الشباب والمسجد

الشباب والمسجد

 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه إلى يوم الدين أما بعد:

لعل عينيك لم تخطئ وأنت تجد المسجد قد امتلأت صفوفه بكبار السن – وبخاصة الصف الأول -، فلا تجد فيها إلا النزر اليسير من الشباب، بل أحياناً تقام الصلاة ويصلي الناس؛ والكثير من الشباب قد تشاغل بأمر من أمور الدنيا منها المباح ومنها غير المباح، فهل هذا الذي تنتظره الأمة من شبابها؟

إن الشباب هم القوة الضاربة التي تنهض بهم الأمم، وهم الذين تعقد عليهم آمالها، وقد سمى الله – عز وجل – فترة الشباب قوة يقول – تعالى -: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ}1، قال الإمام الشوكاني – رحمه الله تعالى -: "وهي قوة الشباب، فإنه إذ ذاك تستحكم القوة، وتشتد الخلقة إلى بلوغ النهاية"2، ومرحلة هذه صفتها اهتم بها الإسلام كل الاهتمام، وأخبر النبي – صلى الله عليه وسلم – أن الشباب مرحلة عمرية يفرد الله – تعالى – السؤال عنها يوم يقف الناس للسؤال، فعن ابن مسعود – رضي الله عنه – عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ((لا تزول قدم ابن آدم يوم القيامة من عند ربه حتى يسأل عن خمس: عن عمره فيم أفناه؟ وعن شبابه فيم أبلاه؟ وماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه؟ وماذا عمل فيما علم؟))3، ورغم أن مرحلة الشباب جزء من العمر إلا أنها خصصت بالسؤال، فلماذا خصصت؟

ما خصت إلا لأهميتها يقول صاحب تحفة الأحوذي – رحمه الله تعالى -: "(وعن شبابه) أي: قوته في وسط عمره، (فيما أبلاه) أي ضيعه, وفيه تخصيص بعد تعميم، وإشارة إلى المسامحة في طرفيه من حال صغره وكبره، وقال الطيبي: فإن قلت هذا داخل في الخصلة الأولى فما وجهه؟ قلت: المراد سؤاله عن قوته وزمانه الذي يتمكن منه على أقوى العبادة"4.

ويخبر النبي – صلى الله عليه وسلم – أن الشباب هم الذين ينصرون الدعوات، وينشرون المبادئ والأفكار، فهاهم أصحاب الكهف صنعوا ما صنعوا من مجابهة الباطل، ومحاربة الخرافة، فعاداهم قومهم حتى أظهر الله الحق، وأزهق الباطل، وواجهوا الإمبراطورية الرومانية آنذاك وهم قلة قليلة، وليس ذلك فقط بل ذكرهم الله بأنهم فتية شباب كما قال الله – عز وجل -: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى}5، قال الشوكاني – رحمه الله تعالى -: "(إنهم فتية) أي: أحداث شبان"6، والشباب أسرع الناس قبولاً للحق ممن هم أكبر منهم، قال ابن كثير – رحمه الله تعالى -: "فذكر – تعالى – أنهم فتية (وهم الشباب)، وهم أقبل للحق، وأهدى للسبيل من الشيوخ الذين قد عتوا وأنغمسوا في دين الباطل؛ ولهذا كان أكثر المستجيبين لله – تعالى – ولرسوله – صلى الله عليه وسلم – شباباً، وأما المشايخ من قريش فعامتهم بَقُوا على دينهم، ولم يسلم منهم إلا القليل"7.

إن بيوت الله – تعالى – هي التي تخرج لنا الرجال الذين يقومون بهذا الدين حق القيام، ولقد كان الفضل العظيم، والأجر الكبير؛ لذلك الشاب الذي تربى في المساجد وترعرع تحت سقفها؛ ناهلاً من زلالها، مرتشفاً من معينها، وهو الرجل المطلوب لكي ينصر الله به الأمة قال – تعالى -: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ}8، وقد ذكر – صلى الله عليه وسلم – ما للشاب الذي نشأ على الخير من الفضل العظيم فقال: ((سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله … وشاب نشأ في عبادة ربه، ورجل قلبه معلق في المساجد))9، يقول العلامة بدر الدين العيني – رحمه الله تعالى -: "والثاني من السبعة شاب نشأ في عبادة ربه، يقال: نشأ الصبي ينشأ نشأ فهو ناشئ إذا كبر وشب، يقال: نشأ وأنشأ إذا خرج وابتدأ، وأنشأ يفعل كذا: أي ابتدأ يفعل"10، وقال ابن حجر – رحمه الله تعالى -: "(وشاب): خص الشاب لكونه مظنة غلبة الشهوة؛ لما فيه من قوة الباعث على متابعة الهوى، فإن ملازمة العبادة مع ذلك أشد وأدل على غلبة التقوى"11، فالشاب أكثر تفكيراً بالشهوة من غيره، فإن لم يشغل نفسه بالعبادة والخير شغلته بالباطل، ولهذا خص عن غيره مع أنه قد يجد صعوبه في فعل الطاعة لكن أجره عند الله عظيم، يقول صاحب عمدة القاري: "فإن قلت لِمَ خص الثاني من السبعة بالشباب ولم يقل رجل نشأ؟ قلت: لأن العبادة في الشباب أشد وأشق؛ لكثرة الدواعي، وغلبة الشهوات، وقوة البواعث على اتباع الهوى"12، فما أجملك أيها الشاب وأنت تصف مع المسلمين في الصفوف الأول قد تركت الشهوات والملذات، ولجأت إلى الله منكسراً بين يديه، فيبارك لك في عمرك وشبابك.

ويا خسارة من آثر الدنيا على الآخرة فمن أجل شهوة فانية، أو لذة زائلة؛ ترك صلاة الجماعة، وفارق المسلمين، وشيئاً فشيئاً حتى يفارق الصلاة بالكلية.

أمن أجل مباراة ساخنة، أو مسلسل مثير، أو فيلم شيق تفارق المسجد؟.

تذكر أنك اليوم شاب وغداً عجوز كبير، فإن تعودت هجران المساجد فلن تطيق بعدُ ملازمتها – إلا أن يشاء الله -، فإن من شب على شيء شاب عليه.

أخي الشاب: ما أنت إلا أيام تشرق شمسك في لحظة ما ثم تعلن الرحيل بلا رجعة فالبدار البدار.

نسأل الله تعالى أن يهدي شباب المسلمين، وأن يردهم إليه رداً جميلاًَ، وأن ينصر بهم الأمة، ويجْلوِ بهم الغمة.


1 سورة الروم (54).

2 فتح القدير عند سورة الروم آية (54).

3 الترمذي (2340)، صححه الألباني، انظر السلسلة الصحيحة (946).

4 تحفة الأحوذي (7/85).

5 سورة الكهف (13).

6 فتح القدير (3/272).

7 تفسير ابن كثير (3/74).

8 سورة النور (36،37).

9 البخاري (620)، مسلم (1712).

10 عمدة القاري (5/178).

11 فتح الباري (2/145).

12 عمدة القاري (5/178).