أبو محذورة المؤذن

أبو محذورة المؤذن

 

الحمد لله ما حمده الذاكرون الأبرار، وصلى الله وبارك على النبي المختار، وعلى آله وصحبه نجوم الدنيا والصفوة الأخيار.

أما بعد:

فلقد ربى النبي – صلى الله عليه وسلم – جيلاً من الناس، ليسوا كسائر الناس، جيلاً مميزاً في تاريخ الإسلام كله، وفى تاريخ البشرية كلها.

جيل أسكن الإيمان خلجات صدره فاستلذ العذاب عندما لامست كلمة التوحيد شغاف قلبه، وأقام صروح الهدى بين جنبات نفسه، وأرسخ دعائم التقى فهانت عليه كل عائقة تقطعه عن خالقه وربه، فهم صفوة من وطأة أقدامهم روابي المعمورة، وأزكى من عرفت الدنا بالأخبار المتواترة المشهورة. {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ}1

كانوا للدنيا أعلامها ورموزها النيرة، وللكون شموسها وطاقاتها المسيرة

أولئك قوم شيّد الله فخرهم          فما فوقه فخر وإن عظم الفخر

سيرتهم حديث ذو شجون تنعش الفؤاد المكلوم، وتبعث الشموخ والفخر في نفس المحزون

كرر على حديثهم يا شادي        فحديثهم يروي الفؤاد الصادي

قال عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-: "إن الله تعالى اطلع في قلوب العباد فاختار محمداً – صلى الله عليه وسلم – فبعثه برسالته، وانتجبه بعلمه، ثم نظر في قلوب العباد بعده، فاختار له أصحاباً فجعلهم أنصار دينه ووزراء نبيه -صلى الله عليه وسلم-"

فلا باس أن نعرج على شخصية من ذلك المجتمع الرباني، الذي أشرف على تربيته أمين من في السموات والأرض، محمد بن عبد الله – صلى الله عليه وسلم  -.

شخصية تخرجت من جامعة التربية المحمدية، أقوى جامعة عرفها التاريخ في اختصاص صقل النفوس، وتهذيب الأخلاق، وتزكية الأرواح.

 شخصية تفوح نسيما وعطرا، وتُطيب قارئها وسامعها مسكا وعبقا، لو لم يكن في شرفها إلا أنها صحبت النبي – صلى الله عليه وسلم – لكفى بها منقبة وتيها.

إنها شخصية: أبي محذورة المؤذن

اسمه وكنيته وأسرته:

اسمه أوس بن ربيعة بن معير بن عريج بن سعد بن جُمَح. قال البلاذري: الأثبت أنه أوس، وجزم ابن حزم في كتاب "النسب" بأن سمرة أخوه، وخالف أبو اليقظان في ذلك فجزم بأن أوس بن معير قُتل يوم بدر كافراً، وأنَّ اسم أبي محذورة سلمان بن سمرة، وقيل: سلمة بن معير، وقيل اسم أبي محذورة معير بن محيريز.

 وقال أبو عمر: اتفق الزبير وعمه وابن إسحاق والمسيبي على أن اسم أبي محذورة أوس، وهم أعلم بأنساب قريش. ومن قال إن اسمه سلمة فقد أخطأ.2

ويقال أن اسمه "سمرة" بن مِعْيَر بكسر أوله وسكون المهملة وفتح التحتانية المثناة وهذا هو المشهور.3

وحكى ابنُ عبد البر أن بعضهم ضبطه بفتح العين وتشديد التحتانية المثناة بعدها نون.

بعض فضائله:

قال عنه الذهبي – رحمه الله-: " مؤذن المسجد الحرام، وصاحب النبي – صلى الله عليه وسلم – وقد كان من أندى الناس صوتاً، فعن أبي محذورة قال: لما رجع النبي – صلى الله عليه وسلم – من حنين خرجت عاشر عشرة من مكة نطلبهم، فسمعتهم يؤذنون للصلاة، فقمنا نؤذن نستهزئ، فقال النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – :((لقد سمعت في هؤلاء تأذين إنسان حسن الصوت)). فأرسل إلينا، فأذنَّا رجلاً رجلاً، فكنت آخرهم، فقال حين أذنت: ((تعال)). فأجلسني بين يديه، فخلع عمامتي ومسح على ناصيتي ثم قال: ((اللهم بارك فيه، وأهده إلى الإسلام))، فبارك عليَّ ثلاث مرات، ثم قال: ((اذهب فأذن عند البيت الحرام)).

قلت: كيف يا رسول الله؟ فعلمني الأولى كما يؤذنون بها، وفي الصبح الصلاة خير من النوم، وعلمني الإقامة مرتين مرتين.4

وجاء أنه بعدما مسح رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على شعره لا يجز ناصيته ولا يفرقها قال: "والله لا أحلق هذا الشعر حتى أموت".

شعر مسه ذاك الكف، والله لا أحلقه حتى أموت، فوصل شعره إلى نصف جسمه، ولذلك كان يرده جذائل.5

وعن عبد العزيز بن عبد الملك بن أبي محذورة أن عبد الله بن محيريز أخبره، وكان يتيماً في حجر أبي محذورة حين جهزه إلى الشام، فعلمه الأذان.6

قال الواقدي: كان أبو محذورة يُؤذِّنُ بمكة إلى أنْ توفي سنة تسع وخمسين، فبقي الأذان في ولده وولد ولده إلى اليوم بمكة قيل: بقي الأذان في ذريته إلى زمن الشافعي.  

 وأنشد مصعب بن عبد الله لبعضهم:

        أمـا ورب الكعبة الـمستـوره **** ومـا تـلا محـمد مـن سـورة

        والنـغمات مـن أبي محـذوره **** لأفعـلنَّ فعــلة منـكـــورة 7

 وعن ابن أبي مليكة أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أعطى أبا محذورة الأذان، فقدم عمر فنزل دار الندوة فأذن وأتى يسلم، فقال عمر: ما أندى صوتك أما تخشى أن ينشق مريطاؤك من شدة صوتك؟ قال: يا أمير المؤمنين قدمت فأحببت أن أسمعك صوتي، قال: يا أبا محذورة إنك بأرض شديدة الحر، فأبرد عن الصلاة، ثم أبرد عنها، ثم أذن، ثم أقم تجدني عندك.8

ولما كانت قصة إسلام أبي محذورة فيها من الغرابة ما فيها، كانت بدأت باستهزائه بالأذان، ثم انتهت بإسلامه؛ ولذلك فإنَّ بعض العلماء يعنونون لقصته تلك بقولهم: " قصة المستهزئ الذي هداه الله ".

فقهيات أذانه بين الإئمة:

يقول ابن القيم: "وكان أبو محذورة منهم يرجع الأذان ويثني الإقامة، وبلال لا يرجع ويفرد الإقامة، فأخذ الشافعي -رحمه الله- وأهل مكة بأذان أبي محذورة وإقامة بلال،

وأخذ أبو حنيفة -رحمه الله- وأهل العراق بأذان بلال وإقامة أبي محذورة.

وأخذ الإمام أحمد -رحمه الله- وأهل الحديث وأهل المدينة بأذان بلال وإقامته، وخالف مالك -رحمه الله- في الموضعين إعادة التكبير وتثنية لفظ الإقامة فإنه لا يكررها.

وفاته:

قال ابنُ الكلبيِّ : لم يهاجرْ أبو محذورة، بل أقامَ بمكة إلى أنْ ماتَ بعد موت سَمُرة بن جُنْدُب.9 وقال غيرُهُ: مات سنة تسع وخمسين.10 وقيل سنة تسع وسبعين.11

عليك السلام يا رسول الله، ورضي الله عنك يا أبا محذورة، والحمد لله رب العالمين.


1 سورة الأنعام (90) .

2 الإصابة في تمييز الصحابة (7/365).

3 تهذيب الأسماء ( 2/543).

4  سير أعلام النبلاء (2/117).

5 معرفة الصحابة لأبي نعيم

6 المحلى لابن حزم (3/151).

7 سير أعلام النبلاء (3/ 118).

8 سير أعلام النبلاء (38119).

9 الإصابة في تمييز الصحابة(7/ 365).

10 شذرات الذهب ( 1/65).

11 الاستيعاب في معرفة الأصحاب