وأنذرهم يوم الآزفة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أجمعين أما بعد:
فإن الآزفة من أسماء يوم القيامة، ومعناه اقتراب الوعد والحساب، يقال أزف الأمر أي اقترب، وقد قال الله تعالى في كتابه العظيم: {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ} (18) سورة غافر، وقال تعالى: {أَزِفَتْ الْآزِفَةُ * لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ} (57-58) سورة النجم. أي اقتربت القريبة وهي يوم القيامة.
سمع بكر بن معاذ قارئاً يقرأ {وأنذرهم يوم الآزفة} الآية، فاضطرب ثم صاح: ارحم من أنذرته ولم يقبل إليك بعد الإنذار بطاعتك، ثم غشي عليه.1
وعن هشام الدستوائي، قال: لما توفي عمرو بن عتبة بن فرقد، دخل بعض أصحابه على أخته، فقال: أخبرينا عنه، فقالت: قام ذات ليلة فاستفتح سورة (حم) فلما أتى على هذه الآية: {وأنذرهم يوم الآزفةإذ القلوب لدى الحناجر كاظمين}، فما جاوزها حتى أصبح.2
وعن الحسن بن حسان، قال: كنا يوماً عند صالح المري وهو يتكلم ويعظ، فقال لرجل حدث بين يديه: اقرأ يا بني، فقرأ الرجل: {وأنذرهم يوم الآزفة إذ القلوب لدى الحناجر كاظمين ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع} فقطع عليه صالح القراءة، فقال: وكيف يكون للظالمين حميم أو شفيع والطالب له رب العالمين؟ إنك والله لو رأيت الظالمين وأهل المعاصي يساقون في السلاسل والأغلال إلى الجحيم! حفاة عراة مسودة وجوههم، مزرقة عيونهم ذائبة أجسامهم، ينادون: يا ويلاه يا ثبوراه!! ماذا نزل بنا، ماذا حل بنا، أين يذهب بنا ماذا يراد منا؟ والملائكة تسوقهم. بمقامع النيران، فمرة يجرون على وجوههم ويسحبون عليها متكئين، ومرة يقادون إليها عنتا مقرنين، من بين باك دماً بعد انقطاع الدموع، ومن بين صارخ طائر القلب مبهوت،
إنك والله لو رأيتهم على ذلك لرأيت منظراً لا يقوم له بصرك، ولا يثبت له قلبك، ولا يستقر لفظاعة هوله على قرار قدمك. ثم نحب وصاح يا سوء منظراه ويا سوء منقلباه! وبكى، وبكى الناس. فقام شاب به تأنيث3 فقال: أكل هذا في القيامة يا أبا بشر؟ قال: نعم! والله يا ابن أخي وما هو أكبر من ذلك! لقد بلغني أنهم يصرخون في النار حتى تنقطع أصواتهم فلا يبقى منها إلا كهيئة الأنين من المدنف، فصاح الفتى أنا لله واغفلتاه عن نفسي أيام الحياة؟ ويا أسفي على تفريطي في طاعتك يا سيداه! وأسفاه على تضييع عمري في دار الدنيا! ثم بكى واستقبل القبلة ثم قال: اللهم إني استقبلك في يومي هذا بتوبة لك لا يخالطها رياء لغيرك،
اللهم فاقبلني على ما كان مني، واعف عما تقدم من عملي، وأقلني عثرتي، وارحمني ومن حضرتي، وتفضل علينا بجودك أجمعين يا أرحم الراحمين، لك ألقيت معاقد الآثام من عنقي، وإليك أنبت بجميع جوارحي صادقاً بذلك قلبي، فالويل لي إن أنت لم تقبلني، ثم غلب فسقط مغشياً عليه، فحمل من بين القوم صريعاً يبكون عليه ويدعون له. وكان صالح كثيراً ما يذكره في مجلسه يدعو الله له ويقول: بأبي قتيل القرآن، بأبي قتيل المواعظ والأحزان.. فرآه رجل في منامه فقال: ما صنعت؟ قال: عمتني بركة مجلس صالح فدخلت في سعة رحمة الله التي وسعت كل شيء..4
وعن ابن مسعود أنه ذكر: أنه ينادي أهل الجنة وأهل النار هو الخلود أبد الآبدين، قال: فيفرح أهل الجنة فرحة لو كان أحد ميتاً من فرحة لماتوا، ويشهق أهل النار شهقة لو كان أحد ميتاً من شهقة عمر لماتوا، فذلك قوله: {وأنذرهم يوم الآزفة إذ القلوب لذي الحناجر كاظمين} وقوله تعالى: {وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر}.5
وعن الحسن البصري رحمه الله في قوله تعالى: {وأنذرهم يوم الآزفة إذ القلوب لدى الحناجر كاظمين} قال: أزفت والله عقولهم، وطارت قلوبهم، فترددت في أجوافهم بالغصص إلى حناجرهم، لما أمر بهم ملك يسوقهم إلى النار، فيقول بعضهم لبعض: {فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا}؟ فينادون: {ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع}.6
فهذه حال السلف الصالح -رضي الله عنهم- عندما يسمعون آيات الوعيد، إن أحدهم كان يعلم أن الموت أقرب إليه من شراك نعله، فتفانوا في الأعمال الصالحة المقربة من الله .
نعم إن مما يدل على أن الساعة آتية قريبة لا محالة ولا شك في ذلك أن من مات فقد قامت قيامته، فلا ينبغي للمؤمن أن يستبعد مجيء يوم القيامة، بل عليه أن يستقرب مجيء أجله الذي هو قيامته ونهايته من هذه الحياة الدنيا.
نسأل الله بمنه وكرمه أن يرحمنا أحياءً وأمواتاً، وأن يستعملنا في طاعته.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
1 إحياء علوم الدين، للغزالي (ج 2 / ص 134).
2 حلية الأولياء، لأبي نعيم الأصفهاني (ج 2 / ص 148).
3 أي يتشبه بالنساء فكأنه أنثى في حركاته، كحال بعض شباب اليوم المتشبهين بالنساء.
4 حلية الأولياء (ج 3 / ص 34) لأبي نعيم الأصفهاني، وأيضاً في كتاب التوابين، لابن قدامة (ج 1 / ص 69).
5 التخويف من النار، لابن رجب الحنبلي (ج 1 / ص 153).
6 صفة النار، (جزء 1- صفحة 131).