غضب رسول الله

غضب رسول الله عليه الصلاة والسلام

 

الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض ولم يتخذ صاحبة ولا ولداً، وأرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله أبداً وسرمداً، وصلى الله على النبي الخاتم الذي كان لدين الله ناصراً وعضداً، ولحرمات الله أشد غضباً وحماية وسنداً،  وعلى آله وصحبه وكل من اتبع سنته واتخذ من ذلك طريقاً ورشداً.. أما بعد:

فقد بعث الله نبيه -صلى الله عليه وسلم- بين يدي الساعة بشيراً ونذيراً، وختم به الأنبياء والمرسلين، فكان أفضلهم وخيرهم كما دلت على ذلك الأدلة الشرعية.

وقد كان -صلى الله عليه وسلم- عظيم الأخلاق حسن العشرة، جل حياته وعيشه بسمة بريئة، وكلمة طيبة. إلا أن حياته -صلى الله عليه وسلم- لم تخل من مواقف تبين غضبه من المخالفات التي يقع فيها الناس أو من الجرأة من بعض الناس على دين الله وشرعه. وما كان -صلى الله عليه وسلم- ليغضب لنفسه ولا ينتقم لها بل كان غضبه عندما تنتهك حرمات الله تعالى. كما روت عائشة -رضي الله عنها- قالت: "والله ما انتقم لنفسه في شيء يؤتى إليه قط حتى تنتهك حرمات الله عز وجل، فينتقم لله عز وجل".1

وسنورد بعضاً من المواقف التي غضب فيها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على حرمات الله ودينه، ونرى كيف كان تصرفه -صلى الله عليه وسلم- مع غضبه، فلم يكن كغضب الناس الآخرين الذين إذا غضبوا أفسدوا وربما قتلوا أو دمروا، بل كان يصبر على الأذى ويعلم الناس، ويخرج من غضبه بالمخرج الشرعي الذي سنه لنا عليه السلام.

روى الإمام البخاري رحمه الله عن زيد بن خالد الجهني -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- سأله رجل عن اللقطة فقال: (اعرف وكاءها) أو قال (وعاءها وعفاصها ثم عرفها سنة، ثم استمتع بها، فإن جاء ربها فأدها إليه) قال: فضالة الإبل؟ فغضب حتى احمرت وجنتاه، أو قال: احمر وجهه فقال: (وما لك ولها! معها سقاؤها وحذاؤها، ترد الماء وترعى الشجر، فذرها حتى يلقاها ربها) قال: فضالة الغنم؟ قال: (لك أو لأخيك أو للذئب).

قال ابن حجر: " قوله: (فغضب) إما لأنه كان نهى قبل ذلك عن التقاطها، وإما لأن السائل قصر في فهمه فقاس ما يتعين التقاطه على ما لا يتعين".2

وعن أبي مسعود الأنصاري -رضي الله عنه- قال: قال رجل: يا رسول الله إني لأتأخر عن الصلاة في الفجر مما يطيل بنا فلان فيها، فغضب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما رأيته غضب في موضع كان أشد غضباً منه يومئذ، ثم قال: (يا أيها الناس إن منكم منفرين فمن أم الناس فليتجوز، فإن خلفه الضعيف والكبير وذا الحاجة).3

وعن عروة عن عبد الله بن الزبير -رضي الله عنهما- أن رجلاً من الأنصار خاصم الزبير عند النبي -صلى الله عليه وسلم- في شراج الحرة التي يسقون بها النخل، فقال الأنصاري: سرِّح الماء يمر، فأبى عليه، فاختصما عند النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للزبير: (أسق يا زبير، ثم أرسل الماء إلى جارك) فغضب الأنصاري فقال: أن كان ابن عمتك! فتلون وجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم قال: (اسق يا زبير، ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر) فقال الزبير: والله إني لأحسب هذه الآية نزلت في ذلك:

{فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا} (65) سورة النساء.4

وعن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: قسم النبي -صلى الله عليه وسلم- قسماً فقال رجل: إن هذه لقسمة ما أريد بها وجه الله! فأتيت النبي -صلى الله عليه وسلم- فأخبرته فغضب حتى رأيت الغضب في وجهه ثم قال: (يرحم الله موسى قد أوذي بأكثر من هذا فصبر).

وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: بينما يهودي يعرض سلعته أعطي بها شيئاً كرهه فقال: لا والذي اصطفى موسى على البشر، فسمعه رجل من الأنصار فقام فلطم وجهه وقال: تقول والذي اصطفى موسى على البشر والنبي -صلى الله عليه وسلم- بين أظهرنا، فذهب إليه فقال: أبا القاسم إن لي ذمة وعهداً فما بال فلان لطم وجهي؟! فقال: (لم لطمت وجهه؟) فذكره فغضب النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى رئي في وجهه ثم قال: (لا تفضلوا بين أنبياء الله، فإنه ينفخ في الصور فيصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله، ثم ينفخ فيه أخرى فأكون أول من بعث، فإذا موسى آخذ بالعرش، فلا أدري أحوسب بصعقته يوم الطور أم بعث قبلي، ولا أقول إن أحداً أفضل من يونس بن متى).5

وعن أنس رضي الله عنه أن ناساً سألوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى أحفوه المسألة، فغضب فصعد المنبر فقال: (لا تسألوني اليوم عن شيء إلا بينته لكم) فجعلت أنظر يمينا وشمالاً فإذا كل رجل لاف رأسه في ثوبه يبكي، فإذا رجل كان إذا لاحى الرجال يدعى لغير أبيه، فقال: يا رسول الله من أبي؟ قال: (حذافة) ثم أنشأ عمر فقال: رضينا بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد -صلى الله عليه وسلم- رسولاً، نعوذ بالله من الفتن، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (ما رأيت في الخير والشر كاليوم قط إنه صورت لي الجنة والنار حتى رأيتهما وراء الحائط).6

وعن أبي قتادة الأنصاري أن رجلاً أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: كيف تصوم؟ فغضب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلما رأى عمر -رضي الله عنه- غضبه قال: رضينا بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيا، نعوذ بالله من غضب الله وغضب رسوله، فجعل عمر رضي الله عنه يردد هذا الكلام حتى سكن غضبه، فقال عمر: يا رسول الله كيف بمن يصوم الدهر كله؟ قال: (لا صام ولا أفطر) أو قال: (لم يصم ولم يفطر) قال: كيف من يصوم يومين ويفطر يوما؟ قال: (ويطيق ذلك أحد) قال: كيف من يصوم يوما ويفطر يوما؟ قال: (ذاك صوم داود عليه السلام) قال: كيف من يصوم يوما ويفطر يومين؟ قال: (وددت أني طوقت ذلك) ثم قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (ثلاث من كل شهر، ورمضان إلى رمضان، فهذا صيام الدهر كله، صيام يوم عرفة أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده، وصيام يوم عاشوراء أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله).7

وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: رخص رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في أمر فتنزه عنه ناس من الناس، فبلغ ذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- فغضب حتى بان الغضب في وجهه ثم قال: (ما بال أقوام يرغبون عما رخص لي فيه! فوالله لأنا أعلمهم بالله وأشدهم له خشية).8

وعنها -رضي الله عنها- أن رجلاً قال لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو واقف على الباب: يا رسول الله إني أصبح جنباً وأنا أريد الصيام، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (وأنا أصبح جنباً وأنا أريد الصيام فأغتسل وأصوم) فقال الرجل: يا رسول الله إنك لست مثلنا، قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فغضب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقال: (والله إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله وأعلمكم بما أتبع).9

وعن علي بن أبي طالب قال : خرج عبدان إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعني يوم الحديبية قبل الصلح، فكتب إليه مواليهم فقالوا: يا محمد والله ما خرجوا إليك رغبة في دينك، وإنما خرجوا هرباً من الرق، فقال ناس: صدقوا يا رسول الله ردهم إليهم، فغضب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقال: (ما أراكم تنتهون يا معشر قريش حتى يبعث الله عز وجل عليكم من يضرب رقابكم على هذا) وأبى أن يردهم وقال: (هم عتقاء الله عز وجل).10

وعن عوف بن مالك الأشجعي -رضي الله عنه-قال: خرجت مع زيد بن حارثة في غزوة مؤتة فرافقني مددي من أهل اليمن ليس معه غير سيفه، فنحر رجل من المسلمين جزوراً فسأله المددي طائفة من جلده فأعطاه إياه، فاتخذه كهيئة الدرق، ومضينا فلقينا جموع الروم وفيهم رجل على فرس له أشقر عليه سرج مذهب وسلاح مذهب فجعل الرومي يفري (أي يقتل) بالمسلمين فقعد له المددي خلف صخرة فمر به الرومي فعرقب فرسه فخر وعلاه فقتله وحاز فرسه وسلاحه، فلما فتح الله عز وجل للمسلمين بعث إليه خالد بن الوليد فأخذ من السلب، قال عوف: فأتيته فقلت: يا خالد أما علمت أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قضى بالسلب للقاتل؟ قال: بلى ولكني استكثرته، قلت: لتردنه عليه أو لأعرفنكها عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأبى أن يرد عليه، قال عوف: فاجتمعنا عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقصصت عليه قصة المددي وما فعل خالد فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (يا خالد ما حملك على ما صنعت؟) قال: يا رسول الله استكثرته، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (يا خالد رد عليه ما أخذت منه) قال عوف: فقلت له: دونك يا خالد ألم أف لك؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (وما ذاك؟) فأخبرته، قال: فغضب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: (يا خالد لا ترد عليه، هل أنتم تاركون لي أمرائي؟ لكم صفوة أمرهم وعليهم كدره).11

قال النووي: "وهذا الحديث قد يستشكل من حيث إن القاتل قد استحق السلب، فكيف منعه إياه؟ ويجاب عنه بوجهين:

أحدهما: لعله أعطاه بعد ذلك للقاتل، وإنما أخره تعزيراً له ولعوف بن مالك لكونهما أطلقا ألسنتهما في خالد -رضي الله عنه- وانتهكا حرمة الوالي ومن ولاه.

الوجه الثاني: لعله استطاب قلب صاحبه فتركه صاحبه باختياره، وجعله للمسلمين، وكان المقصود بذلك استطابة قلب خالد -رضي الله عنه- للمصلحة في إكرام الأمراء".12

وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: خرج علينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ونحن نتنازع في القدر فغضب حتى احمر وجهه حتى كأنما فقئ في وجنتيه الرمان فقال: (أبهذا أمرتم أم بهذا أرسلت إليكم؟ إنما هلك من كان قبلكم حين تنازعوا في هذا الأمر، عزمت عليكم، عزمت عليكم ألا تتنازعوا فيه).13

وعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: رأى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نخامة في قبلة المسجد فغضب حتى احمر وجهه، فقامت امرأة من الأنصار فحكتها وجعلت مكانها خلوقاً (أي طيباً) فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (ما أحسن هذا).14

وعن عبد الله بن عمرو أنه: أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- وعليه ثوبان معصفران فغضب النبي -صلى الله عليه وسلم- وقال: (اذهب فاطرحهما عنك) قال: أين يا رسول الله؟ قال: (في النار).15

وعن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: أقرأني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سورة من الثلاثين من آل حم، قال: يعني الأحقاف، قال: وكانت السورة إذا كانت أكثر من ثلاثين آية سميت الثلاثين، فرحت إلى المسجد فإذا رجل يقرؤها على غير ما أقرأني فقلت: من أقرأك؟ فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت لآخر: اقرأها، فقرأها علي غير قراءتي وقراءة صاحبي، فانطلقت بهما إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقلت: يا رسول الله إن هذين يخالفاني في القراءة، فغضب وتمعر وجهه وقال: (إنما أهلك من كان قبلكم الاختلاف) قال زر: وعنده رجل فقال الرجل: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يأمركم أن يقرأ كل رجل منكم كما أقرئ، فإنما أهلك من كان قبلكم الاختلاف..16

فهذه بعض المواقف والحوادث من حياة النبي -صلى الله عليه وسلم- التي بينت أنه يغضب إذا كان الأمر متعلقاً بدين الله تعالى.

فينبغي على المسلم الاقتداء به -صلى الله عليه وسلم- في غضبه لحرمات الله إذا انتهكت، وألا يكون حاله سواء عند انتهاك الحرمات وعدمه، وهذا من تغيير المنكر الذي أمر الله به الأمة، وليكن أسلوب التغيير بعد الغضب بالمنهج الشرعي لا وافق هوى النفس أو التعدي على الخلق..

نسأل الله أن يرزقنا التمسك بسنة نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- وأن يثبتنا على دينه حتى الممات.

وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.


1 رواه الإمام أحمد وهو حديث صحيح.

2 فتح الباري لابن حجر – (ج 1 / ص 149).

3 رواه البخاري ومسلم.

4 رواه البخاري ومسلم.

5 رواه البخاري ومسلم.

6 رواه البخاري.

7 رواه مسلم.

8 رواه مسلم.

9 رواه الإمام مالك وأحمد وأبو داود واللفظ له، وهو حديث صحيح.

10 رواه أحمد وأبو داود واللفظ له،

11 رواه مسلم وأحمد واللفظ له.

12 شرح النووي على مسلم – (ج 6 / ص 202).

13 رواه الترمذي وحسنه الألباني.

14 رواه النسائي وصححه الألباني.

15 رواه النسائي وصححه الألباني.

16 رواه أحمد وإسناده حسن.