الفضول

 

الفضول

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:-

أيها الأحبة: نقف اليوم مع حديث عظيم من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم ونستمع إليه لا بآذاننا فقط بل بقلوبنا وهو يعلمنا  أدباً من الآداب الإسلامية، وخلق رفيع من الأخلاق النبوية.

عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي   قال: (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه) حديث حسن رواه الترمذي وغيره.

يخبرنا النبي   أن من علامة حسن إسلام المرء واستقامة دينه تركه ما لا يعنيه، وأن لا يتدخل في شؤون الآخرين. قال ابن رجب رحمه الله1: ومعنى هذا الحديث: أن من حسن إسلامه ترك ما لا يعنيه من قول وفعلٍ واقتصر على ما يعنيه من الأقوال والأفعال، ومعنى يعنيه أنه تتعلق عنايته به، ويكون من مقصده ومطلوبه، والعناية: شدة الاهتمام بالشيء. وليس المراد أنه يترك ما لا عناية له ولا إرادة بحكم الهوى، وطلب النفس؛ بل بحكم الشرع والإسلام ولهذا جعله من حسن الإسلام، فإذا حسن إسلام المرء، ترك ما لا يعنيه في الإسلام من الأقوال والأفعال، فإن الإسلام يقتضي فعل الواجبات.

إن الرسول   ينهانا عن خلق يسمى بالفضول والتفضل هو : التطول على غيرك.2 والتعدي عليه. وفي المفردات للراغب: الفضل الزيادة على الاقتصاد وذلك ضربان: محمود كفضل العلم والحلم، ومذموم كفضل الغضب على ما يجب أن يكون عليه. والفضل المحمود أكثر استعمالاً والفضول في المذموم.

والفضولي هو: الذي يتدخل في شؤون غيره، أو هو كما قال صاحب تاج العروس: قال: الفضولي بالضم المشتغل بما لا يعنيه، وقال  الراغب: الفضول جمع الفضل، وقد استعمل الجمع استعمال المفرد فيما لا خير فيه؛ ولهذا نسب إليه على لفظه، فقيل: فضولي لمن يشتغل بما لا يعنيه؛ لأنه جعل علماً على نوع من الكلام فنزل منزلة المفرد، والفضولي في عرف الفقهاء من ليس بمالك ولا وكيل ولا ولي.3

إذن أيها الإخوة: من اشتغل بما يعنيه وترك ما لا يعنيه فقد سلم ونجا، ومن اشتغل بما لا يعنيه فقد جلب لنفسه المشقة والعناء، وجعلها عرضة لأي متطاول عليها، وقد ذكر النبي   في حديثه عن خير القرون وذكر أن الذين يأتون بعدهم من صفاتهم أنهم يشهدون ولا يستشهدون فعندهم نوع من الفضول، قال  : (خيركم قرني، ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم قال عمران – راوي الحديث-: لا أدري أذكر النبي   بعد قرنين أو ثلاثة – قال النبي  : (إن بعدكم أقواماً  يخونون ولا يؤتمنون، ويشهدون ولا يستشهدون – وهذا هو الشاهد- أنهم يشهدون ولا يستشهدون فعندهم نوع من الفضول. وفي الحديث الآخر قال: (ثم يجيء أقوام تسبق شهادة أحدهم يمينه، ويمنيه شهادته). فهؤلاء الذين ذكرهم الرسول   عندهم نوع من الفضول، وهو أنهم يشهدون ولا يستشهدون ولكن يعارض هذا الحديث ما رواه مسلم من حديث زيد بن خالد مرفوعاً:(ألا أخبركم بخير الشهداء؟ الذي يأتي بالشهادة قبل أن يسألها )وذكر ابن حجر في الفتح وجه الجمع بين الحديثين فقال: جنح آخرون إلى الجمع بينهما فأجابوا بأجوبة: أحدهما أن المراد بحديث زيد من عنده شهادة لإنسان بحق لا يعلم صاحبها فيأتي إليه فيخبره بها، أو يموت صاحبها العالم بها ويخلف ورثة فيأتي الشاهد إليهم أو إلى من يتحدث عنهم فيعلمهم بذلك، وهذا أحس الأجوبة.4

وقد يقول قائل: إن معنى أن لا يتدخل أحد في شؤون الغير- لأن هذا فضول –  أن لا تأمر بالمعروف ولا تنهى عن المنكر، وأن لا تنصح أحداً؟!.

فأقول:علينا أن نفهم معنى حديث الرسول  : (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه) فهو قد قيدها بقوله ما لا يعنيه. وأما الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والنصح لله ورسوله والأئمة المسلمين وعامتهم فهذا مما يعنيه. وعليه أداؤه ولكن الذي نهى عنه الرسول هو التدخل في شؤون الغير بمعنى التصرف في أموالهم وحقوقهم وما أشبه ذلك دون إذنهم. أما التدخل ونصحهم للخير وأمرهم به ونهيهم عن الشر وإنكار ذلك عليهم فهذا مطلوب وقد حث الشارع عليه.

وفي الحقيقة أنه كما سبق أن ذكر الراغب أن الفضول نوعان محمود: وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونصح الناس وتوجيههم لما فيه صلاحهم وهو فضل الحلم والعلم، وما أشبه ذلك. ومذموم وهو: كفضل الغضب، والتدخل في شؤون الناس على جهة الإفساد وعدم الإصلاح.

ولولا الفضول: لما اخترعت المخترعات، واكتشفت المكتشفات فالفضول دفع الإنسان إلى أن يدرس هذا الكون من مخلوقات الله تعالى ويكتشف أسراره العجيبة وآيات الله العظيمة والحمد لله رب العالمين.


1– جامع العلوم والحكم (1/288).

2– لسان العرب 11/525.

3– تاج العروس (15/581).

4– فتح الباري (5/307).