أخلاق الصائم
الحمد لله الذي أتقن بحكمته ما فطر وبَنَى، وشرع الشرائع رحمة وحكمة طريقاً وسننا، وأمرنا بطاعته لا لحاجته بل لنا، يغفر الذنوب لكل من تاب إلى ربه ودنا، ويجزل العطايا لمن كان محسناً {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا}1. وصلى الله وسلم على نبينا محمد, وعلى سائر آله وأصحابه الكرام الأمناء، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
إن الله جل وعلا ما شرع عبادة من العبادات إلا لتتطهر وتزكو نفوس العباد, فبطاعة الله تسمو الأخلاق وترتقي بما يخالجها من الأحاسيس في لذة العبادة التي هي سر في شرع الله, ومن تلك العبادات التي يتغير فيها خلق المسلم عبادة الصيام, حيث أن الصائم يكتسب من صيامه فوائد كثيرة وحكم عظيمة، منها: تطهير النفس وتهذيبها وتزكيتها من الأخلاق السيئة والصفات الذميمة كالأشر والبطر والبخل، وتعويدها الأخلاق الكريمة كالصبر والحلم والجود والكرم ومجاهدة النفس فيما يرضي الله ويقرب لديه.
ويعرف العبد نفسه وحاجته وضعفه وفقره لربه ويذكره بعظيم نعم الله عليه، ويذكر –أيضا-حال صومه بحاجة إخوانه الفقراء فيوجب له ذلك شكراً لله سبحانه والاستعانة بنعمه على طاعته ومواساة إخوانه الفقراء والإحسان إليهم.
وقد أشار الله سبحانه وتعالى إلى هذا التغيير في سلوك وأخلاق المرء حال صيامه في قوله -عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}2. فأوضح سبحانه أنه كتب علينا الصيام لنتقيه، سبحانه فدل ذلك على أن الصيام وسيلة للتقوى، والتقوى هي طاعة الله ورسوله بفعل ما أمر وترك ما نهى عنه عن إخلاص لله -عز وجل- ومحبة ورغبة ورهبة، وبذلك يتقي العبد عذاب الله وغضبه.
فالصيام شعبة عظيمة من شعب التقوى، وقربة إلى المولى -عز وجل- ووسيلة قوية إلى التقوى في بقية شئون الدين والدنيا.
إن الصائم يتعلم ويتربى بالصيام على الطهر والعفاف, وقد أشار النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى ذلك في قوله: (يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ)3.
فبين النبي – عليه الصلاة والسلام- أن الصوم وجاء للصائم ووسيلة لطهارته وعفافه، وما ذاك إلا لأن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، والصوم يضيق تلك المجاري، ويذكر بالله وعظمته فيضعف سلطان الشيطان ويقوى سلطان الإيمان، وتكثر بسببه الطاعات من المؤمنين وتقل به المعاصي.
إخواني:
إن المؤمن لا يترك محبوباً له إلا لما هو أعظم عند الله منه، ولما علم المؤمن أن رضا الله في الصيام بترك شهواته المجبول على محبتها قَدَّم رضا مولاه على هواه فتركها أشد ما يكون شوقاً إليها؛ لأن لذته وراحة نفسه في ترك ذلك لله -عز وجل-، ولذلك كان كثير من المؤمنين لو ضُرِب أو حُبِس على أن يفطر يوماً من رمضان بدون عذر لم يُفْطِر، وهذه حكمة من أبلغ حكم الصيام وأعظمها.
وإن الصيام ليغير في خلق صاحبه في قلبه فقلب الصائم يتخلى للفكر والذكر والرقة والخشوع,لأن تناول الشهوات كما هو معلوم يستوجب الغفلة، وربما يُقَسِّي القلب ويُعْمِي عن الحق، ولذلك أرشد النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى التخفيف من الطعام والشراب، فقال -صلى الله عليه وسلم-:«مَا مَلَأَ آدَمِيٌّ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنٍ بِحَسْبِ ابْنِ آدَمَ أُكُلَاتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ فَإِنْ كَانَ لَا مَحَالَةَ فَثُلُثٌ لِطَعَامِهِ وَثُلُثٌ لِشَرَابِهِ وَثُلُثٌ لِنَفَسِهِ»4.
والصائم الغني الذي وهبه الله نعمة المال فهو قد تعود طوال العام على الرفاهية في المطعم والمشرب والملبس والمسكن فنسي أو غفل عن الفقراء والبائسين, فلما صام تغير سلوكه وظهرت أحاسيسه تجاه غيره,فعرف بذلك قدر نعمة الله عليه بالغنى حيث أنعم الله تعالى عليه بالطعام والشراب والنكاح، وقد حُرِمَها كثير من الخلق فيحمد الله على هذه النعمة ويشكره على هذا التيسير, ويذكر بذلك أخاه الفقير الذي ربما يبيت طاوياً جائعاً فيجود عليه بالصدقة يكسو بها عورته, ويسد بها جوعته, ولذلك كان النبي -صلى الله عليه وسلم- أجود الناس وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل فيُدارِسه القرآن -كما ثبت ذلك في الصحيح5.
عباد الله:
إن الصائم الحق يتأثر سلوكه بالصيام في تعامله مع من حوله فالصيام يمَرِّن على ضبط النفس,والسيطرة عليها,والقوة على الإمساك بزمامها حتى يتمكن من التحكم فيها ويقودها إلى ما فيه خيرها وسعادتها، فإن النفس أمارة بالسوء إلا ما رحم ربي، فإذا أطلق المرء لنفسه عنانها أوقعته في المهالك، وإذا ملك أمرها وسيطر عليها تمكن من قيادتها إلى أعلى المراتب وأسنى المطالب.
وهذا لا يتحقق إلا لمن صام صوماً شرعيا مستشعراً عبادة ربه بذلك, منتظراً الثواب منه سبحانه, صامت بطنه وفرجه ولسانه وجميع جوارحه, وإلا فهو معرض لوساوس الشيطان ونزغاته، فيرتكب أخطاء قد تزهق صومه فضلاً عن أنه لا يستفيد منه ولا تزكو أخلاقه بصومه، وهذا لمن اتخذ الصيام مجرد عادة يصوم إذا صام الناس ويفطر إذا أفطروا، ولم يدخل مدرسة الصيام دخولاً إيمانياً، أو هو يفسر الصوم بأنه مجرد إمساك عن المفطرات، فيطلق لسانه وبصره فيما حرم الله ومنع نفسه ما كان أصله مباحاً له من المطعم والمشرب والمنكح مدعياً أنه صائم, فهذا لا حاجة لله في أن يدع طعامه وشرابه وقد عاش بعيداً عن الصيام الذي يتعلم منه أموراً كثيرة وعظيمة تنفعه في دينه ودنياه.
قال عليه -الصلاة والسلام-: (مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ)6.
اللهم ارزقنا شكر نعمتك وحسن عبادتك، واجعلنا من أهل طاعتك وولايتك، وآتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين،وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
والحمد لله رب العالمين7.
1 العنكبوت : 69 .
2 (183) سورة البقرة.
3 رواه البخاري -4677- (15/496) ومسلم -2485- (7/173).
4 رواه الترمذي -2302- (8/387), وأحمد -16556- (35/47) وصححه الألباني في صحيح الترمذي برقم(2380).
5 صحيح البخاري -1769- (ج 6 / ص 470).
6 رواه البخاري -1770- (6/472).
7 مجالس شهر رمضان للشيخ ابن عثيمين –رحمه الله-.فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.(بتصرف).