على مائدة الطعام
الحمد لله صاحب النعم التي لا تحصى، والخيرات التي لا تعد، والملك الذي لا يحد، واهب العطاء ومسدي النعماء، يُطعِم ولا يُطعَم، كل الكائنات مفتقرة إلى فضله، محتاجة لإنعامه وهو لا يحتاج إلى أحد {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ}1، والصلاة والسلام على معلم البشر، من بشر وأنذر، وبين لأمته ما أمره ربه، فما أنقص ولا قصر، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن سار على الأثر، وسلم تسليماً لا ينقطع له أثر، عدد الرمل والحصى والحجر.
أما بعد: أحبتنا الكرام، أهلا بكم في هذا اللقاء الطيب ومرحباً، غير خزايا ولا ندامى.
أحبتنا الكرام: نعيش معكم هذه اللحظات الماتعة، نشكر الله سبحانه ونحمده على ما رزقنا من غير حول منا ولا قوة
ونتفقه في ديننا، نتأمل في بعض أسرار هذا التشريع الرباني الحكيم، في هذه اللحظات نجلس حول مائدة الطعام، لكن لا لنأكل أو نشرب، لكن لنتعلم كيف نأكل ونشرب، لنعرف هدي الإسلام في الأكل والشرب؛ وننبه على بعض المخالفات التي قد نرتكبها عن علم أو غير علم، فنقول بد ذلك خاضعين: سمعنا وأطعنا.
التنبيه الأول:اجتمعوا اجتمعوا..
إخوتنا الكرام، إن من الملاحظ المحسوس في كثير من بيوت المسلمين، أن الطعام ينتهي سريعاً من أمام العيون، والجوع مازال يطارد البطون، بمعنى قلة البركة في كثير من بيوت المسلمين، فما هو السر في ذلك يا ترى؟
أيها الإخوة الكرام: عندما نتأمل – لا مجرد القراءة – في مجموع النصوص الشرعية الواردة في هذه المسألة، نجد أن الشرع الإسلامي وضع لهذه المشكلة ثلاثة أدوية ناجعة، وهي كفيلة بأن تجتث هذا الداء من عروقه، فما هي هذه الأدوية؟
الدواء الأول: الاجتماع على الطعام.
فلقد اشتهر عند كثير من الناس في بعض الدول الإسلامية، أن يأكل كل فرد بمفرده، وهذا كان من أقوى أسباب نزع البركة من الطعام.
أيها الإخوة الكرام: في يوم من الأيام، جاء الصحابة – رضوان الله عليهم – إلى النبي صلى الله عليه وسلم متعجبين مستغربين، يقولون: يا رسول الله إنا نأكل ولا نشبع؟! قال: ((فلعلكم تفترقون))؟ قالوا: نعم! قال: ((كلوا جميعا
ولا تفرقوا؛ فإن طعام الواحد يكفي الاثنين وطعام الاثنين يكفي الثلاثة والأربعة كلوا جميعا ولا تفرقوا؛ فإن البركة في الجماعة ))2.
وقد ورد هذا الحديث بألفاظ تؤكد هذا المعنى " في ( صحيح مسلم ) من حديث عائشة – رضي الله عنها -: ((طعام الواحد يكفي الاثنين وطعام الاثنين يكفي الأربعة وطعام الأربعة يكفي الثمانية)) و عند ابن ماجة: ((طعام الواحد يكفي الاثنين وطعام الاثنين يكفي الثلاثة والأربعة وإن طعام الأربعة يكفي الخمسة والستة ))، وعند الطبراني: ((كلوا جميعا ولا تفرقوا فإن الطعام الواحد يكفي الاثنين))، والغرض من هذه الأحاديث الحض على المكارمة والتقنع بالكفاية والمواساة، بأنه ينبغي إدخال ثالث لطعامهما ورابع أيضا حسبما يحضر، وإن البركة تنشأ من كثرة الاجتماع ( قال ابن بطال : الاجتماع على الطعام من أسباب البركة . فتح الباري 10 / 574 ) فكلما ازداد الجمع زادت كذا في " الكوكب الدراري " و فتح الباري " وغيرهما"3
الدواء الثاني: عدم الأكل من وسط الطعام.
ويغفل عن هذا كثير من المسلمين، إما نسياناً، أو عن جهل، أو حتى تعمداً من بعضهم؛ لقوة داعي الشره عنده، فليقرأ هؤلاء جميعاً ما رواه ابن عباس – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(( إذا وضع الطعام فخذوا من حافته وذروا وسطه؛ فإن البركة تنزل في وسطه ))4
وقال عليه الصلاة والسلام: (( إن البركة تنزل في وسط الطعام فكلوا من حافته و لا تأكلوا من وسطه ))5.
الدواء الثالث: التسمية على الطعام.
لأن لهذه التسمية أسراراً عجيبة في كثير من الأحوال، ليس فقط في حالة الطعام، فإن من علو قدر هذه الكلمة في دين الإسلام أنها: يستفتح بها كلام الرحمن، ودخول المنزل والخروج منه، ولقاء الزوجين، وإدخال الميت القبر عن جابر بن عبد الله – رضي الله عنه – أنه سمع النبي- صلى الله عليه وسلم- يقول: (( إذا دخل الرجل بيته فذكر الله عند دخوله وعند طعامه قال الشيطان لا مبيت لكم ولا عشاء، وإذا دخل فلم يذكر الله عند دخوله قال الشيطان أدركتم المبيت، وإذا لم يذكر الله عند طعامه قال أدركتم المبيت والعشاء ))6
وتأملوا إخواننا الكرام في هذا الحديث العظيم، وهذه الأزمة الاقتصادية التي حدثت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكيف كان موقفه منها: عن عائشة –رضي الله عنها – قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل طعاماً في ستة نفر من أصحابه، فجاء أعرابي فأكله بلقمتين!! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(( أما أنه لو كان قال بسم الله لكفاكم فإذا أكل أحدكم طعاما فليقل بسم الله، فإن نسي أن يقول بسم الله في أوله فليقل بسم الله في أوله وآخره)).7
هكذا هو ديننا أيها الأخ الحبيب، آداب رفيعة، أخلاق عالية،نظافة وطهارة، يراعي المشاعر ويوافق الفطر ويحفظ الحقوق {تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ}،8 فما علينا إلا أن نعيشه في واقعنا، ونعلمه أهلينا وإخواننا وأخواتنا، وأبنائنا وبناتنا، ونبثه في مجتمعاتنا، ولا نحتاج أبداً بعد ذلك أن نستقي آداباً أو أخلاقاً أو حقوقاً من غير دين الإسلام، وسنجد كذلك البركات تفتح علينا بركات من السماء والأرض.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ}9 فمن لم يكتف بأخلاق دين الله فلا كفاه الله، ومن لم يرض بها فلا رضَّاه الله.
هو الإسلام ما للناس واقٍ سواه فأين يذهب من تعامى
لكل حقه ولمن تعدى جزاء البغي مقضيا لزاما
كفى بكتابكم يا قوم طباً لمن يشكو من الأمم السقاما
كتاب يملأ الدنيا حياة وينشر في جوانبها السلاما
أقيموا الحق بالسُوَر الغوالي فإن الله يأمر أن يقاما
وأوصوا المسلمين بها فإني أراهم عن ذخائرها نياما
تعالى الله أنزلها علينا عظاما تبعث الهمم العظاما
نرى في كل ما نعتاد منها إماما عادلا وفتى هماما
نرى معنى الحياة وكيف تسمو فتحتل الذؤابة والسناما
نرى الدنيا العريضة عند دين تزيد بركنه العالي اعتصاما
هي الأخلاق طيبة حسانا نقيم بها من الملك الدعاما
عليها فارفعوا البنيان حتى أرى بنايانكم بلغ التماما 10
ووالحمد لله رب العالمين
1 (1-2) سورة الإخلاص.
2 أنظر مسند البزار رقم (127)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع برقم (8630)وانظر السلسلة الصحيحة رقم (2691).
3 من حاشية كتاب: الموطأ – رواية محمد بن الحسن – (3 / 358)، تحقيق: د. تقي الدين الندوي- أستاذ الحديث الشريف بجامعة الإمارات العربية المتحدة.
4 أخرجه ابن ماجة في صحيحه برقم (3277)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب برقم (2123).
5 رواه الحاكم في المستدرك برقم(7118)، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير برقم (2471).
6 رواه مسلم برقم (5381).
7 رواه ابن ماجة في سننه برقم(3264)، وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجة.
8 سورة فصلت(42).
9 سورة إبراهيم(7) .
10 جميع دواوين الشعر العربي على مر العصور – (89 / 443)./font>