وفـد ثقيـف

وفـد ثقيـف

 

حمداً لله على آلائه وشكراً له على توفيقه وامتنانه، وصلى الله على خاتم أنبيائه، وعلى آله وصحبه وأتباعه إلى يوم الدين وسلم تسليماً.. أما بعد:

فإنه لما انصرف الرسول -صلى الله عليه وسلم- عن الطائف اتبع أثره عروة بن مسعود الثقفي حتى أدركه قبل أن يصل إلى المدينة فأسلم، ورجع إلى قومه فدعاهم إلى الإسلام، فرموه بالنبل، فأصابه سهم فقتله، ثم إنهم رأوا أنه لا طاقة لهم بحرب من حولهم من العرب الذين أسلموا، فأجمعوا على أن يرسلوا رجالاً إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقدم عليه ستة منهم في رمضان بعد رجوعه من تبوك سنة تسع.

وكان الوفد يتكون من ستة من كبار بني مالك والأحلاف، ثلاثة لكل منهما وعلى رأسهم جميعاً عبد ياليل بن عمرو، وتكوين هذا الوفد على هذا النحو يدل على فكر سياسي عميق؛ ذلك لأن ثقيف تأمل في أن يتدخل المهاجرون من بني أمية للتوسط في إقرار الصلح مع الرسول بسبب علاقة بني أمية التاريخية بالأحلاف.

كان الصحابة يعرفون اهتمام الرسول -صلى الله عليه وسلم- بإسلام ثقيف؛ ولذلك ما إن ظهر وفد ثقيف قرب المدينة، حتى تنافس كل من أبي بكر والمغيرة على أن يكون هو البشير بقدوم الوفد للرسول، وتنازل المغيرة لأبي بكر.

واستقبل الرسول -صلى الله عليه وسلم- الوفد راضيًا وبنى لهم خياماً لكي يسمعوا القرآن ويروا الناس إذا صلوا، وكانت ضيافتهم على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وكانوا يفدون عليه كل يوم، ويخلفون عثمان بن أبي العاص على رحالهم، فكان عثمان كلما رجعوا وقالوا بالهاجرة، عمد إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فسأله عن الدين واستقرأه القرآن، حتى فقه في الدين وعلم، وكان إذا وجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نائماً عمد إلى أبي بكر، وكان يكتم ذلك من أصحابه، فأعجب ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعجب منه وأحبه.

فمكث الوفد أياماً يختلفون إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- والنبي يدعوهم إلى الإسلام، فقال له عبد ياليل: هل أنت مقاضينا حتى نرجع إلى أهلنا وقومنا؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "نعم إن أنتم أقررتم بالإسلام قاضيتكم، وإلا فلا قضية ولا صلح بيني وبينكم".

قال عبد ياليل: أرأيت الزنا؟ فإنا قوم عزاب بغرب، لا بد لنا منه، ولا يصبر أحدنا على العزبة! قال: "هو مما حرم الله على المسلمين، يقول الله تعالى: (وَلاَ تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً)" الإسراء: 32.

قال: أرأيت الربا؟ قال: "الربا حرام" قال: فإن أموالنا كلها ربا، قال: "لكم رءوس أموالكم، يقول تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ)" البقرة: 278.

قال أفرأيت الخمر؟ فإنها عصير أعنابنا، لا بد لنا منها.

قال: "فإن الله قد حرمها" ثم تلا رسول الله هذه الآية: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأنصَابُ وَالأزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) المائدة: 90. فارتفع القوم وخلا بعضهم ببعض، فقال عبد ياليل: ويحكم! نرجع إلى قومنا بتحريم هذه الخصال الثلاث! والله والله لا تصبر ثقيف عن الخمر أبداً، ولا عن الزنا أبداً.

قال سفيان بن عبد الله: أيها الرجل، إن يرد الله بها خيراً تصبَّر عنها، قد كان هؤلاء الذين معه على مثل هذا، فصبروا وتركوا ما كانوا عليه، مع أنا نخاف هذا الرجل، قد أوطأ الأرض غلبة ونحن في حصن في ناحية من الأرض، والإسلام حولنا فاش، والله لو قام على حصننا شهراً لمتنا جوعاً، وما أرى إلا الإسلام وأنا أخاف يوماً مثل يوم مكة.

وكان خالد بن سعيد بن العاص هو الذي يمشي بينهم وبين رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى كتبوا الكتاب، كان خالد هو الذي كتبه وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يرسل إليهم الطعام فلا يأكلون منه شيئًا حتى يأكل منه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى أسلموا.

قالوا: أرأيت الرَّبَّة، ما ترى فيها؟ قال: "هدمها".

قالوا: هيهات لو تعلم الربة أنا أوضعنا هدمها قتلت أهلنا!! قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ويحك يا عبد ياليل، إن الربة حجر لا يدري من عبده ممن لا يعبده، قال عبد ياليل: إنا لم نأتك يا عمر، فأسلموا وكمل الصلح، وكتب ذلك الكتاب خالد بن سعيد، فلما كمل الصلح كلموا النبي -صلى الله عليه وسلم- يدع الربة ثلاث سنين لا يهدمها، فأبى، قالوا: سنتين، فأبى، قالوا: سنة، فأبى، قالوا: شهرًا واحدًا، فأبى أن يوقت لهم وقتًا وإنما يريدون بترك الربة لما يخافون من سفهائهم والنساء والصبيان، وكرهوا أن يروعوا قومهم بهدمها، فسألوا النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يعفيهم من هدمها، فوافق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على طلبهم ذلك، وسألوا النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يعفيهم من الصلاة، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا خير في دين لا صلاة فيه".

لقد طلب وفد ثقيف أن يعفيهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من بعض الفرائض وأن يحلل لهم بعض المحرمات إلا أنهم فشلوا في طلباتهم وخضعوا للأمر الواقع.

وقد أكرم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وفادتهم وأحسن ضيافتهم في قدومهم وإقامتهم وعند سفرهم، وأمَّر -صلى الله عليه وسلم- عثمان بن أبي العاص على الطائف، فقد كان أحرصهم على تعلم القرآن والتفقه في الدين، وكان أصغرهم سنًا، ولقد تأثر الوفد من معاملة النبي -صلى الله عليه وسلم- ومن اختلاطهم بالمسلمين حتى إنهم صاموا ما بقي عليهم من شهر، ومكثوا في المدينة خمسة عشر يوماً ثم رجعوا إلى الطائف، وبعد رجوعهم جهز رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سرية بقيادة خالد بن الوليد -رضي الله عنه- ومشاركة المغيرة بن شعبة وأبي سفيان بن حرب -رضي الله عنهما-  وبعثهم في أثر الوفد.

وبينما نجحت مساعي الوفد في إقناع ثقيف بالدخول في الإسلام وأخبروهم بمصير اللات، وإذا بالسرية قد وصلت إلى الطائف ودخل المغيرة بن شعبة في بضعة عشر رجلاً يهدمون الربة (الصنم)، وكان ذلك تحت حراسة مشددة من قومه بني معتب الذين قاموا دونه خشية أن يرمى أو يصاب كما أصيب عروة بن مسعود، وخرجت ثقيف عن بكرة أبيها رجالها ونساؤها وصبيانها حتى الأبكار من خدورهن، وكانوا -لقرب عهدهم بالشرك- لا ترى عامة ثقيف أنها مهدومة ويظنون أنها ممتنعة.

وكان المغيرة رجلاً فيه دعابة وظرف فقال لأصحابه: والله لأضحكنكم من ثقيف، فضرب بالفأس ثم سقط يركض، فارتج أهل الطائف بصيحة واحدة وقالوا: أبعد الله المغيرة فقد قتلته الربة! وفرحوا حين رأوه ساقطًا، وقالوا مخاطبين أفراد السرية: من شاء منكم فليقترب وليجتهد على هدمها، فوالله لا تستطيع أبدًا، فوثب المغيرة بن شعبة، وقال: قبحكم الله يا معشر ثقيف! إنما هي لكاع (أي خسيسة وذميمة) حجارة ومدر، فاقبلوا عافية الله واعبدوه.

أكمل المغيرة بن شعبة -رضي الله عنه- ومن معه هدم الطاغية حتى سووها بالأرض، وكان سادنها واقفاً على أحر من الجمر ينتظر نقمة الرَّبَّة وغضبها على هؤلاء العصاة، فما إن وصلوا إلى أساسها حتى صاح قائلاً: سترون إذا انتهى أساسها يغضب الأساس غضبًا يخسف بهم!! فلما سمع المغيرة -رضي الله عنه- بذلك السخف قال لقائد السرية: دعني أحفر أساسها، فحفره حتى أخرجوا ترابها وانتزعوا حليتها، وأخذوا ثيابها، فبهتت ثقيف وأدركت الواقع الذي كانت تحجبه غشاوة على أعينهم.

وأقبل الوفد حتى دخلوا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بحليتها وكسوتها، فقسمه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من يومه، وحمدوا الله على نصرة نبيه وإعزازه دينه.

وتم القضاء على ثاني أكبر طواغيت الشرك في الجزيرة العربية، وحل محلها بيت من بيوت الله عز وجل يوحد فيه الرب الذي لا إله إلا هو، وذلك بتوجيه كريم من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى عثمان بن أبي العاص عامله على الطائف حيث أمره (بأن يجعل مسجد الطائف حيث كان طاغيتهم1.

"لا مراء في أن استسلام ثقيف ثم دخولها الإسلام يُعدُّ كسباُ كبيراً وفتحاً جديداً، فلم يبقَ قبيلٌ عزيز الجانب في الجزيرة إلا وقد دان لله ورسوله. أما القبائل التي لما تزل على جاهليتها، فهي أوزاع توشك أن تستبين الحق وتستريح له. إن الليل المضروب عليها لن يطول سواده، بل إن تباشير الفجر قد خالطته هنا وهناك حتى لم يبق لظلمته مكان تتشبث به.

قال ابن إسحاق: لما افتتح رسول الله مكة، وفرغ من تبوك، وأسلمت ثقيف وبايعت، ضربت إليه وفود العرب من كل وجه.

وإنما كانت العرب تربّص بالإسلام أمر هذا الحي من قريش، وذلك أن قريشاً كانوا إمام الناس وهاديهم، وأهل البيت الحرام، وصريح ولد إسماعيل -وقادة العرب لا ينكرون ذلك- وكانت قريش هي التي نصبت لحرب رسول الله وخلافه.

فلما افتتحت مكة ودانت له قريش ودوَّخها الإسلام، عرفت العرب أنها لا طاقة لهم بحرب رسول الله ولا عداوته، فدخلوا في دين الله أفواجاً يضربون إليه من كل وجه.

يقول سبحانه وتعالى لنبيه: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا}.

بعد كم من السنين بلغ النبيُّ هذه المرحلة؟ بعد اثنين وعشرين سنة من الدعاية الحثيثة، والتذكير الدائم، وتحمل الأذى، وكفاح العدوان..!

فإن كانت هناك بقايا من الغافلين لا تزال تضرع للأصنام وتحيا على الفوضى، فإن فطامها عن هذه الرذائل لا ينكره ذو لب أو مروءة، ومن ثم اتجه الإسلام إلى ضرورة تطهير الجزيرة كلها من عبادة الأوثان، وإشعار المشركين بأن أمامهم مهلة محدودة للتخلص من أدرانها..ثم تعريفهم كذلك بأن الأصنام التي كانوا يقدسونها حول الكعبة قد أزيلت، فأصبحت الكعبة قبلة مسجد يؤمه الموحدون، وليست مطاف جهال يتبركون بالحجارة، وأن تقاليد العُري التي شاعت في الجاهلية وجعلت المطاف يزدحم بالسوءات المكشوفة قد نبذها الإسلام، فلن يسمح في عهده بالتبذل القديم.2

دروس وعبر مما سبق:

لقد كان في هذا الحدث التاريخي العظيم عبر وفوائد عديدة، منها:

  1. حب الخير والتبشير به وأن ذلك من صفات المؤمنين، ولهذا فرح أبو بكر بقدوم وفد ثقيف وأسرع لبشارة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بذلك، وهكذا حال المؤمن الصادق مع الله.. إنه يفرح إذا أسلم قوم، وإذا انتصر المسلمون، وإذا اهتدى الضالون، لا كحال المنافق الظلوم الذي يحزنه انتصار المسلمين، وهزيمة أعوانه من الكافرين، وليس كالذي لا همة له ولا حب للإسلام إلا مجرد الانتساب، لا يفرح لفرح المسلمين ولا يحزن لحزنهم.. فهذا وأمثاله قد ماتت قلوبهم وسيطر حب الدنيا عليهم، حتى لا يرى الرضا والغضب إلا من بوابة الدنيا، وطريق المال، وحسب..!

  2. الإسلام دين قوي لا يقبل المداهنة على حساب مسلماته القطعية، فمن يطلب إسقاط أي حكم شرعي قطعي عنه فلا يقبل منه ذلك، ولا يمكن أن يسمى الشخص مسلماً حتى يدخل في السلم كافة، لقد طلب رئيس وفد ثقيف بعض الأمور التي لا يقدرون على القيام بها أو على ترك بعضها، فلم يقبل منهم النبي -صلى الله عليه وسلم- شيئاً من ذلك، وهنا تظهر قوة الإسلام وعزته وأنه ليس بحاجة شخص أو قبيلة لكي يخضع لشروطها أو عاداتها وتقاليدها الآسنة. وإن الله تعالى متم نوره ولو كره الكافرون، فإن أسلم أولئك لله تعالى وتركوا كل جهل وجاهلية واتبعوا أمور الدين كلها، وإلا فإن الله سيجعل لدينه فرجاً ومخرجاً، ولهذا كان لا محيص من التسليم بكل مسلمات الإسلام القوي الغالب.

  3. أن الإسلام والأصنام ضدان لا يجتمعان، فهو دين التوحيد الخالص لله رب العالمين، فلا يمكن أن يبقى صنم في دولته ودياره ما دام مهيمناً عليها، وإنك لتعجب كل العجب وتتحير كل الحيرة في زماننا هذا، عندما أراد قوم من المسلمين في دولة ما هدم أصنام الكافرين وتمثال الملاحدة والمشركين، فقام إليهم بعض المتعالمين والمتطفلين على الفتاوى المصيرية، ليتوسطوا لديهم بإبقاء تلك الأوثان والأصنام!! وشنت ضد تلك الجماعة المسلمة الحملات الشعواء والانتقادات الشديدة بأنهم يريدون هدم الحرية وإخضاع الناس لإرادتهم!! سبحان الله ماذا فعل محمد -صلى الله عليه وسلم- بوفد ثقيف عندما أرادوا إبقاء اللات شهراً واحداً..! فما الحكم اليوم فيمن هو مسلم ويريد ترك التماثيل المعبودة من دون الله سنيناً بل قروناً..! ولو كان هؤلاء المنتقدون في زمن محمد -صلى الله عليه وسلم- لأخرجهم إلى الحرة، ونفاهم عن المدينة.. ماذا يرى هؤلاء وأمثالهم في فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- بالأصنام كلها وهل هو هدم لحرية الاعتقاد؟! فليجيبوا إن كانوا مؤمنين.

  4. أن الله غالب على أمره ولو كره الكافرون والفاسقون والظالمون والمنافقون،، وسيتم دينه بعز عزيز وبذل ذل، عزاً يعز الله به الإسلام وذلاً يذل به الكفر وأهله..

اللهم يا ذا الجلال والإكرام يا حي يا قيوم، كما نصرت نبيك وهو المؤيد بالوحي من السماء، فأيد عبادك المستضعفين في كل أرض، اللهم كما نصرت نبيك على أهل الإلحاد والزيغ والعناد فانصر عبادك المؤمنين المجاهدين في كل أرض من أرضك، اللهم وأنزل عليهم مدداً من السماء يا سميع الدعاء يا قريب العطاء، يا عظيم الرجاء، يا الله يا الله يا الله..

اللهم أصلح حال المسلمين، وول عليهم خيارهم واصرف عنهم الأشرار.. إنك ولي ذلك والقادر عليه..


1 نقلاً عن "السيرة النبوية" للصلابي، (2/741-746).

2 فقه السيرة للغزالي..