آيـة الدَّيْـن
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد الأمين، وعلى آله وصحابته، ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدِّين، أما بعد:
ففي السطور التالية سيكون الحديث – بعون الله تعالى – حول تفسير آية ذات أحكام كثيرة، ونكات مثيرة، وهي أطول آية في كتاب الله – جل وعلا – اشتملت على أحكام تحفظ بها حقوق العباد، تلكم هي الآية الثانية والثمانين بعد المائتين من سورة البقرة، والتي تسمى بآية الدَّيْن، وسميت بذلك لأنها كلها تتحدث عن الأحكام المترتبة على التعامل بالدَّيْن ومتعلقاته.
ذكر الخلاف في آخر ما نزل من القرآن:
اختلف العلماء في تعيين آخر ما نزل من القرآن على الإطلاق، وهذه الأقوال هي كالتالي:
القول الأول:
أن آخر ما نزل من القرآن قول الله تعالى في سورة البقرة: {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} (281) سورة البقرة.
القول الثاني:
أن آخر ما نزل هو قول الله تعالى – في سورة البقرة أيضاً – {يأيها الذين امنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين} (278) سورة البقرة.
القول الثالث:
أن آخر ما نزل آية الدَّيْن – في سورة البقرة أيضاً -، وسنذكر نص الآية قريباً – قال ابن جرير عن سعيد بن المسيب أنه بلغه أن أحدث القرآن عهداً بالعرش آية الدَّيْن، وأخرج أبو عبيد في الفضائل عن ابن شهاب قال آخر القرآن عهداً بالعرش آية الربا وآية الدَّيْن.
ويمكن الجمع بين هذه الأقوال الثلاثة بما قاله السيوطي – رحمه الله – من أن الظاهر أنها نزلت دفعة واحدة كترتيبها في المصحف؛ لأنها في قصة واحدة، فأخبر كل عن بعض ما نزل بأنه آخر وذلك صحيح1.
نص آية الدَّيْن:
آية الدَّيْن هي أطول آية في كتاب الله – تعالى-، وهذا نص الآية الكريمة:
يقول الله – سبحانه وتعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةَ تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (282) سورة البقرة.
بين يدي الآية:
هذه الآية الكريمة أطول آية في كتاب الله؛ وهي في المعاملات بين الخلق؛ وأقصر آية في كتاب الله قوله تعالى: {ثُمَّ نَظَرَ} (21) سورة المدثر؛ لأنها خمسة أحرف؛ وأجمع آية للحروف الهجائية كلها آيتان في القرآن فقط؛ إحداهما: قوله – تعالى-: {ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاساً}آل عمران: 154 الآية؛ والثانية قوله – تعالى-: {محمد رسول الله والذين معه…} الفتح: 29 الآية؛ فقد اشتملت كل واحدة منهما على جميع الحروف الهجائية.
تفسير الآية:
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}: اعلم أن الله – تعالى- إذا ابتدأ الخطاب بقوله: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} فإنه كما قال عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه -: إما خير تُؤمر به، وإما شر تنهى عنه، فأرعه سمعك، واستمع إليه لما فيه من الخير، وإذا صدَّر الله الخطاب بـ{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} دل ذلك على أن التزام ما خوطب به من مقتضيات الإيمان، وأن مخالفته نقص في الإيمان.
قوله تعالى: {إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ}: أي إذا داين بعضكم بعضاً.
والدَّيْـن: هو كل ما ثبت في الذمة من ثمن بيع، أو أجرة، أو صداق، أو قرض، أو غير ذلك.
قوله – تعالى-: {إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً}: أي إلى مدة محدودة، {فَاكْتُبُوهُ}: أي اكتبوا الدَّيْن المؤجل إلى أجله؛ والفاء هنا رابطة لجواب الشرط في {إذا}.
قوله – تعالى-: {وَلْيَكْتُبْ} اللام للأمر؛ وسكنت لوقوعها بعد الواو؛ وهي تسكن إذا وقعت بعد الواو، كما هنا؛ وبعد ثم والفاء كما في قوله – تعالى-: {ثم ليقطع فلينظر} (15) سورة الحج، بخلاف لام التعليل؛ فإنها مكسورة بكل حال؛ و{بَيْنَكُمْ}: أي في قضيتكم؛ و{كَاتِبٌ} نكرة يشمل أيّ كاتب؛ {بِالْعَدْلِ}: أي بالاستقامة – وهو ضد الجور – والمراد به ما طابق الشرع؛ وهو متعلق بقوله – تعالى-: {لْيَكْتُبْ}.
قوله – تعالى-: { وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ}: أي لا يمتنع كاتب الكتابة إذا طلب منه ذلك.
قوله – تعالى-: {كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ} يحتمل أن تكون الكاف للتشبيه؛ فالمعنى حينئذ: أن يكتب كتابة حسب علمه بحيث تكون مستوفية لما ينبغي أن تكون عليه، ويحتمل أن تكون الكاف للتعليل؛ فالمعنى: أنه لما علمه الله فليشكر نعمته عليه، ولا يمتنع من الكتابة.
قوله – تعالى-: {فَلْيَكْتُبْ} الفاء للتفريع، واللام لام الأمر ولكنها سكنت؛ لأنها وقعت بعد الفاء، وموضع: {فَلْيَكْتُبْ} مما قبلها في المعنى قال بعض العلماء: إنها من التوكيد؛ لأن النهي عن إباء الكتابة يستلزم الأمر بالكتابة؛ فهي توكيد معنوي؛ وقيل: بل هي تأسيس تفيد الأمر بالمبادرة إلى الكتابة، أو هي تأسيس توطئة لما بعدها؛ والقاعدة: أنه إذا احتمل أن يكون الكلام توكيداً، أو تأسيساً، حمل على التأسيس؛ لأنه فيه زيادة معنى؛ وبناءً على هذه القاعدة يكون القول بأنها تأسيس أرجح.
قوله – تعالى-: { وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ} أي يملي؛ وهما لغتان فصيحتان؛ فـ «الإملال» و«الإملاء» بمعنًى واحد؛ فتقول: «أمليت عليه»؛ و«أمللت عليه» لغة عربية فصحى، وهي في القرآن.
قوله – تعالى-: {وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً}: لما أمر الله – عز وجل – بأن الذي يملي هو الذي عليه الحق دون غيره وجه إليه أمراً ونهياً؛ الأمر: {وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ} يعني يتخذ وقاية من عذاب الله، فيقول الصدق؛ والنهي: {وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً}: أي لا ينقص لا في كميته، ولا كيفيته، ولا نوعه.
قوله – تعالى-: {فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً} أي لا يحسن التصرف؛ {أَوْ ضَعِيفاً}؛ الضعف هنا ضعف الجسم، وضعف العقل؛ وضعف الجسم لصغره؛ وضعف العقل لجنونه؛ كأن يكون الذي عليه الحق صغيراً لم يبلغ؛ أو كان كبيراً لكنه مجنون أو معتوه؛ فهذا لا يملل؛ وإنما يملل وليه؛ {أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ}: أي لا يقدر أن يملي لخرس أو غيره؛ وقوله – تعالى-: {أَنْ يُمِلَّ} مؤولة بمصدر على أنه مفعول به؛ والضمير: {هُوَ} للتوكيد؛ وليست هي الفاعل؛ بل الفاعل مستتر في {يُمِلَّ}.
قوله – تعالى-: {فَلْيُمْلِلْ}: اللام هنا لام الأمر؛ وسكنت لوقوعها بعد الفاء؛ {وَلِيُّهُ} أي الذي يتولى شؤونه من أب، أو جد، أو أخ، أو أم، أو غيرهم.
قوله – تعالى-: {الْعَدْلِ} متعلق بقوله – تعالى-: {فَلْيُمْلِلْ} يعني إملاءً بالعدل بحيث لا يجور على من له الحق لمحاباة قريبه، ولا يجور على قريبه خوفاً من صاحب الحق؛ بل يجب أن يكون إملاؤه بالعدل؛ و«العدل» هنا هو الصدق المطابق للواقع؛ فلا يزيد ولا ينقص.
قوله – تعالى-: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} أي اطلبوا شهيدين من رجالكم.
وقوله – تعالى-: {مِنْ رِجَالِكُمْ} الخطاب للمؤمنين.
قوله – تعالى-: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ}، أي إن لم يكن الشاهدان رجلين فرجل وامرأتان؛ وهذا يدل على التخيير مع ترجيح الرجلين على الرجل والمرأتين.
وقوله – تعالى-: {فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ}: الجملة جواب الشرط في قوله – تعالى-: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا}؛ والفاء هنا رابطة للجواب؛ و«رجل» خبر مبتدأ محذوف؛ والتقدير: فالشاهد رجل، وامرأتان.
وقوله – تعالى-: {فَرَجُلٌ} أي فذَكَر بالغ؛ و{وَامْرَأَتَانِ} أي أنثيان بالغتان؛ لأن الرجل والمرأة إنما يطلقان على البالغ.
قوله – تعالى-: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ}: الجار والمجرور متعلق بمحذوف صفة؛ أي رجل وامرأتان كائنون ممن ترضون من الشهداء؛ والخطاب في قوله – تعالى-: {تَرْضَوْنَ} موجه للأمة؛ يعني بحيث يكون الرجل والمرأتان مرضيين عند الناس؛ لأنه قد يُرضى شخص عند شخص ولا يُرضى عند آخر؛ فلا بد أن يكون هذان الشاهدان؛ أو هؤلاء الشهود – أي الرجل والمرأتان – ممن عرف عند الناس أنهم مرضيون؛ قال ابن عباس – رضي الله عنهما -: «شهد عندي رجال مرضيون، وأرضاهم عندي عمر – رضي الله عنه -؛ أن النبي – صلى الله عليه وسلم – نهى عن الصلاة بعد الصبح حتى تشرق الشمس، وبعد العصر حتى تغرب»2.
إذن العبرة بالرضى عند عموم الناس لا برضى المشهود له؛ لأنه قد يرضى بمن ليس بمرضي، وقوله – تعالى-: {مِنَ الشُّهَدَاءِ}: بيان لـ«مَنْ» الموصولة؛ لأن الاسم الموصول من المبهمات؛ فيحتاج إلى بيان؛ فإذا قلت: «يعجبني من كان ذكياً» فهذا مبهم؛ فإذا قلت: «يعجبني من كان ذكياً من الطلاب» صار مبيناً.
قوله – تعالى-: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} فيها قراءات؛ القراءة الأولى بفتح همزة {أَنْ}؛ وعلى هذا يجوز قراءتان في قوله – تعالى-: {فتذكر}: تخفيف الكاف: {فُتذْكِرَ}، وتشديدها: {فتذَكِّرَ}؛ مع فتح الراء فيهما؛ والقراءة الثالثة: بكسر همزة {إِنْ} مع ضم الراء في قوله – تعالى-: {فتذكِّرُ}، وتشديد الكاف.
وقوله – تعالى-: {فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} من التذكير؛ وهو تنبيه الإنسان الناسي على ما نسي.
قوله – تعالى-: {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} أي لا يمتنع الشهداء إذا ما دعوا لتحمل الشهادة، أو أدائها؛ و{مَا} هذه زائدة لوقوعها بعد {إذا}؛ وفيها بيت مشهور يقول فيه:
يا طالباً خذ فائدة *** بعد إذا ما زائدة
ولكن يجب أن نعلم أنه ليس في القرآن شيء زائد بمعنى أنه لا معنى له؛ بل زائد إعراباً فقط؛ أما في المعنى فليس بزائد.
قوله – تعالى-: {وَلا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلَى أَجَلِهِ} أي لا تمَلّوا أن تكتبوا الدَّيْن صغيراً كان أو كبيراً إلى أجله المسمى.
قوله – تعالى-: {ذَلِكُمْ} المشار إليه كل ما سبق من الأحكام؛ {أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} أي أقوم، وأعدل؛ {وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ} أي أقرب إلى إقامتها؛ {وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا} أي أقرب إلى انتفاء الريبة عندكم.
قوله – تعالى-: {إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ}: فيها قراءتان؛ إحداهما بنصب {تِجَارَةً}، و{حَاضِرَةً}؛ والثانية برفعهما؛ فعلى الأول اسم {تَكُونَ} مستتر؛ والتقدير: إلا أن تكون الصفقة تجارة حاضرة؛ وجملة: {تُدِيرُونَهَا} صفة ثانية لـ{تِجَارَةً}؛ أما على قراءة الرفع فإن { تِجَارةٌ} اسم {تَكُونَ}؛ و{ حَاضِرَةٌ} صفة، وجملة: {تُدِيرُونَهَا} خبر {تَكُونَ}.
والتجارة هي كل صفقة يراد بها الربح؛ فتشمل البيع، والشراء، وعقود الإجارات؛ ولهذا سمى الله – سبحانه وتعالى – الإيمان والجهاد في سبيله تجارة كما في قوله – تعالى-: {يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم} (10) سورة الصف.
وأما قوله – تعالى-: {حَاضِرَةً} فهي ضد قوله – تعالى-: {إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ}؛ فالحاضر ما سوى الدَّيْن.
وقوله – تعالى-: {تُدِيرُونَهَا} أي تتعاطونها بينكم بحيث يأخذ هذا سلعته، والآخر يأخذ الثمن، وهكذا.
قوله – تعالى-: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ}: الفاء عاطفة، أو للتفريع؛ يعني ففي هذه الحال ليس عليكم إثم في عدم كتابتها؛ والضمير في قوله – تعالى-: {تَكْتُبُوهَا} يعود على التجارة؛ فهذه التجارة المتداولة بين الناس ليس على الإنسان جناح إذا لم يكتبها؛ لأن الخطأ فيها، والنسيان بعيد؛ إذ إنها حاضرة تدار، ويتعاطاها الناس بخلاف المؤجلة.
قوله – تعالى-: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} أي باع بعضكم على بعض.
قوله – تعالى-: {وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ}؛ مأخوذة من: الإضرار؛ يحتمل أن تكون مبنية للفاعل؛ فيكون أصلها «يضارِر» بكسر الراء الأولى؛ أو للمفعول؛ فيكون أصلها «يضارَر» بفتحها؛ ويختلف إعراب {كَاتِبٌ}، و{شَهِيدٌ} بحسب بناء الفعل؛ فإن كانت مبنية للفاعل فـ{كَاتِبٌ} فاعل؛ وإن كانت للمفعول فـ{كَاتِبٌ} نائب فاعل؛ وهذا من بلاغة القرآن تأتي الكلمة صالحة لوجهين لا ينافي أحدهما الآخر.
قوله – تعالى-: {وَإِنْ تَفْعَلُوا} أي يضار الكاتب، أو الشهيد – على الوجهين {فَإِنَّهُ} أي الفعل – وهو المضارة؛ {فُسُوقٌ بِكُمْ} أي خروج بكم عن طاعة الله إلى معصيته؛ وأصل «الفسق» في اللغة الخروج؛ ومنه قولهم: فسقت الثمرة إذا خرجت من قشرها.
قوله – تعالى-: {وَاتَّقُوا اللَّهَ} أي اتخذوا وقاية من عذاب الله؛ وذلك بفعل أوامره، واجتناب نواهيه، قوله – تعالى-: {وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ}؛ الواو هنا للاستئناف؛ ولا يصح أن تكون معطوفة على {اتَّقُوا اللَّه}؛ لأن تعليم الله لنا حاصل مع التقوى وعدمها، وإن كان العلم يزداد بتقوى الله، لكن هذا يؤخذ من أدلة أخرى.
وقوله – تعالى-: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} يشمل كل ما في السماء والأرض.
وبهذا نصل إلى آخر تفسير هذه الآية الكريمة، ولولا ما في هذه الآية من كثرة الفوائد التي لا يتسع المجال لذكرها كاملة هنا لجعلنا لها عنواناً جانبياً، لكن لا مانع من ذكر شيء يسير منها، فمن هذه الفوائد والتي ذكرها فضيلة الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين – رحمه الله رحمة واسعة -:
1- العناية بما ذُكر من الأحكام؛ وذلك لتصدير الحكم بالنداء، ثم توجيه النداء إلى المؤمنين؛ لأن هذا يدل على العناية بهذه الأحكام، وأنها جديرة بالاهتمام بها.
2- أن التزام هذه الأحكام من مقتضى الإيمان؛ لأنه لا يوجه الخطاب بوصف إلا لمن كان هذا الوصف سبباً لقبوله ذلك الحكمَ.
3- أن مخالفة هذه الأحكام نقص في الإيمان كأنه قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} لإيمانكم افعلوا كذا؛ فإن لم تفعلوا فإيمانكم ناقص؛ لأن كل من يدَّعي الإيمان ثم يخالف ما يقتضيه هذا الإيمان فإن دعواه ناقصة إما نقصاً كلياً، أو نقصاً جزئياً.
4- بيان أن الدين الإسلامي كما يعتني بالعبادات – التي هي معاملة الخالق – فإنه يعتني بالمعاملات الدائرة بين المخلوقين.
5 – ومنها: دحر أولئك الذين يقولون: إن الإسلام ما هو إلا أعمال خاصة بعبادة الله – عز وجل – وبالأحوال الشخصية كالمواريث وما أشبهها؛ وأما المعاملات فيجب أن تكون خاضعة للعصر والحال؛ وعلى هذا فينسلخون من أحكام الإسلام فيما يتعلق بالبيوع، والإجازات وغيرها، إلى الأحكام الوضعية المبنية على الظلم والجهل3.
والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.