما لهما، وجهدهما لإسعاد أولادهما، فلما كبر الأولاد، وكبر الوالدين، واحتاجا، واغتنى الأولاد وافتقر الأبوان، ومرضا، صارا بالنسبة للأولاد عبئاً ثقيلاً يحرص كل واحد منهم على أن يتنصل من خدمة أبويه، ويرميهم على الآخر، وقد يترك في المستشفى لا يسأل عنه أحد، أو يودع في دار الرعاية الاجتماعية.

يبقى اللؤم هو اللؤم، روت كتب التاريخ والسير، أن رجلاً من أهل مرو معروف باللؤم كان يحج ويتجر، وينزل في كل مرة على رجل من أهل العراق، فيكرمه العراقي، ضيف في الطريق من مكة إلى مرو، يمر بالعراق، فيكفيه مؤنته، ويغدق عليه، وكان المروزي كثيراً ما يقول للعراقي: ليتني أراك بمرو حتى أكافئك على إحسانك، فعرضت لذلك العراقي بعد دهر طويل حاجة في مرو، فكان مما هون عليه مشقة السفر، ووحشة الاغتراب، أن المروزي هناك، فلما أتاه وجده قاعداً في أصحابه، فأكب عليه وعانقه، فجعل المروزي يتمعر وجهه ويقول: من أنت فقال العراقي: لعله لم يعرفني لأني ألبس قناعاً، فرمى بقناعه، لثامه، وعرفه بنفسه، فأنكره المروزي، قال: لعله لم يعرفني بسبب العمامة، فنزعها فكان أشد إنكاراً، فقال: لعله لم يعرفني بسبب القلنسوة، الطاقية، فخلعها فقال المروزي: والله لو خرجت من جلدك لم أعرفك.

وهكذا بعض الناس يصر على الإنكار، والتنكر.

وإني رأيت الناس إلا أقلهم *** خفاف العهود يكثرون التنقل

فحين يسدي لك الآخرون معروفاً، أو يقدمون لك مساعدة فعليك أن تشكرهم ((من صنع إليكم معروفاً فكافئوه فإن لم تجدوا ما تكافئونه فادعوا له حتى تروا أنكم قد كافأتموه)) [رواه أبو داود1672وهو حديث صحيح].

أما أن يحسن الآخرون إلى الإنسان فلا يجدون منه إلا نكراناً، {كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى} (سورة العلق6-7)، فإذا رأى نفسه استغنى عن الناس بماله، أو سلطانه طغى، تجاوز الحدود، تكبر وظلم.

وهذه الممثلة الأمريكية أصبحت الأعلى أجراً في عالم الفن والضياع، تتقاضى سبعة عشر مليوناً من الدولارات عن الفيلم الواحد، فطلبت الطلاق من زوجها بسبب الفارق الاقتصادي، متوقع هذا، فالكفر لا يولد إلا أشباه هذا.

عباد الله:

يجب أن نحاسب أنفسنا، وأن نردعها عن تيهها وكبرها، {كَذَلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللّهُ عَلَيْكُمْ} (سورة النساء94)، حتى أنت يا من تهتدي إلى الحق، وتطلب العلم، وتدعو إلى الله، لا تتكبر على المدعوين، {كَذَلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللّهُ عَلَيْكُمْ} (سورة النساء94)، ثم قال عليه الصلاة والسلام: ((إن حقاً على الله أن لا يرفع شيئاً من الدنيا إلا وضعه))[رواه البخاري2872] فلا يوجد أحد مهما بلغ إلا ويرجع وينتكس، وإذا لم يفتقر فإنه الله يقهره بالموت، سبحان الذي قهر عباده بالموت، الغني إذا اتقى آتاه الله أجره مرتين؛ لأنه امتحنه فوجده صادقاً، وليس من امتحن كمن لم يمتحن، {وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ} (سورة آل عمران133)، {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} (سورة المطففين26)، ((إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم))[رواه مسلم2564]

وأما الخيانة والتنكر فعاقبتها سيئة.

ولا خير في خل يخون خليله *** ويلقاه من بعد المودة بالجفاء

وينكر عيشاً قد تقادم عهده *** ويظهر سراً كان بالأمس قد خفا

سلام على الدنيا إذا لم يكن بها *** صديق صادق الوعد منصفاً

قال ابن عيينة: لقد عهدت أقواماً فارقتهم منذ ثلاثين سنة ما يخيل إليَّ أن حسرتهم ذهبت من قلبي.

وإني إذا ما الجار غير طبعه *** فطبعي لم يخبت ولم يتغير

وهكذا الإنسان ينبغي عليه أن يذكر أصله، وقد كان من التراب والطين.

اللهم إنا نسألك أن ترزقنا التواضع يا رب العالمين، اللهم إنا نعوذ بك من الكبر، والفخر بالحسب، والطعن في النسب، اللهم اجعلنا ممن يقومون بحقوقك، وحقوق عبادك يا رب العالمين، اللهم إنا نسألك خشيتك في الغيب والشهادة، ونسألك القصد في الغنى والفقر، ونسألك نعيم لا ينفد، وقرة عين لا تنقطع، نسألك الرضا بالقضاء، وبرد العيش بعد الموت، اجعلنا في بلادنا آمنين مطمئنين، واغفر لنا يا رب العالمين، آمنا في الأوطان والدور، وأصلح الأئمة وولاة الأمور، اللهم أحسن خاتمتنا، وكفر عنا سيئاتنا، وتوفنا مع الأبرار، سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.