وقفة مع حديث أصحاب الغار
أخبار السابقين، وقصص الأولين، وسير الماضين؛ من أهم وسائل تربية النفوس، وتأديبها على الصالح من الأفعال والأحوال والأقوال، إنها قصص تحكي ليالي وأياماً، ودهوراً وأعواماً، ذهبت أحداثها، وبقيت آثارها، ذهب أصحابها وبقيت الدروس والعبر منها، قصص يستفيد منها من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
ومن أحسن القصص ما جاء في كتاب الله سبحانه وتعالى، وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وها نحن اليوم نعيش في هذه الكلمات مع إحدى هذه القصص من الأخبار النبوية،وهي تحكي حال ثلاثة نفر عاشوا لحظات ضيق وكرب؛ لكنهم كانوا أصحاب رصيد من الأعمال الصالحات؛ ففرج الله تعالى عنهم كربتهم، وكانت تلك كرامة من الله تعالى لهم.
وقد روى القصة بتفاصيلها كل من الشيخين: البخاري ومسلم رحمهما الله، ونكتفي هنا بلفظ أحدهما وهو الإمام مسلم الذي ساق السند إلى ابن عمر رضي الله عنهما فقال: عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((بينما ثلاثة نفر يتمشون أخذهم المطر، فأووا إلى غار في جبل، فانحطت على فم غارهم صخرة من الجبل، فانطبقت عليهم، فقال بعضهم لبعض: انظروا أعمالاً عملتموها صالحة لله فادعوا الله تعالى بها لعل الله يفرجها عنكم، فقال أحدهم: اللهم إنه كان لي والدان شيخان كبيران وامرأتي، ولي صبية صغار أرعى عليهم، فإذا أرحت عليهم حلبت فبدأت بوالدي فسقيتهما قبل بَنِيَّ، وأنه نأى بي ذات يوم الشجر فلم آت حتى أمسيت فوجدتهما قد ناما، فحلبت كما كنت أحلب، فجئت بالحلاب، فقمت عند رؤوسهما أكره أن أوقظهما من نومهما، وأكره أن أسقي الصبية قبلهما، والصبية يتضاغون عند قدمي، فلم يزل ذلك دأبي ودأبهم حتى طلع الفجر، فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج لنا منها فرجة نرى منها السماء، ففرج الله منها فرجة فرأوا منها السماء، وقال الآخر: اللهم إنه كانت لي ابنة عم أحببتها كأشد ما يحب الرجال النساء، وطلبت إليها نفسها فأبت حتى آتيها بمائة دينار، فتعبت حتى جمعت مائة دينار، فجئتها بها، فلما وقعت بين رجليها قالت: يا عبد الله اتق الله، ولا تفتح الخاتم إلا بحقه، فقمت عنها، فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج لنا منها فرجة، ففرج لهم، وقال الآخر: اللهم إني كنت استأجرت أجيراً بفرق أرز، فلما قضى عمله، قال: أعطني حقي فعرضت عليه فرقه، فرغب عنه، فلم أزل أزرعه حتى جمعت منه بقراً ورعاءها، فجاءني، فقال: اتق الله ولا تظلمني حقي، قلت: اذهب إلى تلك البقر ورعائها فخذها، فقال: اتق الله، ولا تستهزئ بي، فقلت: إني لا أستهزئ بك، خذ ذلك البقر ورعاءها، فأخذه فذهب به، فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج لنا ما بقي، ففرج الله ما بقي)) رواه البخاري (2165)، ومسلم (4926) واللفظ له.
هذه القصة، وهذا الخبر، وهي وقائع تكلم بها الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم لنقف ملياً متأملين في حال من أخلص لرب العالمين، وأن الفرج مآل من استعان بربه على أمور الدنيا والدين، ونعلم ما للصلة بالله تعالى من السعادة في الدارين.
أولاً: وقبل الوقفات مع هذا الحديث العظيم؛ نقف على عجالة مع بعض الألفاظ التي قد تحتاج إلى شيء من الإيضاح: يقول القاضي عياض رحمه الله تعالى: "قوله: فإذا أرحت عليهم حلبت: أي إذا صرفت الماشية من مرعاها بالعشي أي موضع مبيتها، والمريح: مكان مبيتها، وقيل: مسيرها إليه يقال: أرحت الماشية ورحتها معاً.
وقوله: فنأى بي ذات يوم الشجر: أي بعد لي طلب المرعى، والناء أي البعد.
وقوله: فجئت بالحلاب: هو إناء ملؤه قدر حلبة ناقة، ويقال له: المحلب أيضاً، وقد يريد بالحلاب هنا: اللبن المحلوب كما قيل: الخراف لما يخرف من النخل من الفاكهة.
وقوله: والصبية يتضاغون عند قدمي: يريد: يصيحون ويستغيثون من الجوع، والضغاء مضموم ممدود: صوت الزلة والاستخذال.
قوله: فلم يزل ذلك دأبي ودأبهم: أي حالي اللازمة، والدأب: الملازمة للشيء، والعادة له.
وقوله: فبقيت حتى جمعت مائة دينار، فجئتها، فلما وقعت بين رجليها: أي: جلست منها مجلس الرجل من المرأة، كما جاء في حديث آخر: "قالت: ((اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه)) رواه البخاري (2063)، والحق هنا: الوجه الجائز من نكاح لا بالباطل من الفاحشة، والخاتم كناية عن عذرتها، أي لا يستبيح افتضاضها إلا بما يحل من النكاح، وقوله: استأجرت أجيراً بفرق من أرز: هو إناء قدر ثلاثة آصع، قال بعضهم: بسكون الراء وفتحها، وكذا قيدناه عن كثير من شيوخنا، والأكثر الفتح، قال الباجي: وهو الصواب"1.
ثانياً: إن التربية بالقصة كانت من أساليب التربية النبوية، فقد ربّى النبي عليه الصلاة والسلام بالقدوة، وربّى بالحدث، وربّى بالقصة أيضاً، ونحن في صدد التحليق في هذه القصة المعبرة التي نستقي من معينها، ونرتوي من زلالها، ونقطف شيئاً من ثمراتها، ومن ذلك:
1. أنه مهما اشتد الأمر وضاق فإن مآله إلى التنفيس والفرج بإذن الله فلن يستمر الليل بل يأتي بعده النهار.
مهما طغى الليل فالتاريخ أنبأني أن النهار بأحشاء الدجى يثب
وهكذا الأزمات تنجلي بإذن الله تعالى كما تنجلي في الصباح الظلمات، وكل ضائقة مصيرها أن تكون منفرجة
ولرب ضائقة يضيق بها الفتى ذرعاً وعند الله منها المخرج
ضاقت فلما استحكمت حلقاتها فرجت وكنت أظنها لا تفرج
قد يعم اليأس، وقد يُخيِّم القنوط؛ لكن لا بد أن نعلم أن الله سبحانه من فوق سبع سماوات مطلع على عباده، يكشف البلاء، ويزيل الضراء، ويسمع النداء {أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ}(النمل:62)، بل هو القريب سبحانه من عباده؛ يجيب دعواتهم، ويرى مكانهم، ويرفع بلواهم، {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}(البقرة:186).
ألم يفرج الله تعالى عن موسى عليه السلام وهو في أشد الأزمات: البحر من أمامه، وفرعون من خلفه، ومع هذا كان موسى لا يزال واثقاً بربه، متوكلاً عليه {فَلَمَّا تَرَاءى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ}(الشعراء:61-62)، وكان الله تعالى معه ففرج عنه: {فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ}(الشعراء:63)، إنه فتح الله الأكرم بعد تكالب الهم والغم.
هذا يونس عليه السلام عندما نادى من بطن الحوت في غياهب البحار {وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ}(الأنبياء:87-88)، وهذه البشارة لكل المؤمنين فماذا يخافون بعد ذلك؟
وها هو أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام يرميه قومه بالمنجنيق إلى نار عظيمة؛ فيرفع نداء "حسبي الله ونعم الوكيل"، فيستجيب الله تعالى له، ويحيل النار المحرقة إلى نار معدومة التأثير؛ بحوله وقدرته، وهو اللطيف الخبير، وهو على كل شيء قدير {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ}(الأنبياء:69).
وتذكرنا قصة أصحاب الغار بما حصل من عون لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وصاحبه في الغار {إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}(التوبة:40).
والأمثلة على ذلك كثيرة لا تعد ولا تحصى لأن فضل الله واسع، وعونه لأهل الإيمان حاصل، وقد دلنا النبي صلى الله عليه وسلم على طريق ننال بسلوكه حفظ الله تعالى هي طريق التوكل عليه، وربط القلب باليقين بقدرة الله تعالى، وأنه بيده مقاليد السماوات والأرض، ولا يضر شيء، ولا ينفع إلا بإذنه فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كنت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً فقال: ((يا غلام إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام، وجفت الصحف))2، وأصحاب الغار الثلاثة هؤلاء قد حفظوا الله تعالى فحفظهم، وعظَّموه فأنجاهم؛ وكذلك ينجي الله المؤمنين.
2. ومن أهم دروس قصة أصحاب الغار الثلاثة: أهمية الإخلاص في العمل، فقد كان في آخر دعاء كل واحد منهم: ((فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك؛ فافرج لنا منها فرجة)) يقول الشيخ ابن عثيمين رحمه الله وهو يستنبط الفوائد والعبر من هذا الحديث: "وفيه من العبر: أن الإخلاص من أسباب تفريج الكربات لأن كل واحد منهم يقول: اللهم إن كنت فعلت ذلك من أجلك فافرج عنا ما نحن فيه، أما الرياء – والعياذ بالله -، والذي لا يعمل الأعمال إلا رياء وسمعة حتى يمدح عند الناس؛ فإن هذا كالزبد يذهب جفاء لا ينتفع منه صاحبه؛ نسأل الله أن يرزقنا وإياكم الإخلاص له.
الإخلاص هو كل شيء، لا تجعل نصيباً من عبادتك لأحد، اجعلها كلها لله عز وجل حتى تكون مقبولة عند الله؛ لأنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، فيما يرويه عن الله عز وجل أنه قال: ((أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه)) رواه مسلم (5300)"3 أ.هـ، فكان الإخلاص في العمل سبباً لزحزحة الصخرة العظيمة في الجبل بإذن الله تعالى.
3. ومن الدروس والعبر التي نتعلمها من هذا الحديث الشريف جواز التوسل إلى الله بالعمل الصالح: يقول الله تعالى ذاكراً دعاء أهل الإيمان: {الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}(آل عمران:16)، وقال جل في علاه: {رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ}(آل عمران:193)، فهم قد توسلوا إلى الله بأعمالهم بأن يغفر لهم، يقول الشيخ ابن باز رحمه الله: "فأما التوسل الشرعي فهو أنواع أربعة… إلى أن قال: التوسل بالعمل الصالح، كأن تسأل الله بصلاتك وصيامك، وبر والديك وصلة أرحامك؛ كفعل أهل الغار – وذكر الحديث ثم قال – فهذا يدل على أن التوسل بالأعمال الصالحات من أسباب الفرج"4.
4. نتعلم من هذا الحديث عظمة بر الوالدين، وأنه ليس عملاً سهلاً؛ بل هو من أجلِّ الأعمال التي رغَّب فيها الإسلام، وقد بيَّن الله سبحانه وتعالى لنا أهمية بر الوالدين لما عطف بر الوالدين على الأمر بالتوحيد والنهي عن الشرك فقال عز وجل: {وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا}(النساء:36)، وقال عز وجل: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا}(الإسراء:23)، وقرن شكره بشكرهما فقال الله: {وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ}(لقمان:14)، وامتدح الله عبده يحيى بأنه بار بوالديه فقال: {وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُن جَبَّارًا عَصِيًّا}(مريم:14)، وأمر الله تعالى بالتواضع للوالدين، والدعاء لهما على ما قدما لأبنائهما فقال سبحانه وتعالى: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا}(الإسراء:24)، ونهى الله عن جرحهما ولو بأقل كلمة فقال جل شأنه: {فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا}(الإسراء:23)، فالكلام الكريم هو الذي يستخدم عند التحدث مع الأبوين.
والنبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث يذكر صورة من صور بر الوالدين، فهذا الرجل الذي له أبوان شيخان كبيران جاء متعباً من الرعي، ومع هذا لم يشرب اللبن مع شدة جوعه، ولم يطعمه لزوجته ولا لأولاده إلا بعد أن استيقظ أبواه في الصباح فسقاهما، فكيف حالنا نحن مع آبائنا وأمهاتنا؟ وما مقدار تحملنا وصبرنا عليهما، وهل عملنا مثلما عمل هذا الرجل؟
ولقد بيَّن النبي عليه الصلاة والسلام فضل بر الوالدين فقال عليه الصلاة والسلام: ((الوالد أوسط أبواب الجنة فأضع ذلك الباب أو احفظه))5، ودعا الرسول صلى الله عليه وسلم على من أدرك والديه ثم لم يبرهما فقد جاء عن أبي هريرة رضي الله عنها قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((رغم أنفه، ثم رغم أنفه، ثم رغم أنفه)) قيل: من يا رسول الله؟ قال: ((من أدرك والديه عند الكبر أحدهما أو كليهما ثم لم يدخل الجنة)) رواه مسلم (4628)، وجاء في فضل بر الوالدين الكثير من النصوص التي تبين فضله وأهميته.
5. ومما نتعلمه من قصة الحديث أن العفاف وترك ما حرم الله تعالى سبب رئيس لتفريج الهموم والغموم، وجلب عون الله عز وجل، وأن من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه، فهذا الشاب الذي امتلأ قوة وطاقة، وتأججت فيه نار الشهوة؛ ها هو ينتفض ويترك المعصية تعظيماً وإخلاصاً لربه ومولاه، فأنجاه الله مما أصابه من كرب، وفرَّج عنه وعن أصحابه شيئاً من الصخرة
عفيف تروق الشمس صورة وجهه ولو نزلت يوماً لحاد إلى الظل
ولم لا يكون الأمر كذلك والعفيف موعود بأن يظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله (وذكر منهم): ورجل طلبته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله)) رواه البخاري (620)، ومسلم (1712).
وقال النبي المصطفـى إن سبعة يظلهم الله الكريـم بظله
محبٌ عفيفٌ ناشــئٌ متصدقٌ وباك مصل والإمام بعدله
لقد عظَّم الله في نفسه فكان الله معه، وحفظ الله فحفظه.
تعرَّفَ على الله في وقت رخاءه وسعته فعرفه الله وقت شدته وضيقه، وكم من الشباب من يشكي ضيق الحال، وقلة الأعمال، وتدهور المعيشة، وما يزال بعيداً عن الله عز وجل لا يقف عند حدوده، ولا يراعي حرماته، ولا يتورع عما نهى الله عنه.
6. ونلاحظ هنا أن الفتاة لم تلجأ إلى الفاحشة إلا لحاجتها إلى المال، وكم من أموال يبخل بها من وجبت عليهم الزكاة وغيرها من الحقوق فلا يعطون حق الله فيها؛ مع أن الفقراء لهم حق فيها فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن: ((إنك ستأتي قوماً أهل كتاب…)) إلى أن قال: ((…فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم)) رواه البخاري (1401)، ومسلم (27)، وقد استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم من الفقر لأنه قد يضطر بسببه الإنسان أن يرتكب ما لا تحمد عقباه مما يتلف الدين والدنيا فعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: ((اللهم إني أعوذ بك من الكسل والهرم، والمأثم والمغرم، ومن فتنة القبر، وعذاب القبر، ومن فتنة النار، وعذاب النار، ومن شر فتنة الغنى، وأعوذ بك من فتنة الفقر…)) رواه البخاري (5891)، ومن هنا فإنه لابد من تفقد أحوال من نعلم فقرهم، والتواصي بهم، وإعطائهم ما يكفيهم، ومنحهم ما يمنعهم من ارتكاب ما حرَّم الله عز وجل لأجل لقمة العيش.
7. وآخر أصحاب الغار من ضرب مثلاً سامياً في الوفاء وحفظ الأمانة، وعدم التفريط في حقوق الغير؛ فبعد أن كان نصيب العامل قليلاً من الطعام؛ إذا به يعود وقد تحول هذا الأجر إلى عدد هائل من البقر مع رعاتها، فيأخذ ذلك الأجير هذه الأبقار دون أن يترك لمن رباها ورعاها شيئاً منها، ويحتسب هذا الرجل الطيب صاحب الغار ما قدمه عند الله تعالى، ويجعله خالصاً لوجه الله، فيكون بسبب ذلك الفرج له ولصاحبيه من ذلك الغار الذي أطبقت عليه الصخرة، ويخرجون يمشون.
والقصص في هذا الباب كثيرة، وكم من صور مثالية سطرها أصحابها فعلاً لا كلاماً فقد جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((اشترى رجل من رجل عقاراً له، فوجد الرجل الذي اشترى العقار في عقاره جرَّة فيها ذهب، فقال له الذي اشترى العقار: خذ ذهبك مني إنما اشتريت منك الأرض، ولم أبتع منك الذهب، وقال الذي له الأرض: إنما بعتك الأرض، وما فيها، فتحاكما إلى رجل، فقال الذي تحاكما إليه: ألكما ولد؟ قال أحدهما: لي غلام، وقال الآخر: لي جارية، قال: أنكحوا الغلام الجارية، وأنفقوا على أنفسهما منه، وتصدقا)) رواه البخاري (3213)، ومسلم (3246).
8. ونلاحظ في حديث الثلاثة أصحاب الغار أن كل واحد منهم كان له عمل مستقل غير عمل الآخر، ومن هنا نعلم أن أبواب الجنة كثيرة، وأن المجتمع يحتاج إلى كل عامل، وإلى كل التخصصات النافعة المفيدة، وكلٌ ميسر لما خُلِقَ له، والجنة لها ثمانية أبواب، فيجد المرء فيما يسره الله تعالى له سعة، ويبدع فيما يعمل، ويخلص فيه، وليست العبرة بكثرة العمل بل بإجادته وإتقانه يقول صلى الله عليه وسلم: ((إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه))6.
سائلين المولى جل في علاه أن ينفعنا بما علمنا، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن يزيدنا علماً وعملاً وتقوى وصلاحاً، وأن يثبت على الخير خطانا، وأن يفرج همومنا، وينفس كروبنا، وأن يسهل لنا طريق طاعته، ويبعدنا عن معصيته.
اللهم احفظنا بحفظك، واكلأنا برعايتك، وكن معنا ناصراً ومؤيداً ومعيناً، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله، وصحبه، ومن اهتدى بهداه إلى يوم الدين.
1 بتصرف من "إكمال المعلم شرح صحيح مسلم" للقاضي عياض (8/115-116). (الموسوعة الشاملة الإصدار الثالث).
2 رواه الترمذي (2440)، وصححه الألباني في صحيح لجامع الصغير وزيادته (7957)، المكتب الإسلامي.
3 شرح رياض الصالحين (1/14) لابن العثيمين رحمه الله.
4 موقع ابن باز (http://www.binbaz.org.sa/mat/9836).
5 رواه الترمذي (1822) ، وابن ماجة (3653) واللفظ له، وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجة (8/163) للألباني، (الموسوعة الشاملة الإصدار الثالث).
6 رواه الطبراني في المعجم الأوسط (1/275)، دار الحرمين – القاهرة 1415هـ، تحقيق: طارق بن عوض الله بن محمد وعبد المحسن بن إبراهيم الحسيني، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (2/583) مكتبة المعارف – الرياض.