ذكر الله أيام الحج
الحمد لله حمد العابد لربه، المعتذر إليه من تقصيره وذنبه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة مخلص من قلبه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله المصطفى من حزبه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، أما بعد: فإن من أفضل العبادات، وأجلِّ الطاعات، وخير ما صرف للمولى – جل وعلا -: تطييب اللسان بذكره، واطمئنان القلب به، وهذا إنما هو خاص لأناس معلومين ألا وهم: الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (سورة الرعد:28)، فالذين آمنوا كانت قلوبهم عامرة بذكر الله؛ لأنهم هم الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ (سورة آل عمران:191).
وفي كتاب الله تعالى أنزلت آيات تتلى إلى يوم القيامة حاثة على ذكر الله، وإذا كان للأشهر الحرم فضيلة فإن لأيام الحج فضيلة أيضاً، بل فيها يوم هو أفضل الأيام، فما أجمل أن تجتمع لإنسان الفضائل كلها فينال مع فضل الإسلام والإيمان فضل الذكر، في أشهر من أفضل الأشهر، وفي أفضل الأيام، في أفضل يوم على الإطلاق قال تعالى: وَاذْكُرُواْ اللّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (سورة البقرة:203)، لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (سورة الحج:27) قال ابن عباس: وَاذْكُرُواْ اللّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ أيام العشر، والأيام المعلومات: أيام التشريق1، وقيل: إنها أيام الذبح، فعلى القول الأول يكون من ذكر الله فيها التكبير في أدبار الصلوات، والتكبير عند رمي الجمار كما قال النبي ﷺ : إِنَّمَا جُعِلَ الطَّوَافُ بِالْكَعْبَةِ، وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَرَمْيُ الْجِمَارِ؛ لِإِقَامَةِ ذِكْرِ اللَّهِ 2، فالذكر في هذه الآيات مطلق، وإن كانت السُّنة قد جاءت بالتكبير في عيد النحر في صلاته، وخطبته، ودبر صلواته، ورمي جمراته3، وكان ابن عمر وأبو هريرة – رضي الله عنهما – يخرجان إلى السوق في أيام العشر يكبران، ويكبر الناس بتكبيرهم4، وقال الطحاوي: كان مشايخنا يقولون بذلك أي بالتكبير في أيام العشر5.
فمثل هذه الأيام (أيام العشر) أيام ذكر وتهليل، وتحميد وتسبيح، فما أجمل الأيام حين تعلو فيها الأصوات معلنة لبارئها بالإقرار، ومقرة له بالاستسلام، ومخبرة بالاستجابة: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك، إنه الصدع بالحق، وإعلاء كلمة التوحيد، فالخالق – جل وعلا – هو المتفرد في أسمائه، وصفاته، وخلقه، وتدبيره سبحانه يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (سورة الرحمن:29).
إن الله قد جعل لمثل هذه الأيام خصيصة عظيمة مليئة بالذكر، والتهليل، والتلبية، فإذا بالجميع يرفعون أصواتهم بالتكبير، وإذا بالحاج يصدح بالتلبية والتهليل، لما أمره الله أن يذكره ذكراً كثيراً، قال ممتناً على عباده إذ هداهم: فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّآلِّينَ (سورة البقرة:198)، وأثنى على الحجاج خاصة حين يبتهلون ويتضرعون، ويسألونه رضاه في الأولى والأخرى فقال: فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ وِمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (سورة البقرة:200-201).
إن نعم الله علينا تترى، ولو تأمل متأملٌ في أصناف العبادات لوجدها أعظم النعم، فعلى سبيل المثال: من رحمة الله – تعالى – علينا أنه لما جعل العشر الأول من ذي الحجة أيام خير وبركة؛ أخبر عباده بذلك، وهذه نعمة منه سبحانه، ولما علموا أن فيها أجراً كبيراً أخبرهم ما يصنعون، وكيف يحصلون على أكبر قدر من الأجر في هذه الفرصة الذهبية، فأرشدهم إلى التكبير والذكر، والتهليل والتلبية، والحمد والتسبيح، وهذا كله من كرم الله وفضله على العباد، فما على المسلم إلا أن يعمل جادًا في تحصيل هذا الثواب ليحقق شكر المنعم امتثالاً لقوله سبحانه: وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (سورة البقرة:185).
نسأل الله بمنه وكرمه، وقدرته على الخلق، وعلمه الغيب؛ أن يرزقنا النعمة، ويرزقنا شكرها، وأن يجعلنا من عباده الصالحين.
والحمد لله رب العالمين.