الاتفاق على إثبات حديث الافتراق

الاتفاق على إثبات حديث الافتراق

 

الحمد لله وحده، وأصلي وأسلم على من لا نبي بعده، أما بعد:

جاء في الحديث الثابت عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((افترقت اليهود على إحدى أو ثنتين وسبعين فرقة، وتفرقت النصارى على إحدى أو ثنتين وسبعين فرقة، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة)) ، ليبين لنا نبينا – صلى الله عليه وسلم – الحالة التي ستصل إليها الأمة في فترة من فتراتها، والمأساة التي تحل بها في آخر أزمانها، مما يجعلها تتجاوز اليهود والنصارى في عدد فرقها، وكثرة أحزابها، وتفرق كلمتها، وتمزق صفها، وشتات أمرها، ومعصية ربها، وتخاذل موقفها، ويبين عظم الحدث، وحجم الكارثة، وفضح المخالفين؛ وانبرت طوائف من المسلمين لتقول: "إن الحديث ضعيف"، وأنه لا يصح؛ لأنه لم يرد عند البخاري ولا مسلم؛ بل كثر اللغط حول حديث الافتراق فوصفه بعض الاكاديمين الذين لا يميزون صحيح الحديث من سقيمه، وعامه من خاصه؛ بالمضطرب أو الشاذ، ويلقون الكلام على عواهنه، وإذا تأملت هذا جيداً رأيت أنهم أوتوا من قبل فهمهم، وكما قال القائل:

قد تنكر العين ضوء الشمس من رمد                  وينكر الفم طعم الماء من سقم

فالآفة ليست في الماء، ولا في الشمس، بل في العين والفم.

ولذا وجب الوقوف عند كل جزئية من جزئيات هذا الحديث، وتفصيلها تفصيلاً علمياً حتى نستفيد ونفيد، والله الموفق.

أولاً: طرق الحديث:

رواه أبو داود1 من طريق وهب بن بقية عن خالد عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((افترقت اليهود على إحدى أو ثنتين وسبعين فرقة، وتفرقت النصارى على إحدى أو ثنتين وسبعين فرقة، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة)).

ورواه الترمذي2 من طريق الحسين بن حريث أبو عمار حدثنا الفضل بن موسى عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة – رضي الله عنه -: أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: ((تفرقت اليهود على إحدى وسبعين أو اثنتين وسبعين فرقة، والنصارى مثل ذلك، وتفترق أمتي ثلاث وسبعين فرقة)).

ورواه ابن ماجة3 من طريق أبو بكر بن أبي شيية قال: حدثنا محمد بن بشر حدثنا محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((تفرقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة)).

ورواه أحمد4 بإسناده عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((افترقت اليهود على إحدى أو اثنتين وسبعين فرقة، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة)).

ورواه ابن حبان5 من طريق أحمد بن علي بن المثنى حدثنا الحارث بن سريج النقال أخبرنا النضر بن شميل عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة)).

وغير هؤلاء الأئمة كثير ممن رووا الحديث، وحكموا عليه بالصحة والحسن؛ لأنه مستوفٍ للشروط اللازمة عند علماء الحديث؛ من عدالة الرواة، وضبطهم، واتصال السند، وانتفاء الشذوذ والاعتلال، ثم جاء المتأخرون من العلماء المحققين فدرسوا أسانيده سنداً سنداً، وفتشوا عن متونه متناً متناً، فحكموا عليها بالصحة أو الحسن، وما كان من ضعف في طرقه بينوه وأوضحوه، فكل ما ذكرنا من الطرق نراهم يحكمون عليها إما بالصحة أو الحسن سواءً من المتقدمين أو المتأخرين:

فقد رواه من الصحابة أبو هريرة، ومعاوية بن أبي سفيان، وأنس بن مالك، وعوف بن مالك الأشجعي، وأبي أمامة الباهلي، وسعد بن أبي وقاص، وعمرو بن عوف المزني، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وأبي الدرداء، وواثلة بن الأسقع – رضي الله عنهم أجمعين -.

ورواية هذا الجمع الذين يستحيل تواطؤهم على الكذب؛ ترقى بالحديث إلى حد التواتر، أو ما هو قريب منه، وكثيراً من هذه الأحاديث أسانيدها نظيفة؛ كحديث أبي هريرة، ومعاوية، وعوف بن مالك، وأبي أمامة وغيرهم، وعلى فرض أن أسانيد هذه الأحاديث في مفرداتها ضعف فلا يشك من له أدنى خبرة بالصناعة الحديثية أن ضعفها ليس شديداً، وهي بذلك ترتقي إلى درجة الصحة والثبوت والاحتجاج، كما أن أئمة الصنعة الحديثية حكموا على حديث الفرقة الناجية بالثبوت ولم يختلفوا في تصحيحه، ودونك سرد بأسمائهم، ومواطن قولهم:

أولاً: حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – قال الترمذي "حديث حسن صحيح"6، وقال الحاكم: "صحيح على شرط مسلم"، ووافقه الذهبي7.

ثانياً: حديث معاوية بن أبي سفيان – رضي الله عنه -، قال الحاكم: "هذه أسانيد تقوم بها الحجة في تصحيح هذا الحديث"، ووافقه الذهبي8، وقال الحافظ ابن حجر: "حسن"9.

ثالثاً: قال شيخ الإسلام: "الحديث صحيح مشهور في السنن والمسانيد"10.

رابعاً: قال الشاطبي: "صح من حديث أبي هريرة"11.

خامساً: قال الحافظ ابن كثير: "كما جاء في الحديث المروي في المسانيد والسنن من طرق يشد بعضها بعضاً: أن اليهود افترقت…" الحديث12.

سادساً: وممن نص على ثبوته عبد القاهر البغدادي فقال: "للحديث الوارد على افتراق الأمة أسانيد كثيرة"13.

سابعاً: محدث العصر الإمام الألباني عقد بحثاً حديثياً نفيساً، وفند فيه شبهات المخالفين14.

وكل هؤلاء الأعلام الفحول جزموا بصحة الحديث وثبوته، خلافاً لبعض المعاصرين الذين تكلموا في غير فنهم؛ فأتوا بالعجائب.

ويمكن الجزم بتلقي أئمة الحديث لهذا الحديث بالقبول بطريقتين:

الأولى: كثرة أصحاب السنن، والمسانيد، والمعاجم، وكتب التراجم، والعقائد؛ الذين رووه دون إنكار لمتنه.

الثانية: كثرة الكتب التي صنفت في الملل والنحل: مثل "الملل والنحل" للشهرستاني، و"الفرق بين الفرق" للبغدادي، و"الفِصَل في الأهواء والملل والنِّحَل" لابن حزم، و"مقالات الإسلاميين" لأبي الحسن الأشعري – وغيرهم -.

فهل لقائل بعد هذا أن يقول بضعف الحديث، أو أنه لم يثبت.

ومن أراد الاستزادة فليرجع إلى كتب أهل الحديث ليرى طرق الروايات كلها، حتى يتبين له ثبوت هذا الحديث، وتلقي الأمة له بالقبول، وبناء الأحكام عليه، حتى صار من أسس الأحاديث في باب الاعتقاد، والله أعلم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.


1 سنن أبي داود برقم (4596)، وحسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود برقم (4596).

2 سنن الترمذي برقم (2640)، وقال الألباني "حسن صحيح" في صحيح الترمذي برقم (2640).

3 سنن ابن ماجة برقم (3991)، وقال الألباني "حسن صحيح" في صحيح ابن ماجة برقم ( 3991).

4 مسند أحمد برقم (37510)، وحسن إسناده الأرناؤوط في تعليقه على مسند أحمد برقم (8377).

5 في صحيحه برقم (6247)، وأخرجه الطبراني برقم (129)، وابن أبى عاصم فى السنة برقم (63)، واللالكائى فى اعتقاد أهل السنة برقم (149)، وأبو يعلى برقم (5910).

6 سنن الترمذي رقم (2640)، وقال الحاكم: "صحيح على شرط مسلم"، ووافقه الذهبي المستدرك (ج1 ص128).

7 المستدرك (ج1 ص128).

8 المستدرك (ج1 ص128).

9 تخريج أحاديث الكشاف ( ص63).

10 مجموع الفتاوى (ج3 ص345).

11 الاعتصام (ج2 ص186).

12 تفسير ابن كثير (ج2 ص482).

13 في كتابه "الفرق بين الفرق" (ص7).

14 في السلسلة الصحيحة ص204 وص205.