تعلم الهمة العالية من الصف الأول
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وعلى آله وصحبه والتابعين، ومن اهتدى بهداه إلى يوم الدين .. أما بعد:
المؤمن صاحب همةٍ عالية، لا يرضى بالدون أبداً، بل يسعى إلى العلو، وبهذا جاء الدين فقد قال الله في كتابه الكريم: وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ1، سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ2، وهنا يحث – سبحانه – عباده إلى المسارعة والمسابقة إلى الجنان، ويدعوهم إلى فعل ما ينفعهم، وترك ما يضرهم، ويحضهم على التنافس الحقيقي المثمر الذي تقوده الهمة العالية، يقول عز من قائل كريم: وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ3، والنبي – صلى الله عليه وسلم – يبين أن الناس كلهم غادون، فمنهم من يعتق نفسه، ومنهم من يوبقها فعن أبي مالك الأشعري قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: كل الناس يغدو فبايع نفسه؛ فمعتقها، أو موبقها4.
الهمة العالية هي شعار أهل الإيمان، والنصوص في هذا الباب كثيرة، لكن الذي نريد لفت النظر إليه هو: كيف أن الصف الأول يدعونا لكي تكون هممنا عالية، انظر كيف أن النفس تكاد تنطلق مشتاقة للأجر وهي تسمع هذا الحديث العظيم فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: لو يعلم الناس ما في النداء، والصف الأول؛ ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه؛ لاستهموا5، قال ابن عبد البر – رحمه الله -: “وأما قوله في حديث مالك: ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا؛ فالهاء في (عليه) عائدة على الصف الأول لا على النداء، وهو حق الكلام أن يرد الضمير منه إلى أقرب مذكور، ولا يرد إلى غير ذلك إلا بدليل”6.
إن الانطلاق نحو المسجد لإدراك الصف الأول؛ لينم عن قوة العزيمة، وعلو الهمة، وصلاح الفؤاد؛ كم نحرص في أمور الدنيا أن نكون في المقدمة، ونحرص أن ننال منها النصيب الأكبر؛ فكيف نرضى لأنفسنا أن نكون في المؤخرة عندما ننافس على الآخرة.
انظر – رعاك الله – لحالنا في المنافسة على الصف الأول كيف أنك تجده غالباً قد امتلأ بكبار السن، وافتقد الشباب الأقوياء، للأسف الشديد تأخر الأشداء، وشغلتهم الشواغل، أما تذكر هؤلاء حديث النبي – صلى الله عليه وسلم – وهو يذكر خطورة التأخر عن الصفوف الأولى فعن أبي سعيد الخدري أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – رأى في أصحابه تأخراً فقال لهم: تقدموا فائتموا بي، وليأتم بكم من بعدكم، لا يزال قوم يتأخرون حتى يؤخرهم الله7، قال الإمام النووي – رحمه الله -: “لا يزال قوم يتأخرون أي عن الصفوف الأُوَل؛ حتى يؤخرهم الله – تعالى – عن رحمته، أو عظيم فضله، ورفع المنزلة، وعن العلم ونحو ذلك”8، وقال صاحب عمدة القاري: “قوله: لا يزال قوم يتأخرون أي عن الصف الأول، حتى يؤخرهم الله عن عظيم فضله، أو رفع منزلته، أو نحو ذلك”9، وكم سبق صاحب الصف الأول غيره في الفضل والخير، فكما قيل: “الرباني لا يرضى بالصف الثاني” بل دائماً همته عالية، لا يرضى إلا بالمقدمة.
إن الصعود إلى القمم يحتاج إلى التخفف من الأثقال، فكيف نحافظ على الصف الأول وقد أثقلتنا ذنوبنا، وسيطرت علينا معاصينا.
عندما تمتلئ القلوب بحب الدنيا فإنها تثقل عن أداء الصلاة، وعن ذكر الله – نسأل الله العافية -، ونخشى أن يتطور الأمر بعد ذلك إلى ما أخبر – تعالى – عنه ووصف فيه كسل المنافقين: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلاَّ قَلِيلاً10، فلنحذر أخي أن نكون منهم فإنما هي خطوات يرسمها إبليس؛ ففي البداية تأخر عن الصف الأول بدون عذرٍ شرعي، ثم عن الجماعة، ثم ترك للجماعة، ثم ترك الصلاة بالكلية! والله المستعان! قال الله – تعالى -: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَاء وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ11.
اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً وعملاً، وتقوى وصلاحاً يا رب العالمين.
1 (سورة آل عمران:133).
2 (سورة الحديد:21).
3 (سورة المطففين:26).
4 رواه مسلم برقم (223).
5 رواه البخاري برقم (590)، ومسلم برقم (437).
6 الاستذكار لابن عبد البر (1-378).
7 رواه مسلم برقم (438).
8 المنهاج شرح صحيح مسلم للإمام النووي (4-159).
9 عمدة القاري (5-249).
10 (سورة النساء:142).
11 (سورة النور:21).