حكم الصلاة خلف المبتدع
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه والتابعين .. أما بعد:
فقد بيَّن علماء الإسلام حكماً من أحكام الإمامة والائتمام وهو: هل تصح الصلاة خلف المبتدع؟
يقول الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق: اعلم أن خلاصة أقوال أهل العلم وسلف الأمة في ذلك ما يأتي:
1- أن الصلاة لا تجوز خلف الكافر الأصلي، والكافر المرتد، ولا من أقيمت عليه الحجة بكفره عيناً، وشهد أهل العلم بذلك، وهذا بمثابة الإجماع.
2- أن ترك الصلاة خلف المستور، ومن لم تُعْرَف عقيدته؛ بدعة، وأنه لم يقل أحد من السلف: إنه لا يجوز الصلاة إلا خلف من عُرِفَتْ عقيدته.
3- أن الصلاة جائزة ومشروعة خلف المبتدع الذي لم يُكَفَّرْ ببدعته (حسب الضوابط في الفقرة الأولى)، وأن هذا هو الذي جرى عليه سلف الأمة، وعلماؤُها.
وإليك أقوال أهل العلم في ذلك:
رأي الإمام البخاري – رحمه الله – في الصلاة خلف المبتدع:
قال: باب إمامة المفتون والمبتدع: وَعَلَّقَ قَوْل الحسن: “صلِّ، وعليه بدْعَتُهُ”، وأورد حديث عبيدالله بن عدي بن خيار: “أنه دخل على عثمان بن عفان وهو محصور فقال: إنك إمام عامة، ونزل بك ما نرى، ويصلي لنا إمام فتنة ونتحرج؟! فقال: الصلاة أحسنُ ما يَعْمَلُ الناس، فإذا أحسن الناس فأحسن معهم، وإذا أساءوا فاجتنب إساءتهم”.1
واستدلاله بهذا الحديث موافق للترجمة تماماً، وذلك أن الخارجين على إمام الهدى عثمان بن عفان قد كانوا بُغَاةً أشراراً فُجَّاراً حصروا من اتفق المسلمون على خلافته، ونَقَضُوا عهده، ووثبوا إلى محرابه، وهو سلطانه محراب النبي ﷺ، ومع ذلك فقد أجاز عثمان الصلاة خلفهم، بل أمر الناس بذلك خوفاً من تضييع الصلاة، ويبدو أن هذا هو رأي البخاري – رحمه الله – بدليل تعليقه قول الحسن .
تحقيق الإمام ابن حجر في الصلاة خلف المبتدع:
وقد حقق الإمام ابن حجر – رحمه الله – معنى قول عثمان : “الصلاة خير ما يعمل الناس …” الخ.. فقال: قوله: “فإذا أحسن الناس فأحسن” ظاهرة أنه رَخَّصَ له في الصلاة معهم، وكأنه يقول: لا يضرك كونه مفتوناً، بل إذا أحسن فوافقه على إحسانه، واترك ما افْتُتِنَ به، وهو المطابق لسياق الباب، وهو الذي فهمه الداودي حتى احتاج إلى تقدير حذف في قوله إمام فتنة، وخالف ابن المنير فقال: “يحتمل أن يكون رأى أن الصلاة خلفه لا تصح، فحاد عن الجواب بقوله: إن الصلاة أحسن، لأن الصلاة التي هي أحسن هي الصلاة الصحيحة، وصلاة الخارجي غير صحيحة لأنه إما كافر، أو فاسق” انتهى.
وهذا ما قاله نصرة لمذهبه في عدم صحة الصلاة خلف الفاسق؛ وفيه نظر، لأن سيفاً روى في الفتوح عن سهل بن يوسف الأنصاري عن أبيه: قال: كره الناس الصلاة خلف الذين حصروا عثمان، إلا عثمان فإنه قال: من دعا إلى الصلاة فأجيبوه. انتهى، فهذا صريح في أن مقصوده بقوله: “الصلاة أحسن” الإشارة إلى الإذن بالصلاة خلفه، وفيه تأييد لما فهمه المصنف من قوله “إمام فتنة”، وروى سعيد بن منصور من طريق مكحول قال: قالوا لعثمان: “إنا نَتَحَرَّجُ أن نصلي خلف هؤلاء الذين حصروك”؛ فذكر نحو حديث الزهري، وهذا منقطع إلا أنه اعتُضِدَ. قوله: “وإذا أساءوا فاجتنب” فيه تحذير من الفتنة، والدخول فيها، ومن جميع ما ينكر من قول، أو فعل، أو اعتقاد، وفي هذا الأثر الحض على شهود الجماعة ولاسيما في زمن الفتنة لئلا يزداد تفرق الكلمة، وفيه أن الصلاة خلف من تكره الصلاة خلفه أولى من تعطيل الجماعة، وفيه رد على من زعم أن الجمعة لا يجزئ أن تقام بغير إذن الإمام”2. قلت (أي الشيخ عبد الرحمن): لعل الإمام البخاري – رحمه الله – كان يرى كفر الجهمية على الخصوص من سائر أهل البدع، وذلك لشناعة أقوالهم كما ذكر ابن المبارك أيضاً: (إنا لنحكي كلام اليهود والنصارى ولا نحكي كلام الجهمية) أي: لبلوغه الغاية في إنكار معاني أسمائه وصفاته.
ولكن يجب أن يعلم أيضاً أن التجهم درجات، فربما وجد في التجهم من تأول بعض الآيات في الصفات، وقد يصل إلى النفي المحض، بل نفي النفي، ونفي الإثبات ممن يقول: لا أنفي، ولا أثبت.
موقف الإمام ابن تيمية في حكم الصلاة خلف المبتدع:
وقد رجح شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – الصلاة خلف أهل البدع فقال: “ومن أصول أهل السنة والجماعة: أنهم يصلون الجمع، والأعياد، والجماعات، ولا يدعون الجمعة والجماعة كما فعل أهل البدع من الرافضة وغيرهم، فإن كان الإمام مستوراً لم يظهر منه بدعة ولا فجور صلي خلفه الجمعة والجماعة باتفاق الأئمة الأربعة وغيرهم من أئمة المسلمين، ولم يقل أحد من الأئمة: أنه لا تجوز الصلاة إلا خلف من علم باطن أمره، بل ما زال المسلمون من بعد نبيهم ﷺ يصلون خلف المسلم المستور، ولكن إذا ظهر من المصلي بدعة أو فجور، وأمكن الصلاة خلف من يُعْلَمُ أنه مبتدع أو فاسق مع إمكان الصلاة خلف غيره؛ فأكثر أهل العلم يصححون صلاة المأموم، وهذا مذهب الشافعي، وأبي حنيفة – رحمهما الله -، وهو أحد القولين في مذهب مالك، وأحمد – رحمهما الله -، وأما إذا لم يمكن الصلاة إلا خلف المبتدع أو الفاجر كالجمعة التي إمامها مبتدع أو فاجر، وليس هناك جمعة أخرى؛ فهذه تُصَلَّى خلف المبتدع والفاجر عند عامة أهل السنة والجماعة، وهذا مذهب الشافعي، وأبي حنيفة، وأحمد بن حنبل وغيرهم من أئمة أهل السنة بلا خلاف عندهم.
وكان بعض الناس إذا كثرت الأهواء يحب أن لا يصلي إلا خلف من يعرفه على سبيل الاستحباب كما نُقِلَ ذلك عن أحمد – رحمه الله – أنه ذكر ذلك لمن سأله، ولم يقل أحمد – رحمه الله – أنه لا تصح إلا خلف من أعرف حاله، ولما قدم أبو عمر، وعثمان بن مرزوق؛ إلى ديار مصر، وكان ملوكها في ذلك الزمان مظهرين للتشيع، وكانوا باطنية ملاحدة، وكان بسبب ذلك قد كثرت البدع، وظهرت بالديار المصرية؛ أمر أصحابه ألا يصلوا إلا خلف من يعرفونه لأجل ذلك، ثم بعد موته فتحها ملوك السنة مثل: صلاح الدين – رحمه الله -، وظهرت فيها كلمة السنة المخالفة للرافضة، ثم صار العلو والسنة يكثر بها ويظهر.
فالصلاة خلف المستور جائزة باتفاق علماء المسلمين، ومن قال إن الصلاة محرمة أو باطلة خلف من لا يعرف حاله فقد خالف إجماع أهل السنة والجماعة، وقد كان الصحابة يصلون خلف من يعرفون فجوره كما صلى عبدالله بن مسعود وغيره من الصحابة خلف الوليد بن عقبة بن أبي معيط وكان يشرب الخمر، وصلى مرة الصبح أربعاً، وجلده عثمان بن عفان على ذلك، وكان عبدالله بن عمر وغيره من الصحابة يصلون خلف الحجاج بن يوسف، وكان الصحابة والتابعون يصلون خلف ابن أبي عُبَيْد؛ وكان متهماً بالإلحاد، وداعياً إلى الضلال”3
وسُئلَ شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – عن الصلاة خلف من يقول على المنبر: “إن الله تكلم بكلام أزلي قديم ليس بحرف، ولا صوت” فهل تسقط الجمعة خلفه؟ وعن الصلاة خلف من يأكل الحشيشة، وعن الصلاة خلف المرازقة؟ فأجاز الصلاة خلف هؤلاء جميعاً؟ وقال: “إذا كان الإمام مبتدعاً فإنه يصلى خلفه الجمعة، وتسقط بذلك، والله أعلم”.4
وقد بنى شيخ الإسلام – رحمه الله – هذا الحكم على الأصل الآتي حيث قال: “ولا يجوز تكفير المسلم بذنب فعله، ولا بخطأ أخطأ فيه، كالمسائل التي تنازع فيها أهل القبلة، فإن الله – تعالى – قال: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (سورة البقرة:285)، وقد ثبت في الصحيح أن الله – تعالى – أجاب هذا الدعاء، وغفر للمؤمنين خطأهم.
والخوارج المارقون الذين أمر النبي ﷺ بقتالهم؛ قاتلهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أحد الخلفاء الراشدين ، واتفق على قتالهم أئمة الدين من الصحابة، والتابعين ومن بعدهم، ولم يكفرهم علي بن أبي طالب، وسعد بن أبي وقاص وغيرهما من الصحابة، بل جعلوهم مسلمين مع قتالهم، ولم يقاتلهم علي حتى سفكوا الدم الحرام، وأغاروا على أموال المسلمين، فقاتلهم لدفع ظلمهم وبغيهم لا لأنهم كفار. ولهذا لم يَسْبِ حريمهم، ولم يغنم أموالهم.
وإذا كان هؤلاء الذين ثبت ضلالهم بالنص، والإجماع؛ لم يكفروا مع أمر الله تعالى، ورسوله ﷺ بقتالهم؛ فكيف بالطوائف المختلفين الذين اشتبه عليهم الحق في مسائل غلط فيها من هم أعلم منهم؟ فلا يحل لأحد من هذه الطوائف أن تكفر الأخرى، ولا تستحل دمها ومالها، وإن كانت فيها بدعة محققة، فكيف إذا كانت المكفرة لها مبتدعة أيضاً؟ وقد تكون بدعة هؤلاء أغلظ، وقد تكون بدعة هؤلاء أغلظ، والغالب أنهم جميعاً جهال بحقائق ما يختلفون فيه.
والأصل أن دماء المسلمين، وأموالهم، وأعراضهم؛ محرمة من بعضهم على بعض، لا تحل إلا بإذن الله ورسوله قال النبي ﷺ لما خطبهم في حجة الوداع: إن دماءكم، وأموالكم، وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، وفي شهركم هذا5، وقال ﷺ : كل المسلم على المسلم حرام: دمه، وماله، وعرضه6، وقال ﷺ: من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا؛ فهو المسلم، له ذمة الله ورسوله7 وقال ﷺ: إذا التقى المسلمان بسيفهما فالقاتل والمقتول في النار قيل: يا رسول الله هذا القاتل، فما بال المقتول؟ قال: إنه أراد أن يقتل صاحبه8، وقال ﷺ: لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض9، وقال ﷺ: إذا قال المسلم لأخيه: يا كافر! فقد باء بها أحدهما 10 وهذه الأحاديث كلها في الصحاح.
وإذا كان المسلم متأولاً في القتال أو التكفير لم يُكَفَّرْ بذلك، كما قال عمر بن الخطاب لحاطب بن أبي بلتعة: “يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق”، فقال ﷺ: إنه قد شهد بدراً، وما يُدريك أن الله قد اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم؟11 وهذا في الصحيحين، وفيهما أيضاً من حديث الإفك: أن أسيد بن الحضير قال لسعد بن عبادة : “إنك منافق تجادل عن المنافقين”12 واختصم الفريقان، فأصلح النبي ﷺ بينهم، فهؤلاء البدريون فيهم من قال لآخر منهم: إنك منافق، ولم يكفر النبي ﷺ لا هذا، ولا هذا، بل شهد للجميع بالجنة.
وكذلك ثبت في الصحيحين عن أسامة بن زيد أنه قتل رجلاً بعدما قال: لا إله إلا الله، وعَظَّمَ ﷺ ذلك لما أخبره وقال: يا أسامة أقتلته بعد ما قال: لا إله إلا الله؟ وكرر ذلك عليه، حتى قال أسامة: تمنيت إني لم أكن أسلمت إلا يومئذ.13 ومع هذا لم يوجب عليه قوداً، ولا دية، ولا كفارة، فإنه كان متأولاً ظن جواز قتل ذلك القاتل لظنه أنه قالها تعوذاً… إلخ.14
خلاصة رأي شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – في الصلاة خلف المبتدع:
قال: “فالواجب على المسلم إذا صار في مدينة من مدائن المسلمين أن يصلي معهم الجمعة والجماعة، ويوالي المؤمنين ولا يعاديهم، وإن رأى بعضهم ضالاً أو غاوياً، وأمكن أن يهديه ويرشده؛ فعل ذلك، وإلا فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها، وإذا كان قادراً على أن يولي في إمامة المسلمين الأفضل ولاه، وإن قدر أن يمنع من أظهر البدع والفجور منعه، وإن لم يقدر على ذلك فالصلاة خلف الأعلم بكتاب الله، وسنة نبيه، والأسبق إلى طاعة الله ورسوله؛ أفضل؛ كما قال النبي ﷺ في الحديث الصحيح: يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا سواء فأقدمهم هجره، فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سناً 15، وإن كان في هجره لمظهر البدعة والفجور مصلحة راجحة هجره كما هجر النبي ﷺ الثلاثة الذين خُلِّفُوا حتى تاب الله عليهم، وأما إذا وُلِّي غيره بغير إذنه، وليس في ترك الصلاة خلفه مصلحة شرعية؛ كان تفويت هذه الجمعة والجماعة جهلاً وضلالاً، وكان قد رَدَّ بدعة ببدعة”16.
وخلاصة القول: أن أكثر العلماء يرون جواز الصلاة خلف المبتدع على التفصيل الذي قدمناه، ومنهم من منعها وأبطلها، وقال بوجوب إعادتها، وممن رجح صحة الصلاة: الإمام البخاري، وابن حجر، وابن تيمية .. ومن المعاصرين الشيخ ابن باز – رحمه الله – وهو يفصل بين من كانت بدعته شركية كفرية، وبين من ليس كذلك، فيقول: (تصح الصلاة خلف المبتدع، وخلف المسبل إزاره وغيرهما من العصاة في أصح قولي العلماء ما لم تكن البدعة مكفرة لصاحبها، فإن كانت مكفرة له كالجهمي ونحوه ممن بدعتهم تخرجهم عن دائرة الإسلام فلا تصح الصلاة خلفهم، ولكن يجب على المسئولين أن يختاروا للإمامة من هو سليم من البدعة والفسق، مرضي السيرة؛ لأن الإمامة أمانة عظيمة، القائم بها قدوة للمسلمين، فلا يجوز أن يتولاها أهل البدع والفسق مع القدرة على تولية غيرهم”.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.
1– (صحيح البخاري كتاب الأذان 56).
2– فتح الباري 2 -222.
3– مجموع الفتاوى (3-280و281).
4– الفتاوى الكبرى (2-312).
5– رواه البخاري، ومسلم.
6– رواه مسلم.
7– رواه البخاري.
8– رواه البخاري ومسلم.
9– رواه البخاري ومسلم.
10– رواه البخاري ومسلم.
11– رواه البخاري ومسلم.
12– رواه البخاري ومسلم.
13– رواه البخاري ومسلم.
14– مجموع الفتاوى (3-282و284).
15– رواه مسلم.
16– مجموع الفتاوى (3-286)، وانظر أيضاً رسالة الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق الموسومة بـ (موقف أهل السنة والجماعة من البدع والمبتدعة).