مشروعية جلسة الاستراحة

 

 

مشروعية جلسة الاستراحة

الحمد لله وكفى، وصلاة وسلام على النبي المصطفى، وعلى آله وصحبه منابر العلم والتقى.

أمابعد:

فإن مما يجدر الإشارة إليه من أحكام الشريعة هي تلك المسائل التي تتعلق بأعظم شعيرة في الدين ألا وهي الصلاة، وإذا كان عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – يكتب إلى الأفاق.. إن أهم أموركم عندي الصلاة فمن حفظها حفظ دينه، ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع،ولاحظ في الإسلام لمن ترك الصلاة. فالمسلم بحاجة أن يتفقه في الركن الركين الذي لايستقيم إٍسلام العبد إلا به، بل ولا حظ له من دينه إذا فرط بشأنه وتهاون بأمره.

ومن جملة تلك المسائل جلسات الصلاة وحكمها لنحقق الإتباع فيها للقدوة العظمى والأسوة الحسنى نبينا محمد   تسليماً كثيرا كما قال ربنا جلَّ وعلا:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا}1 وسنقتصر على جلسة الاستراحة، إذ أنها محل خلاف بين الفقهاء لنبين حكمها وما يتعلق بها:  

* تعريف جلسة الاستراحة: 

بفتح الجيم؛ لأنها مرة من الجلوس ويجوز كسر الجيم بتقدير إرادة الهيئة؛ لأن فيها قدرا زائدا على الجلسة وذلك هو الهيئة على قدميه وأليتيه.2

فجلسة الإستراحة إذا هي: جلسة خفيفة يجلسها المصلي بعد الفراغ من السجدة الثانية من الركعة الاولى، قبل النهوض إلى الركعة الثانية، وبعد الفراغ من السجدة الثانية، من الركعة الثالثة، قبل النهوض إلى الركعة الرابعة.3

* أدلة جلسة الاستراحة :

وردفي جلسة الاستراحة حديثين هما:

حديث مالك بن الحويرث – رضي الله عنه-: ” أنه رأى النبي   يصلي، فإذا كان في وترٍ من صلاته لم ينهض حتى يستوي قاعداً“.4  .

وحديث أبي حميد الساعدي – رضي الله عنه -: وفيه قال : “… ثم ثنى رجله وقعد واعتدل حتى يرجع كل عضوٍ في موضعه ثم نهض”.5

* حُكْمها:

اختلف الفقهاء في حكمها تبعا لاختلاف الأحاديث:

يقول ابن القيم: “واختلف الفقهاء فيها هل هي من سنن الصلاة فيستحب لكل أحد أن يفعلها، أو ليست من السنن وإنما يفعلها من احتاج إليها”6.

مذاهب الفقهاء فيها:   

•منهم من قال باستحبابها ومشروعيتها: قال بها الشافعي وزعم ابن الأثير أنها مستحبة7 وعن أحمد روايتين اختارها أبو بكر عبد العزيز وشيخه الخلال وذكر أن أحمد رجع عن الأول8 ودليلهم: حديث مالك المتقدم.9

• ومنهم من قال لا تشرع: وهم المالكية والأحناف واحتجوا بحديث أبي حميد الساعدي: ” أنه لما رفع رأسه من السجدة الثانية قام ولم يتورك”10.11

• ومنهم من قال: إن كان المصلي ضعيفاً جلس للاستراحة لحاجته إلى الجلوس، وإن كان قوياً لم يجلس لغناه عنه وحملوا جلوسه   على أنه كان في آخر عمره عند كبره وضعفه.12 واستدلوا بحديث : (( لا تبادروني بركوع ولا بسجود .. إني قد بدنت)).13

مشروعية جلسة الاستراحة من عدمها :-

 1- حُجة من قال بعدم مشروعيتها :

من قال بعدم مشروعيتها استدل أيضاً بحديث وائل بن حجر ” كان إذا رفع رأسه من السجدتين استوى قائماً14.

قالوا: وسائر من وصف صلاته    لم يذكر هذه الجلسة وإنما ذكرت في حديث أبي حميد، ومالك بن الحويرث. ولو كان هديه  فعلها دائماً لذكرها كل من وصف صلاته .15

وأيضاً: يحتمل أن ما فعله النبي   في حديث مالك لعلة كانت به فقعد من أجلها ولو كانت مشروعة لشرع لها ذكر خاص .

ولا يسلم لهم بما قالوا لأمور :

لأن حديث وائل لا ينافي كونها سنة بل يحمل على نفي الوجوب فقط، وكذلك يحمل عليه حديث أبي حميد النافي له16.

وحجتهم الثانية: يرد عليها أن السنن المتفق عليها كالمجافاة وغيره لم يستوعبها كل من وصف صلاته    إنما أخذت من مجموعهم .

وقولهم يحتمل أن فعله   لها لعله به يرد بأن الأصل عدم العلة،ومالك راوي هذه الجلسة هو راوي ” صلوا كما رأيتموني أصلي ” فحكايته لصفات صلاته   داخلة تحت هذا الأمر.17

وأما ترك بعض الصحابة لها  كما روى ابن المنذر عن النعمان بن أبي عياش قال: أدركت غير واحد من أصحاب النبي   فكان إذا رفع رأسه من السجدة في أول ركعة وفي الثالثة قام كما هو ولم يجلس .

فلا يقدح في عدم سنيتها لأن ترك ما لا يجب جائز.

من قال تشرع لمن احتاجها :

احتج بأنه   إنما فعلها في آخر عمره عند كبره وضعفه وتمسك بحديث (( لا تبادروني بالقيام والقعود فإني قد بدنت ))18 فدل على أنه كان فعلها لسبب فلا تشرع إلا في حق من اتفق له نحو ذلك .

وقال الإمام ابن قيم الجوزية في كتابه الصلاة: ” ولا ريب أنه    فعلها ولكن هل فعلها على أنها من سنن الصلاة وهيآتها كالتجافي وغيره؟ أو لحاجته إليها لما أسن وأخذه اللحم؟ وهذا الثاني أظهر لوجهين:  أحدهما: أن فيه جمعاً بينه وبين حديث وائل بن حجر وأبي هريرة أنه كان ينهض على صدور قدميه.

الثاني: أن الصحابة الذين كانوا أحرص الناس على مشاهدة أفعاله وهيأت صلاته، كانوا ينهضون على صدور أقدامهم. فكان عبد الله بن مسعود يقوم على صدور قدميه في الصلاة ولا يجلس رواه البيهقي عنه ورواه عن ابن عمر وابن عباس وابن الزبير وأبي سعيد الخدري من رواية عطيه العوفي عنهم وهو صحيح عن ابن مسعود ولم يكن يرفع يديه في هذا القيام “19.

صفة الجلسة للاستراحة :

روى أبو قتادة بن ربعي هيئتها يقول: أنا أعلمكم بصلاة رسول الله   قالوا: ما كنت أقدمنا له صحبة ولا أكثرنا له إتيانا قال: بلى، قالوا: فاعرض فقال: كان رسول الله   …  ثم ثنى رجله وقعد واعتدل حتى يرجع كل عظم في موضعه ثم نهض”20.

قال ابن قدامه في المغني: ” فإذا قلنا: يجلس فيحتمل أنه يجلس مفترشاً على صفة الجلوس بين السجدتين وهو مذهب الشافعي . لقول أبي حميد في صفة صلاة النبي صلاة النبي  : ” ثم ثنى رجله وقعد واعتدل حتى يرجع كل عضواً في موضعه ثم نهض “. وهذا صريح في كيفية جلسة الاستراحة  فيتعين المصير إليه  “.21

  ويكره تطويلها قال النووي في مجموعه ” أنها خفيفة جدا “.22

كيفية النهوض منها :

ورد في حديث مالك بن الحويرث في صحيح البخاري ” وإذا رفع رأسه من السجدة الثانية، جلس واعتمد على الأرض  ثم قام “.23 فالاعتماد على الأرض باليدين هو السنة الصحيحة الواردة عنه.

وهناك قول آخر: أنه يقوم على صدور قدميه – ذكرها ابن قدامه في المغني واحتج لها بما روى أبو هريرة أنه   كان “ينهض على صدور قدميه”.24

وبما روى وائل بن حجر قال:رأيت رسول الله   … وإذا نهـــض نهض على ركبتيه واعتمد على فخذيه”25 وقد توسع ابن قدامة في كيفية النهوض.

خصائص جلسة الاستراحة عند من يقول بها:

-أنها لا يدعو فيها بشيء.26

هذا وصلى وسلم على إمام المتقين، محمد بن عبد الله الصادق الأمين. والحمد لله رب العالمين.


1 سورة الأحزاب (21)

2 المطلع على أبواب المقنع ( 1/ 78 ).

3 فقه السنة  ( 1/ 169).

4 رواه البخاري برقم (780).

5 رواه الترمذي برقم ( 280)، وصححه الألباني في صحيح وضعيف ( 1 / 304 ).

6 زاد المعاد ( 1/ 240 ).

7 عمدة القاري ( 5/ 201 ).

8 المبدع  ( 1 /459).

9 المغني 1 / 530 نهاية المحتاج ( 2/ 389 ).

10 رواه أبو داود برقم ( 824). وضعفه الألباني في صحيح وضعيف جامع الترمذي ( 2/ 466).

11حاشية ابن عابدين (2/ 27)، الفواكه للدواني ( 1/184).

12 المغني ( 1/ 311 ).

13 رواه أبو داود برقم ( 524).وقال الألباني: حسن صحيح – صحيح وضعيف سنن ابن ماجه. ( 2/ 463). 

14 رواه أبو داود برقم ( 713).وضعف الألباني في الإرواء ( 1/ 73).

15 زاد المعاد ( 1/ 240)،

16 إعانة الطالبين ( 1/ 167).

17 المجموع ( 3/ 405).

18 سبق تخريجه

19 المغني ، الجزء 1/ ص 462

20 رواه الترمذي برقم (280).

21 المغني 1/ (311).

22 المنثور  ( 2/ 10).

23 رواه البخاري برقم ( 781).

24 رواه الترمذي برقم ( 265).

25 سبق تخريجه.

26 المنثور في القواعد للزركشي 2 / 10 ، 11 .