أسباب ضعف رسالة المسجد ونشاطه الاجتماعي

أسباب ضعف رسالة المسجد ونشاطه الاجتماعي

 

 الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لاإله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، أما بعد:

فإن من المعلوم عند أهل التاريخ أن الملك العاض الذي أشار إليه النبي – صلى الله عليه وسلم – جاء بعد انتهاء الخلافة الإسلامية الراشدة، التي تعتبر المظهر العلمي لتعاليم الإسلام، وكان هذا الملك بداية الدخن الذي أصاب الأمة، ثم توالى عليها يوماً بعد يوم، وعاماً بعد عام، حتى جاء الحكم الجبري، فازداد الدخن، وتفاقم الشر، وكثرت المخالفات، وضعف الامتثال، ومن هذا الضعف؛ ضعف رسالة المسجد وضعف نشاطه، لاسيما عندما بدء فصله عن الحياة وشؤونها السياسية والاجتماعية، وحصره في الشعائر التعبدية، كما حصل للإسلام، لان المسجد والإسلام متلازمان لا ينفصل أحدهما عن الآخر، ولذا نجد أنه كلما ضرب الإسلام وأهله من قبل أعدائه، إلا توجهت هذه الضربة إلى المسجد وأنشطته العامة.

وإذا تأملنا في أسباب ضعف رسالة المسجد؛ فإننا سنجدها على قسمين: قسم: منها داخلي ناشئ عن الأمة الإسلامية وولاتها، وقسم: منها خارجي ناشئ من أعداء الإسلام على فترات التاريخ الإسلامي المديد، ومن أهم الأسباب الداخلية:

أولاً: أول معول وجه إلى المسجد لإضعاف رسالته وتغيير مساره الصحيح، هو ما أدخل عليه من بدع سواء كان في بنائه وزخرفته وما أضيف إليه مما ليس في مصلحته ومصلحة المترددين إليه، وقد قال بعض السلف: ما أحيت بدعة إلا وأميتت سنة، وكم عطلت هذه البدعة من أنشطة المسجد لاسيما عندما كثرت في المسلمين بسبب توجه الأمراء والسلاطين وأغنياء الأمة إلى التزيين الذي يذهب الخشوع، ويدعي القسوة، وأخذوا يتباهون بهذا ويفاخرون به؛ حتى عطلوا المسجد عن أداء رسالته فإذا ما دخلت هذه المساجد حسبتها متاحف، وقد أحسن من قال:

أما المساجد فهي اليوم عامرة                  كأنها من قصور الفرس والروم

ولا يصلي بها إلا مؤذنهــا                 أو الإمام ولكن دون مأمـوم

 ولهذا نبه – النبي – صلى الله عليه وسلم – عمر – رضي الله عنه – عند تجديد بناءه المسجد النبوي بقوله: (( أكِنَّ الناس من الْمَطَرِ وَإِيَّاكَ أَنْ تُحَمِّرَ أو تُصَفِّرَ فَتَفْتِنَ الناس)) وقال: أَنَسٌ يَتَبَاهَوْنَ بها ثُمَّ لَا يَعْمُرُونَهَا إلا قَلِيلا، وقال: بن عَبَّاسٍ لَتُزَخْرِفُنَّهَا كما زَخْرَفَتْ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى1.

ثـانيـاً: دفن الموتى بأفنية المساجد، بل بداخلها، وبناء القبور عليها، وأحداث القباب عليها، سواء كانت أمام المسجد أو على جوانبه أو خلفه مما يحيطه المسجد بسوره، وغالب تلك البنية تكون في غاية من الزخرفة مما جعل كثيراً من العوام يفتتنون بها ويقصدونها من دون الله ويدعون أهلها ويذبحون وينذرون لها، وهذا عامل هدم أضعف رسالة المسجد، بل أعظم رسائله، الا وهي رسالة التوحيد، إذ هو يحمل معه معاول الشرك والوثنية وعبادة غير الله – سبحانه وتعالى -.

ثـالثـاً: بناء الأربطة والزوايا من قبل بعض المتصوفة، استعاضة بها عن المساجد، ورغبة في الابتعاد عنها بحجة التفرغ للعبادة والابتعاد عن الخلق، وهذا الحدث قد عطل أمراً هاماً من رسالة المسجد ونشاطه في بناء الأمة وإصلاحها فيما يتعلق بأمر دينها ودنياها قال: ابن الجوزي – رحمه الله – " وأما بناء الأربطة فإن قوماً من المتعبدين الماضين اتخذوها للانفراد بالتعبد وهؤلاء إذا صح قصدهم فهم على خطأ من ستة أوجه:

1-              أنهم ابتدعوا هذه البنيان؛ لان بنيان أهل الإسلام المساجد.

2-              أنهم جعلوا للمساجد نظيراً يقلل جمعها.

3-              أنهم فوتوا على أنفسهم نقل الخطى إلى المساجد.

4-              أنهم تشبهوا بالنصارى بإنفرادهم في الأديرة.

5-              أنهم تعزبوا وهم شباب وأكثرهم محتاج إلى نكاح.

6-      أنهم جعلوا من أنفسهم علماً ينطق بأنهم زهاد فيوجب ذلك زيارتهم، والتبرك بهم، وإن كان قصدهم غير صحيح فإنهم قد بنوا دكاكين للكوبة – النرد وقيل الطبل – ومناخاً للبطالة، وإعلاماً لإظهار الزهد وقد رأينا جمهور المتأخرين منهم مستريحين في الأربطة من كد المعاش متشاغلين بالأكل والشرب والغناء والرقص يطلبون الدنيا من كل ظالم، ولا يتورعون عن عطاء ماكس، وأكثر أربطتهم قد بناها الظلمة ووقفوا عليها الأموال الخبيثة…إلى أن قال: وهؤلاء أكثر زمانهم ينقضي في التفكه في الحديث …ولقد بلغني أن رجلاً قرأ القرآن في رباط فمنعوه، وإن أقواماً قرؤوا الحديث في رباط فقالوا لهم ليس هذا موضعه2"

رابعـاً: إغلاق أبواب المساجد من بعض القائمين على المساجد أو الحكام السياسيين بدعوى الحفاظ على مصالح المسجد وزينته أو لتحقيق هدف سياسي فرضه السلطان أو غيره، لاسيما في العواصم الإسلامية الكبيرة في القديم والحديث.

قال: القاسمي – رحمه الله – في "إصلاح المساجد" غلق أبواب المساجد في النهار لا يجوز إجماعاً إلا لضرورة والضرورة تقدر بقدرها، وأما في الليل فيجوز إغلاقها إذا كان فيها ما يخشى عليه من سارق، ويجب على بوابها أن يبيت خلف بابها لأنه قدر له مرتبه لذلك، وكل مرتب من جهة الوقف لأمر فلا يحل تناوله إلا برعاية ذلك الأمر وأدائه والقيام به، وإلا فتناوله سحت وآكله إنما يأكل في بطنه ناراً"3

وكم من الأسباب التي لا يتسع المجال لذكرها، ونكتفي بهذا، والله أعلم.

اللهم يسر أمورنا، واغفر ذنوبنا، واقض ديوننا، واشف مريضنا، وعاف مبتلانا، يا كريم.

والحمد لله رب العالمين.


1 – رواه البخاري برقم ( 434).

2 – تلبيس إبليس لابن الجوزي ص 195.

3 – إصلاح المساجد ص 23.