دروس وعبر من غزوة الأحزاب

دروس وعبر من غزوة الأحزاب(626 م – 5 هجرية)

 

الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.. أما بعد:

فهذه مجموعة دروس وعبر منتقاة من غزوة الأحزاب التي وقعت بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين الأحزاب الكفرة المعتدين من أهل قريش واليهود وكفار العرب الذين أرادوا إزالة الإسلام من معقله ومن منبته في المدينة المشرفة زادها الله شرفا ونورا، وهي حادثة معروفة، وسوف نأخذ من دروسها وعبرها ما ينفع كل مؤمن لبيب عاقل، فمن تلك الدروس:

1- أن اجتماع الأحزاب وأعداء الإسلام على الدين وأهله عادة ماضية في كل زمان ومكان، فلا تنقطع عداوتهم، وفي ذلك حكمة بالغة في الرجوع إلى الله، وصدق التوكل عليه، والإنابة والذل وإظهار الحاجة، وبذل الغالي لهذا الدين، قال تعالى: {يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ}التوبة:32. إلا أن الله -عز وجل- حامي دينه، وناصر عباده المؤمنين، قال ابن القيم -رحمه الله-: "فمن ظن بأنه لا ينصر رسوله، ولا يتم أمره، ولا يؤيده ويؤيد حزبه، ويعليهم ويظفرهم بأعدائه، ويظهرهم عليهم، وأنه لا ينصر دينه وكتابه، وأنه يديل الشرك على التوحيد والباطل على الحق إدالة مستقرة، يضمحل معها التوحيد والحق اضمحلالاً لا يقوم بعده أبداً، فقد ظن بالله ظن السوء، ونسبه إلى خلاف ما يليق بكماله وجلاله وصفاته ونعوته، فإن حمده وعزته وحكمته وإلهيته تأبى ذلك، وتأبى أن يذل حزبه وجنده، وأن تكون النصرة المستقرة والظفر الدائم لأعدائه المشركين به، العادلين به، فمن ظن به ذلك فما عرفه، ولا عرف أسماءه، ولا عرف صفاته وكماله" 1 وعلى مر العصور وتقلب الدهور قول الصادق: (بَشِّرْ هَذِهِ الْأُمَّةَ بِالسَّنَاءِ وَالرِّفْعَةِ وَالدِّينِ وَالنَّصْرِ وَالتَّمْكِينِ فِي الْأَرْضِ)2 لكن الأمر مشروط بشروطه، ومقيد بقيوده: {إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ}محمد:173.

2- ومن الدروس أن الله -عز وجل– يحفظ عباده المؤمنين في معاركهم ويمدهم بجيش من عنده ولا يضيعهم، كما أنزل عليهم الملائكة يوم بدر، وأرسل الريح في غزوة الأحزاب. كما قال: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ}الروم:47 وقال:{إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} الحج:38. وهنا في الأحزاب قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا}(9) سورة الأحزاب.

3- ومن الدروس أيضاً أن المؤمن لا تزيده الكروب والشدائد إلا إيماناً ويقيناً وصلابة بخلاف الذين في قلوبهم مرض، وفي ظل هذه الغزوة، وهذا الجو الشديد، والكرب العظيم، انقسم الناس إلى قسمين: قسم آمن بوعد الله ونصره، كما قال تعالى: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً}الأحزاب:22.

وأما المنافقون والذين في قلوبهم مرض فقد زاغت قلوبهم، عندما رأوا جموع الكفار وعدتهم، كما صور ذلك سبحانه وتعالى: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً}الأحزاب:13.

وقال المنافقون: "كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر، وأحدنا اليوم لا يأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط"4 وتنصلوا من الجهاد وهربوا منه.{وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَاراً}الأحزاب:113.

4- ومن الدروس المستفادة من هذه الغزوة أن على القائد أن يستشير أصحابه، ويأخذ آراءهم، كما استشار النبي -صلى الله عليه وسلم- أصحابه، فأشار سلمان الفارسي -رضي الله عنه– وقال: يا رسول الله: "إنا كنا بأرض فارس إذا حوصرنا خندقنا علينا". فاستحسن رسول الله  هذا الرأي منه وعمل به، وكان مما لم تعرفه العرب.

5- ومن الدروس المستفادة  أنه يجب على المسلمين إعداد العدة، واتخاذ وسائل القوة الممكنة مهما كان مصدرها، لأن الحكمة ضالة المؤمن، فحيثما وجدها أخذها، فحفر الخندق يدخل في مفهوم القوة لقوله تعالى: {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ}(60) سورة الأنفال).

6- ومن الدروس أن على المسلم الاستسلام لله ورسوله فإنه سبب للثبات عند الشدائد، كما جاء في سورة الأحزاب: {روَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِيناً} آية 36 الأحزاب. وهذه الآية تؤكد على هذا المعنى وهو الاستسلام لله تعالى والامتثال لأوامره وأوامر رسوله، ولو لم يعرف المسلم الحكمة من وراء ذلك، فهو عبد لله وطاعته لازمة وواجبة.

7- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أعطى مثلاً حياً على رأفته بالمؤمنين، حيث شاركهم في حفر الخندق، ويوم أشركهم معه في طعام جابر، ولم يستأثر به.

و هذا مصداقاً لقول الله تعالى: {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ}(128) سورة التوبة. فهو -صلى الله عليه وسلم- أرحم بهم، وأشد رفقاً حتى في أحلك الظروف، وأشد المواقف.  

8- أن المعجزات الكثيرة التي أجراها الله على يد نبيه محمد -صلى الله عليه وسلم- في هذه الغزوة، سواء التي كانت في حفر الخندق، أو تكثير طعام جابر، أو الرياح التي كانت عذاباً من الله على المشركين، لهي من تأييد الله  لرسوله والمؤمنين، ولإقامة الحجة على  أعداء الدين.

9- ومن الدروس مشروعية قضاء الفائتة فإن المشركين لما شغلوا الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه عن صلاة، صلوها قضاء بعد المغرب.

10- ومن الدروس أن النصر في المعارك لا يكون بكثرة العدد، ووفرة السلاح، وإنما يكون بقوة الروح المعنوية لدى الجيش، وقد كان الجيش الإسلامي في جميع معاركه، يمثل العقيدة النقية والإيمان المتقد، والفرح بالاستشهاد، والرغبة في ثواب الله وجنته، كما يمثل الفرحة من الانعتاق من الضلال، والفرقة والفساد، بينما كان جيش المشركين يمثل فساد العقيدة، وتفسخ الأخلاق، وتفكك الروابط الاجتماعية، والانغماس في الملذات، والعصبية العمياء للتقاليد البالية، والآباء الماضين، والآلهة المزيفة.

11- ومن الدروس أيضاً أن الخدعة في حرب الأعداء مشروعة، إذا كانت تؤدي إلى النصر، وأن كل طريق يؤدي إلى النصر وإلى الإقلال من سفك الدماء مقبول في نظر الإسلام، ما عدا الغدر والخيانة. ويأخذ هذا مما طلبه الرسول -صلى الله عليه وسلم- من نُعيم بن مسعود، أن يخذِّل بين الأحزاب ما استطاع في غزوة الأحزاب.

وهذا من حكمته السياسية والعسكرية -صلى الله عليه وسلم-، وهو لا ينافي مبادئ الأخلاق الإسلامية، فإن المصلحة في الإقلال من عدد ضحايا الحروب مصلحة إنسانية.

والمصلحة في انهزام الشر والكفر والفتنة مصلحة إنسانية وأخلاقية، فاللجوء إلى الخدعة في المعارك يلتقي مع الأخلاق الإنسانية التي ترى في الحروب شراً كبيراً، فإذا اقتضت الضرورة قيامها، كان من الواجب إنهاؤها عن أي طريق كان، لأن الضرورة تقدر بقدرها، والله لم يشرع القتال إلا لحماية دين أو أمة أو أرض، فالخدعة مع الأعداء بما يؤدي إلى هزيمتهم، تعجيل بانتصار الحق الذي يحاربه أولئك المبطلون.

ولذلك أثر عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- في هذه الغزوة قوله لعروة بن مسعود:(الحرب خدعة)5 وهذا مبدأ مسلم به في جميع الشرائع والقوانين.

12- وفي تقدم النبي -صلى الله عليه وسلم- الصفوف في هذه المعركة، وفي كل معركة، وخوضه غمارها معهم إلا فيما يشير به أصحابه، دليل على أن مكان القيادة لا يحتله إلا الشجاع المتثبت، وأن الجبناء خائري القوى لا يصلحون لرئاسة الشعوب، ولا لقيادة الجيوش، ولا لزعامة حركات الإصلاح، ودعوات الخير، فشجاعة القائد والداعية بفعله وعمله يفيد في جنوده وأنصاره في إثارة حماسهم، واندفاعهم ما لا يفيده ألف خطاب حماسي يلقونه على الجماهير.

ومن عادة الجنود والأنصار أن يستمدوا قوتهم من قوة قائدهم ورائدهم، فإذا جبن في مواقف اللقاء، وضعف في مواطن الشدة، أضر بالقضية التي يحمل لواءها ضرراً بالغ6.

13- ومن الدروس المستفادة أن المنح تخرج من رحم المحن، فهذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في هذا الظرف القاسي والشديد، والصحابة في حصار وجوع، وخوف شديد يضرب الصخرة، ويبشرهم بكنوز كسرى، ودخول المدائن، وفتح اليمن، الله أكبر! إن زراعة الأمل في مثل هذا الظرف ليدل على مدى ثقة القائد بوعد الله ونصره ورباطة الجأش والطمأنينة الكبيرة. 

هذا ما تيسر ذكره من الدروس والعبر المستفادة من غزوة الأحزاب، نسأل الله تعالى أن يوفقنا لما يحب ويرضاه.

وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.   


1 –  زاد المعاد جزء 3 –  صفحة 196 

2 – مسند أحمد – (ج 43 / ص 231 – 20273) وقال الألباني: (صحيح) انظر حديث رقم: 2825 في صحيح الجامع .

3 – المرجع بتصرف غزوة الأحزاب مواقف وعبر  http://www.kalemat.org/sections.php?so=va&aid=64

4 – السيرة النبوية لابن كثير – (ج 3 / ص 201)

5 – صحيح البخاري – (ج 10 / ص 229 – 2805) وصحيح مسلم – (ج 9 / ص 165 – 3273) عن جابر.

6  –  المراجع بتصرف : 1 – السيرة النبوية دروس وعبر – مصطفى السباعي