أم الخبائث

 

 

أم الخبائث (كل مسكر حرام)

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فإن الله -تبارك وتعالى- قد كرم الإنسان أيما تكريم بأن فضله على كثير من مخلوقاته: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} سورة الإسراء(70)..

لقد كرم الله الإنسان بخلال كثيرة، وميزه بميزات فريدة على بقية المخلوقات، ومما كرم الله الإنسان به: “العقل”، ولذلك أوجب الله حفظ العقل وصيانته، بل وجعل الحفاظ عليه من الكليات الخمس التي جاء الإسلام بحفظها وصيانتها..

ومن أجل صيانته والحفاظ عليه فقد حرم الله على الإنسان أن يتناول كلما يذهب عقله، ومن ذلك الخمر وجميع أنواع المسكرات، كما جاء في الحديث عن عبد لله بن عمر-رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله  : (كل مسكر خمر، وكل مسكر حرام، ومن شرب الخمر في الدنيا فمات وهو يدمنها لم يتب، لم يشربها في الآخرة)1..

تعريف الخمر:

تأتي لفظة “خمر” في لغة العرب بثلاثة معان:

أولاً: الستر والتغطية، ومنه: اختمرت المرأة إذا غطت رأسها ووجهها بالخمار.

ثانياً: المخالطة، ومنه قول كثير عزة:

هنيئا مريئا غير داء مخامر..

أي مخالط.

ثالثاً: الإدراك، ومنه قولهم: خمرت العجين، وهو أن تتركه حتى يبلغ وقت إدراكه.

فمن هذه الثلاث المعاني أخذ اسم الخمرة؛ لأنها تُغطى العقل وتستره، ولأنها تخالط العقل، ولأنها تترك حتى تدرك وتستوي.

وشرعاً: الخمر اسم لكل ما خامر العقل وغطَاه من أي نوع من الأشربة2.

شرح الحديث:

قوله: (كل مسكر خمر) كل من أقوى ألفاظ العموم، فكل مسكر يسمى خمراً كما هو قول الجمهور، وهو ما تدل عليه الأدلة.

قوله: (وكل مسكر حرام) فكل ما أسكر فهو حرام قل أم كثر؛ لحديث جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله  : (ما أسكر كثيره فقليله حرام)3..

وسواء كانت مادة الخمر من العنب أم من غيره؛ قال النووي -رحمه الله- عند شرحه لهذه اللفظة من الحديث: “فيه تصريح بتحريم جميع الأنبذة المسكرة، وأن كلها تسمى خمرا، سواء في ذلك الفضيخ ونبيذ التمر والرطب والبسر والزبيب والشعير والذرة والعسل وغيرها، هذا مذهبنا، وبه قال مالك وأحمد، والجماهير من السلف والخلف”4..

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: “فتحريم ما يسكر من الأشربة والأطعمة كالحشيشة المسكرة ثابت بالنص، وكان هذا النص- أي الحديث الذي شرحناه- متناولاً لشرب الأنواع المسكرة من أي مادة كانت من الحبوب أو الثمار أو من لبن الخيل أو من غير ذلك، ومن ظن أن النص إنما يتناول خمر العنب قال إنه لم يبين حكم هذه المسكرات التي هي في الأرض أكثر من خمر العنب، بل كان ذلك ثابتا بالقياس وهؤلاء غلطوا في فهم النص، ومما يبين ذلك أنه قد ثبت بالأحاديث الكثيرة المستفيضة أن الخمر لما حرمت لم يكن بالمدينة من خمر العنب شيء، فإن المدينة لم يكن فيها شجر العنب، وإنما كان عندهم النخل فكان خمرهم من التمر، ولما حرمت الخمر أراقوا تلك الأشربة التي كانت من التمر، وعلموا أن ذلك الشراب هو خمر محرم، فعلم أن لفظ الخمر لم يكن عندهم مخصوصا بعصير العنب، وسواء كان ذلك في لغتهم فتناول، أو كانوا عرفوا التعميم ببيان الرسول   فإنه المبين عن الله مراده، فإن الشارع يتصرف في اللغة تصرف أهل العرف يستعمل اللفظ تارة فيما هو أعم من معناه في اللغة وتارة فيما هو أخص”5.

قوله: (ومن شرب الخمر في الدنيا فمات وهو يدمنها لم يتب) أي من أدمن على شرب الخمر في الدنيا ثم مات ولم يتب من ذلك فإن الجزء من جنس العمل فإن الله يحرمه من شربها في الجنة إن هو من أهل الجنة ودخلها؛ (لم يشربها في الآخرة) قال النووي-رحمه الله-: “معناه أنه يحرم شربها في الجنة وإن دخلها، فإنها من فاخر شراب الجنة، فيمنعها هذا العاصي بشربها في الدنيا قيل أنه ينسى شهوتها لأن الجنة فيها كل ما يشتهى وقيل لا يشتهيها وإن ذكرها ويكون هذا نقص نعيم في حقه تمييزا بينه وبين تارك شربها”6..

وقال القرطبي -رحمه الله-: “ظاهر الحديث تأبيد التحريم، فإن دخل الجنة شرب من جميع أشربتها إلا الخمر، ومع ذلك فلا يتألم لعدم شربها، ولا يحسد من يشربها، ويكون حاله كحال أصحاب المنازل في الخفض والرفعة، فكما لا يشتهي منزلة من هو أرفع منه لا يشتهيها أيضاً، وليس ذلك بعقوبة له”7.

بعض أضرار الخمر الدينية والبدنية والاجتماعية والصحية:

إن الله سبحانه إذا حرم شيئاً فإنما يحرمه لأنه مفسدة محضة، أو لأن مفسدته غالبة على مصلحته، ولذلك فقد حرم الله جميع أنواع المسكرات وفي المقدمة الخمر؛ لأن مفسدة الخمر غالبة على المصلحة، بل إن المصلحة التي فيها لا تقارن بمفاسده الجمة.

ومن حكمة الشارع الحكيم في تحريم الخمر أنه تدرج في ذلك؛ فعن عمر رضي الله عنه قال: لما نزل تحريم الخمر، قال عمر: اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا، فنزلت الآية التي في البقرة، فدعي عمر فقرئت عليه فقال عمر: اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا، فنزلت الآية التي في النساء: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ} سورة النساء(43) فكان منادي رسول الله   إذا أقام الصلاة نادى لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى فدعي عمر فقرئت عليه، فقال اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا، فنزلت الآية التي في المائدة فدعي عمر فقرئت عليه فلما بلغ: {فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ}سورة المائدة(90) (91)قال عمر -رضي الله عنه-: “انتهينا انتهينا”8..

الخمر سبب للغواية والضلال؛ فقد ثبت في الصحيحين عن النبي  في حادث الإسراء أنه قال: (وأتيت بإناءين، في أحدهما لبن، وفي الآخر خمر، فقيل لي: خذ أيهما شئت، فأخذت اللبن، فشربت، فقيل لي: هديت الفطرة، أو أصبت الفطرة، أما إنك لو أخذت الخمر، غوت أمتك)..

وشارب الخمر حينها يشربها لا يشربها وهو مؤمن؛ لحديث أبي هريرة –رضي الله عنه- إن رسول الله   قال: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن)9.

ولا يعني هذا أن نحكم على شارب الخمر أنه من أهل النار، أو أنه كافر، بل هو مؤمن ناقص الإيمان؛ مؤمن بإيمانه فاسق بفسقه ومعصيته، وهذا هي عقيدتنا في مرتكب الكبيرة؛ كما قال حافظ حكمي:

والفاسق الملي ذو العصيان لم ينف عنه مطلق الإيمان
لكن بقدر الفسق والمعاصي إيمانه ما زال في انتقاص
ولا نقول إنه في النار مخلد بل أمره للباري
تحت مشيئة الإله النافذة إن شا عفا عنه وإن شا آخذه10

وشارب الخمر مستحق للعقوبة الدنيوية، وعقوبته أن يجلد ثمانين جلدة، ويحد شاربها وإن لم يسكر سواء أشرب الكثير أم القليل بإجماع الصحابة -رضوان الله عليهم-.

وأما العقوبة الأخروية، فقد سبق في الحديث أنه إن مات ولم يتب منها فإن كان من أهل التوحيد فإنه إن دخل الجنة لا يشرب من خمر الجنة، ومن عقوبة الخمر أنها ملعونة وكل من كان سبباً في صناعته وإيصالها لمن يشربها؛ فعن ابن عمر قال: قال رسول الله  : (لعن الله الخمر، وشاربها، وساقيها، ومبتاعها، وبائعها، وعاصرها، ومعتصرها، وحاملها، والمحمولة إليه)11.

وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله  : (مدمن الخمر إن مات لقي الله كعابد وثن)12.

وعن جابر أن رجلا قدم من جيشان (وجيشان من اليمن) فسأل النبي  عن شراب يشربونه بأرضهم من الذرة يقال له المزر؟ فقال النبي  : (أو مسكر هو؟) قال: نعم، قال رسول الله : (كل مسكر حرام إن على الله -عز وجل- عهدا لمن يشرب المسكر أن يسقيه من طينة الخبال) قالوا: يا رسول الله وما طينة الخبال؟ قال: (عرق أهل النار أو عصارة أهل النار)13.

فهذه بعض مضار الخمر الدينية، وقد أشار العلامة ابن القيم -رحمه الله- بعض المضار الدينية والبدنية والاجتماعية، فقال: “ينفي عن خمر الجنة جميع آفات خمر الدنيا من الصداع والغول والانزاف وعدم اللذة، فهذه خمس آفات من آفات خمر الدنيا تغتال العقل، ويكثر اللغو على شربها، بل لا يطيب لشرابها ذلك إلا باللغو، وتنزف في نفسها، وتنزف المال، وتصدع الرأس، وهي كريهة المذاق، وهي رجس من عمل الشيطان توقع العداوة والبغضاء بين الناس، وتصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وتدعو إلى الزنا، وربما دعت إلى الوقوع على البنت والأخت وذوات المحارم، وتذهب الغيرة، وتورث الخزي والندامة والفضيحة، وتلحق شاربها بأنقص نوع الإنسان وهم المجانين، وتسلبه أحسن الأسماء والسمات، وتكسوه أقبح الأسماء والصفات، وتسهل قتل النفس وإفشاء السر الذي في إفشائه مضرته أو هلاكه، ومؤاخاة الشياطين في تبذير المال الذي جعله الله قياماً له، ولم يلزمه مؤنته، وتهتك الأستار، وتظهر الأسرار، وتدل على العورات، وتهون ارتكاب القبائح والمآثم، وتخرج من القلب تعظيم المحارم، ومدمنها كعابد وثن، وكم أهاجت من حرب، وأفقرت من غنى، وأذلت من عزيز، ووضعت من شريف، وسلبت من نعمة، وجلبت من نقمة، وفسخت من مودة، ونسجت من عداوة، وكم فرقت بين رجل وزوجته، فذهبت بقلبه، وراحت بلبه، وكم أورثت من حسرة، وأجرت من عبرة، وكم أغلقت في وجه شاربها بابا من الخير، وفتحت له بابا من الشر، وكم أوقعت في بلية، وعجلت من منيته، وكم أورثت من خزية، وجرت على شاربها من محبة، وجرت عليه من سفلة، فهي جماع الإثم، ومفتاح الشر، وسلابة النعم، وجالبة النقم، ولو لم يكن من رذائلها إلا أنها لا تجتمع هي وخمر الجنة في جوف عبد؛ كما ثبت عنه أنه قال: (من شرب الخمر في الدنيا لم يشربها في الآخرة) لكفى، وآفات الخمر أضعاف أضعاف ما ذكرنا”14..

وقد ذكر الأطباء بعض مضار الخمر، ومن هذه المضار ما يلي:

أولاً: تخدر المراكز العصبية العليا، فيصاب شاربها بجنون وقتي، فيلحق الأذى بالناس أو بنفسه.

ثانياً: تنبه القلب تنبيهاً شديداً يعقبه ضعف وهبوط.

ثالثاً: تضعف مناعة الإنسان ضد العدوى بالأمراض، وهي تخدر الكرات الدموية البيضاء التي تعتبر حارسة الجسم من كل عدو خارجي يفكر في الاعتداء على صحة الإنسان.

رابعاً: مدمن الخمر معرض للإصابة بالسل أكثر من غيره، وإذا أصيب بالتهابات رئوي كان الأمل في نجاته منه ضعيفاً جداً..

خامساً: نسبة نجاح العمليات الجراحية في مدمني الخمر قليلة، ولذا لا تؤمن شركات التأمين على حياة السكيرين.

سادساً: أجري فحص دقيق في عدة مستشفيات للأمراض العقلية في أنحاء مختلفة من العالم، وقد أسفر هذا الفحص عن أن ما يقرب من (50%) من نزلاء تلك المستشفيات هم سلالة آباء اعتادوا شرب الخمر.

سابعاً: الخمر تتلف الكبد والكلى، وتسبب الضعف العقلي والجثماني والعصبي.

ثامناً: المصابون بضعف الدم والبول السكري وأمراض القلب لو شربوا الخمر كانوا بمثابة المنتحرين.

تاسعاً: إن الخمر لا تساعد على الهضم كما يشيع الواهمون هذا النفع عنها، بل هي على النقيض تعرقل عملية الهضم15.

وغير ذلك من المضار الصحية للخمر وجميع أنواع المسكرات.

ما يلحق بالخمر في حكمها وضررها:

يلحق بالخمر الحشيشة وغيرها من المسكرات، قال ابن تيمية-رحمه الله- : “والحشيشة المصنوعة من ورق العنب حرام أيضاً يجلد صاحبها كما يجلد شارب الخمر، وهى أخبث من الخمر من جهة أنها تفسد العقل والمزاج حتى يصير في الرجل تخنث ودياثة، وغير ذلك من الفساد، والخمر أخبث من جهة أنها تفضي إلى المخاصمة والمقاتلة، وكلاهما يصد عن ذكر الله تعالى وعن الصلاة”16.

بعض الفوائد المستفادة من الحديث:

1. في هذا الحديث دليل على أن التوبة تكفر المعاصي الكبائر وهو مجمع عليه.

2. أن كل مسكر حرام، وأنه لا فرق بين القليل والكثير في الحرمة.

3. أن شرب الخمر كبيرة من كبائر الذنوب، وذلك أن الله لعن شاربها، ونفى عنه الإيمان، وتوعده بالمنع من شربها في الجنة إن هو دخل الجنة. فالواجب على المبتلي بشرب مثل هذه المسكرات المبادرة إلى التوبة والطاعة.

جعلنا الله وجميع المسلمين من الطائعين، وجنبنا أفعال الفاسقين، إنه جواد كريم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.


1 رواه البخاري ومسلم واللفظ له.

2 تيسير العلام شرح عمدة الأحكام، للشيخ عبد الله البسام.

3 رواه أبو داود والترمذي وأحمد، وقال الألباني: “صحيح”؛ كما في صحيح الجامع، رقم(5530).

4 المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج(13/148).

5 مجموع الفتاوى(19/ 282- 283).

6 المنهاج شرح مسلم بن الحجاج(13/173).

7 عمدة القاري(12/164).

8 رواه الترمذي والنسائي، وأحمد.

9 رواه البخاري ومسلم.

10 معارج القبول(1/41).

11 روى أبو داود وابن ماجه والترمذي، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب، رقم(2356).

12رواه أحمد، وابن حبان في صحيحه، وقال الألباني: “صحيح لغيره” كما في صحيح الترغيب والترهيب، رقم(2364).

13 رواه مسلم.

14 حادي الأرواح (122). دار الكتب العلمية – بيروت

15  إصلاح المجتمع (352- 353). للبيحاني.

16 مجموع الفتاوى(28/339).