الصدق مع الله

الصدق مع الله

 

الحمد لله القائم على كل نفس بما كسبت، الرقيب على كل جارحة بما اجترحت، المطلع على ضمائر القلوب إذ هجست، الحسيب على خواطر عباده إذا اختلجت، الذي لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في السماوات والأرض تحركت أو سكنت، المحاسب على النقير والقطمير والقليل والكثير من الأعمال وإن خفيت، المتفضل بقبول طاعات العباد وإن صغرت، المتطوّل بالعفو عن معاصيهم وإن كثرت، وإنما يحاسبهم لتعلم كل نفس ما أحضرت، وتنظر فيما قدمت وأخرت، وتعلم أنه لولا لزومها للإخلاص والصدق والمحاسبة في الدنيا شقيت في صعيد القيامة وهلكت، وبعد الإخلاص والصدق والمحاسبة لولا فضله بقبول بضاعتها المزجاة لخابت وخسرت، فسبحان من عمت نعمته كافة البلاد وشملت، واستغرقت رحمته الخلائق في الدنيا والآخرة وغمرت، فبنفحات فضله اتسعت القلوب للإيمان وانشرحت، وبيُمن توفيقه تقيدت الجوارح بالعبادات وتأدبت، وبنصرته انقطعت مكائد الشيطان واندفعت، وبلطف عنايته تترجح كفة الحسنات إذا ثقلت، وبتسييره تيسرت من الطاعات ما تيسرت، فمنه العطاء والجزاء، والإبعاد والإدناء، والإسعاد والإشقاء، والصلاة والسلام على محمد سيد الأنبياء وعلى آله سادة الأصفياء، وعلى أصحابه قادة الأتقياء 1 .

أما بعد:

فإن خلق الصدق دليل الإيمان ولباسه، ولبه وروحه؛ كما أن الكذب بريد الكفر ونبته وروحه، والسعادة دائرة مع الصدق والتصديق، والشقاوة دائرة مع الكذب والتكذيب..

وهو من الأخلاق التي أجمعت الأمم على مر العصور والأزمان، وفي كل مكان، وفي كل الأديان على الإشارة به وعلى اعتباره فضله، وهو خلق من أخلاق الإسلام الرفيعة، وصفة من صفات عباد الله المتقين، ولذلك فقد وصف الله نبيه محمدا -صلى الله عليه وسلم- بأنه جاء بالصدق، وأن أبا بكر وغيره من المسلمين هم الصادقين، قال تعالى: {وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} سورة الزمر(33)..

كما أن التحلي بالصدق كان من أوليات دعوته -صلى الله عليه وسلم-؛ كما جاء مصرحاً بذلك في قصة أبي سفيان مع هرقل كما عند البخاري ومسلم، وفيها أن هرقل قال لأبي سفيان: فماذا يأمركم؟ يعني النبي -صلى الله عليه وسلم- قال أبو سفيان يقول: (اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئاً، واتركوا ما يقول آباؤكم، ويأمرنا بالصلاة، والصدق، والعفاف، والصلة).

كما أن الصدق سمة من سمات الأنبياء والمرسلين، وجميع عباد الله الصالحين؛ قال تعالى عن خليله إبراهيم –على نبينا وعلى جميع الأنبياء الصلاة والسلام-: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا} وقال عن إسحاق ويعقوب: {وَوَهَبْنَا لَهُم مِّن رَّحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا}، وقال عن إسماعيل: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَّبِيًّا}. وقال عن إدريس: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا} سورة مريم (56).

وقال عن صحابة رسوله الأخيار: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} سورة الأحزاب (23).

ويكفي الصدق شرفاً وفضلاً أن مرتبة الصديقية تأتي في المرتبة الثانية بعد مرتبة النبوة؛ قال الله تعالى: {وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} سورة النساء(69).

أيها المسلمون: لقد أخبرنا الله في كتابه أنه لن ينفع العبد ولن ينجيه من عذاب الله يوم القيامة إلا الصدق؛ فقال تعالى: {قَالَ اللّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ} سورة المائدة(119)..

ولذلك فقد كان من أدعية القرآن التي حث الله رسوله على أن يدعو بها الصدق في المدخل والمخرج؛ فقال تعالى: {وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَل لِّي مِن لَّدُنكَ سُلْطَانًا نَّصِيرًا} سورة الإسراء(80).

أيها الناس: لقد أمرنا الله بأن نتحلى بهذا الخلق العظيم، وأن نكون مع الصادقين؛ فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ} سورة التوبة(119)..

والصدق يشمل جوانب متعددة، وعلاقات متنوعة؛ ومن أهم ذلك الصدق مع الله، وذلك بأن يكون العبد صادقاً مع الله في عبادته له وحده لا شريك له، والإخلاص لله، والمتابعة لنبيه-صلى الله عليه وسلم- وعبادته بالعبادات القلبية الباطنة والظاهرة، وصدق التوبة إليه، وإخلاص العمل له، وتصديق آياته، وما أخبر به عن نفسه من أسمائه وصفاته، وكذلك بصدق التوكل عليه، والاعتماد عليه، والثقة بما عنده، وما إلى ذلك..

أيها الناس: إن في الصدق مع الله والإخلاص له: تفريجاً للكربات، وإجابة الدعوات، وما قصة أصحاب الغار عنا ببعيد؛ فقد أخرجها البخاري ومسلم مطولة عن عبد الله بن عمر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وفيها أنه قال بعضهم لبعض: (…إنه والله يا هؤلاء! لا ينجيكم إلاّ الصدق، فليدع كل رجل منكم بما يعلم أنه قد صدق فيه) فدعا كل واحد منهم ربه بما عمله من عمل صدق فيه لله وأخلص له فيه، فكان أن جاء الفرج، ففرج لهم فرجة بعد أخرى حتى خرجوا من تلك المحنة.

وكذلك قصة كعب بن مالك في تخلفه عن تبوك، كما في البخاري ومسلم وفيها أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لكعب: (ما خلفك؟ ألم تكن قد ابتعت ظهرك؟". قال: قلت: يا رسول الله؟ إني والله! لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا، لرأيت أني سأخرج من سخطه بعذر، ولقد أعطيت جدلاً –أي فصاحةً وقوة في الإقناع- ولكني والله لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديثاً كذب ترضى به عني، ليوشكن الله أن يسخطك علي، ولئن حدثتك حديث صدق تجد علي فيه -أي تغضب علي فيه- إني لأرجو فيه عفو الله، والله ما كان لي عذر، والله! ما كنت قط أقوى ولا أيسر في حين تخلفت عنك، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (أما هذا فقد صدق)، فلما صدق مع الله ومع رسوله تاب الله عليه، وأنزل فيه وفي صاحبيه آيات تتلى إلى قيام الساعة، فقال تعالى: {لَقَد تَّابَ الله عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ} إلى قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ} (119) سورة التوبة.

كما أن الصادق مع الله يوفق لخاتمة حسنة، لما ثبت في الحديث الذي أخرجه النسائي وغيره عن شداد بن الهاد -رضي الله عنه- أن رجلا من الأعراب جاء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فآمن به واتبعه، ثم قال: أهاجر معك؟ فأوصى به النبي -صلى الله عليه وسلم- بعض أصحابه، فلما كانت غزاته غنم النبي -صلى الله عليه وسلم- فقسم وقسم له فأعطى أصحابه ما قسم له وكان يرعى ظهرهم، فلما جاء دفعوه إليه، فقال: ما هذا؟ قالوا: قسم قسمه لك النبي -صلى الله عليه وسلم-، فأخذه فجاء به إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: ما هذا؟ قال: (قسمته لك) قال: ما على هذا اتبعتك ولكن اتبعتك على أن أرمي إلى هاهنا وأشار إلى حلقه بسهم فأموت فأدخل الجنة، فقال: (إن تصدق الله يصدقك) فلبثوا قليلا ثم نهضوا إلى قتال العدو فأتي به إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- يحمل قد أصابه سهم حيث أشار، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (أهو هو؟) قالوا: نعم، قال: (صدق الله فصدقه) ثم كفنه النبي -صلى الله عليه وسلم- في جبته التي عليه ثم قدمه فصلى عليه وكان مما ظهر من صلاته: (اللهم هذا عبدك خرج مهاجرا في سبيلك فقتل شهيدا أنا شهيد على ذلك)2. فاصدقوا الله -عباد الله- يصدقكم، وانصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم، وادعوه ستجب لكم واشكروه على نعمه يزدكم. واستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

نحمد الله حمد الشاكرين، ونؤمن به إيمان الموقنين، ونقر بوحدانيته إقرار الصادقين، ونشهد أن لا إله إلا الله رب العالمين، وخالق السماوات والأرضين، ونشهد أن محمدا عبده ورسوله المبعوث رحمة للعالمين، وحجة على الخلائق أجمعين، وقدوة للصادقين، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه الغر الميامين، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين..

أما بعد:

أيها الناس: لقد أنزل الله في شأن الصادقين معه آيات تتلى إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، فقد ثبت عن أنس أنَّ عمه أنس بن النضر لم يشهد بدراً مع رسول الله-صلى الله عليه وسلم- فشق ذلك على قلبه، وقال: أول مشهد شهده رسول لله-صلى الله عليه وسلم- غبت عنه، أما والله لئن أراني الله مشهداً مع سول الله-صلى الله عليه وسلم- ليرين الله ما أصنع! قال: فشهد أحداً في العام القابل فاستقبله سعد بن معاذ، فقال: يا أبا عمر إلى أين؟ فقال: واهاً لريح الجنة! إني أجد ريحها دون أحد. فقاتل حتى قتل، فوجد في جسده بضع وثمانون ما بين رمية وضربة وطعنة، فقالت أخته بنت النضر: ما عرفت أخي إلا بثيابه، فنزلت هذه الآية: {رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ}.

أيها الناس: إن الصدق مع الله والإخلاص له وحده له سرّ عجيب في هذه الدنيا وفي الآخرة، فالحذر الحذر من التعامل مع الله بالرياء والكذب،  والنفاق -والعياذ بالله- كما سبق أن بينا ذلك فيما ذكرناه من القصص في ذلك.

أيها المسلم: إنه يجب عليك الصدق في أي مكان وفي أي عمل كنت، إن كنت داعية فاصدق الله، وإن كنت كاتباً فاصدق الله، وإن كنت حارساً فاصدق الله، وإن كنت مجاهداً فاصدق الله، وإن كنت موظفاً فاصدق الله، مهما كانت وظيفتك فاصدق الله!..

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ}.

هذا وصلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه فقال عزَّ من قائل: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} سورة الأحزاب(56).

اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آله إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد، وارض اللهم عن صحابة نبيك الكرام: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر أصحاب نبيك الأطهار، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين..

اللم أعز الإسلام وانصر المسلمين، واجعل كلمتك هي العليا إلى يوم الدين. اللهم انصر من نصر الدين، واخذل من خذل المسلمين.

ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.


1 إحياء علوم الدين (4/417. دار الكتب العلمية بيروت – لبنان.

2  رواه النسائي، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب، رقم(1336).