دور المسجد في خلافة أبي بكر الصديق

دور المسجد في خلافة أبي بكر الصديق – رضي الله عنه –

 

الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، إياك نعبد وإياك نستعين، إهدنا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم، من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا،لك الحمد كما خلقتنا ورزقتنا وعلمتنا وكسوتنا وآويتنا ونصرتنا وأيدتنا وحفظتنا ووهبتنا وهديتنا لأحسن الأعمال لايهدي لأحسنها إلا أنت، والصلاة والسلام على خير البرية وأزكى البشرية، أما بعد:

 فإن موت النبي – صلى الله عليه وسلم – كان له أثره البالغ على نفوس صحابته – رضوان الله عليهم – بل على المسلمين في كل أنحاء الجزيرة، مما أدى إلى ارتداد الكثير منهم عن الإسلام ومنعهم الزكاة التي كانوا يؤدونها إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – تلك الردة التي أخذت أشكالا عدة تتمثل في المرتدين حول المدينة، وفي المتنبئين وأتباعهم، والمانعين لأداء الزكاة، والطامعين في المدينة لنهب ما فيها، إلى غير ذلك من أنواع الكفر والفساد، وفي هذه الآونة، والأمر على هذا الحال، والصحابة في أشد الغربة بموت نبيهم – صلى الله عليه وسلم – وبردة العرب حتى لم يعد يعبد الله إلا في مكة والمدينة وثقيف، توجه الخليفة الأول، القائد الفذ، أمير المؤمنين، أبو بكر الصديق – رضي الله عنه – إلى مؤسسة التغيير والدفاع، التي منها خرج الإسلام، ومنها تحمى بيضته، تلك المؤسسة التي منها انطلقت الفتوحات، وتحققت الانتصارات، وعلت الرايات، ألا إنه بيت الرحمن، وموطن تلاوة القرن، المسجد، توجه أبو بكر – رضي الله عنه – إلى المسجد فأعتلى منبره، وأعلن سياسته قائلاً " والله لو أن السباع تجر برجلي ماحللت لواء عقده رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقصد بذلك جيش أسامة الذي توفي النبي – صلى الله عليه وسلم – بعد أن جهزه وأرسله،  وقد غادر المدينة متوجهاً إلى تخوم البلقاء من الشام لغزو الروم1، ثم جاء دور المسجد في الدفاع عن الإسلام، والذود عن حياضه، ومقاتلة المرتدين، فعقد أبو بكر – رضي الله عنه – مجلس شورى؛ لإبداء الرأي حول جهاد المرتدين في المسجد ففي البداية والنهاية عن صالح بن كيسان قال: لما كانت الردة قام أبو بكر في الناس فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:" الحمد لله هدى فكفى، وأعطى فأغنى، إن الله بعث محمداً – صلى الله عليه وسلم – والعلم شريد، والإسلام غريب طريد، وقد رث حبله، وخلق عهده، وضل أهله عنه …..وإن من حولكم من العرب منعوا شاتهم وبعيرهم، ولم يكونوا في دينهم أزهد منهم يومهم هذا، ولم تكونوا في دينكم أقوى منكم يومكم هذا، على ما تقدم من بركة نبيكم – صلى الله عليه وسلم – وقد وكلكم إلى المولى الكافي الذي وجده ضالاً فهداه، وعائلاً فأغناه، وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها، والله لا أدع أن أقاتل على أمر الله حتى ينجز الله وعده، ويوفي لنا عهده، ويقتل من قتل منا شهيداً من أهل الجنة، ويبقى من بقي منا خليفته وذريته في أرضه، قضاء الله الحق، وقوله الذي لاخلف له {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ}2 ثم نزل – من على المنبر-3"

بل إن أبا بكر – رضي الله عنه – اتخذ المسجد مقراً لقيادة إدارة جهاد المرتدين وحربهم، وثكنة عسكرية لقتالهم، جمع فيه أهل المدينة استعدادا للقتال قال: الطبري – رحمه الله – بعد أن ساق كلاماً عن المرتدين ومجيئهم وقدومهم إلى المدينة" جعل أبو بكر – رضي الله عنه – – بعدما أخرج الوفد- على أنقاب المدينة عليا والزبير وطلحة بن عبيد الله وعبد الله بن مسعود، وأخذ أهل المدينة بحضور المسجد، فقال لهم :" إن الأرض كافرة، وقد رأى وفدهم منكم قلة، وأنكم لاتدرون ليلا تؤتون أم نهارا، وأدناهم منكم على بريد، وقد كان القوم يأملون أن نقبل منهم ونوادعهم، وقد أبينا عليهم، ونبذنا إليهم عهدهم، فاستعدوا وأعدوا، فما لبثوا إلا ثلاثاً حتى طرقوا المدينة غارة من الليل وخلفوا بعضهم ليكونوا لهم ردءاً، فوافوا الفور ليلاً الانقاب وعليها المقاتلة، ودونهم أقوام يدرجون، فنبهوهم وأرسلوا إلى أبي بكر بالخبر، فأرسل إليهم أبو بكر: "إلزموا أماكنكم"، ففعلوا، وخرج في أهل المسجد على النواضح إليهم، فانفش العدد، فاتبعهم المسلمون على إبلهم حتى بلغوا ذا حسا…"4.

وفي المسجد كان ينزل القادة إذا عادوا من الغزو، وفيه تنصب الرايات، وفيه يستقبل الخليفة القادة، قال السيد الوكيل بعد أن ذكر انتصار أبي بكر والمسلمين على المرتدين حول المدينة من عبس، وذبيان،وغيرهم "وفي غمرة تلك الفرحة وصل جيش أسامة مظفراً يسوق الغنائم إلى المدينة، وكان في استقباله الخليفة وكبار الصحابة، وتوجه أسامة إلى المسجد عند دخوله المدينة كما كان يفعل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عند عودته من الغزو وهناك نصب أسامة الراية التي عقدها رسول الله – صلى الله عليه وسلم – شكراً على ما أكرمه الله به من النصر5.

وفي البداية والنهاية ما مضمونه: أن خالد بن الوليد – قائد حروب الردة – حين طلبه الخليفة ليقدم المدينة دخل المسجد وهو لابس عدة الحرب كهيئته في الحرب، ولبس درعه التي من حديد وقد صدى من كثرة الدماء، وغرز في عمامته والنشاب المضمخ بالدماء، واستقبله أبو بكر وهو على هذه الهيئة وأبقاه على إمرته.6 

ولما فرغ الصديق – رضي الله عنه – من حروب الردة، وأخضع الجزيرة العربية كلها للإسلام، وبسط يمينه بعد ذلك على العراق، أراد أن يبعث للشام كما بعث للعراق، فبعث إلى القادة من جميع البلدان، أن يقدموا إليه مع جيوشهم إلى المدينة، فلما أجتمع عنده من الجيش ما أراد قام في الناس خطيباً فأثنى على الله بما هو أهله، ثم حث الناس على الجهاد، ثم شرع في تولية الأمراء، وعقد الألوية والرايات7.

وهكذا نجد أن المسجد قام بدور فعال، وأثر عظيم، في دعم الجهاد والمجاهدين بالروح المعنوية والإعلامية والتدريبية، وكان هو المنطلق لكثير من المعارك، وعدد من الفتوحات، وإعادة الخلافة إلى أمرها الأول في عهد محمد – صلى الله عليه وسلم – اللهم وفقنا، وارزقنا، ويسر أمورنا، وتوفنا وأنت راض عنا.

والحمد لله رب العالمين.


1 – تاريخ الطبري ( ج2 – ص 461).

2 – النور: من الآية55.

3 – البداية والنهاية ( ج6- ص 311- 312).

4 – تاريخ الطبري ( ج 2 – ص 476- 477).

5 – جولة تاريخية في عصر الخلفاء الراشدين ص 26.

6 – البداية والنهاية ( ج6- ص 323).

7 – المرجع السابق ( ج7 – ص 3).