يا ليت قومي يعلمون؟
الحمد لله وحده، وأصلي وأسلم على من لا نبي بعده، أما بعد:
فإن الدفاع عن العقيدة الصحيحة والمنهج الحق؛ مطلب كل داعية مؤمن بالله ورسُله، والدعوة إلى الحق والهدى بعد معرفته وتبيّنه صفة المسلم الصادق، يفعل ذلك ويؤديه حسب قدرته، باذلاً في ذلك كل وقته، ومستمراً عليه حتى لو أدى به ذلك إلى القتل وإزهاق الروح؛ لأنه يعلم أنه لن يموت إلا بإذن الله كتاباً مؤجلاً.
وتلك هي صفة مؤمن آل ياسين الذي تحدث الله عنه وعن قومه ضمن آيات من سورة يس، يقول فيها سبحانه: {وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلاً أَصْحَابَ القَرْيَةِ إذْ جَاءهَا المُرْسَلُونَ * إذْ أَرْسَلْنَا إلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إنَّا إلَيْكُم مُّرْسَلُونَ * قَالُوا مَا أَنتُمْ إلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَمَا أَنزَلَ الرَّحْمَنُ مِن شَيْءٍ إنْ أَنتُمْ إلاَّ تَكْذِبُونَ * قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إنَّا إلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ * وَمَا عَلَيْنَا إلاَّ البَلاغُ المُبِينُ * قَالُوا إنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِن لَّمْ تَنتهوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ * قَالُوا طَائِرُكُم مَّعَكُمْ أَئِن ذُكِّرْتُم بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ * وَجَاء مِنْ أَقْصَا المَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا المُرْسَلِينَ * اتَّبِعُوا مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُم مُّهْتَدُونَ * وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَذِي فَطَرَنِي وَإلَيْهِ تُرْجَعُونَ * أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً إن يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنقِذُونِ * إنِّي إذاً لَّفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ * إنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ * قِيلَ ادْخُلِ الجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ المُكْرَمِينَ * وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِن جُندٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ * إن كَانَتْ إلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإذَا هُمْ خَامِدُونَ}1.
أخبر – سبحانه – في هذه الآيات أنه أرسل إلى أهل مدينة اثنين من الرسل يدعوانهم إلى عبادة الله – تعالى – وحده، وترك عبادة الأصنام التي لا تضر ولا تنفع، فبادروهما بالتكذيب، فعززهما الله وقوّاهما برسول ثالث، فقالوا لأهل تلك القرية: إنا إليكم مرسلون من ربكم الذي خلقكم، يأمركم بعبادته وحده لا شريك له، فقالوا: ما أنتم إلا بشر مثلنا، وكيف أوحي إليكم وأنتم بشر، ونحن بشر، فلِمَ لا يوحى إلينا مثلكم؟ ولو كنتم رسلاً لكنتم ملائكة.
وهذه شبهة كثير من الأمم المكذبة، كما قال – سبحانه -: {ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا}2، وقوله:{وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ}3، وعندما قال أولئك المكذبون ما قالوا من التكذيب؛ قالت لهم رسلهم: إنا رسل الله إليكم، ولو كنا كذبة عليه لانتقم منا أشد الانتقام، ولكنه سيعزنا وينصرنا عليكم، وستعلمون لمن تكون عاقبة الدار كما قال جل شأنه: {قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}4، وتمادى أهل القرية في طغيانهم، وراحوا يتطيرون بهؤلاء المرسلين، ويقولون كما قال قتادة: "إن أصابنا شر فإنما هو من أجلكم، وإنكم إذا لم تنتهوا فسوف نرجمكم بالحجارة، وسيصيبكم منا عقوبة شديدة، فقالت لهم رسلهم: "إن طائركم معكم مردود عليكم، وأنتم ما قابلتمونا بهذا الكلام، وتوعدتمونا وتهددتمونا؛ إلا من أجل أنّا ذكرناكم وأمرناكم بتوحيد الله، وإخلاص العبادة له، بل أنتم قوم مسرفون لتطيركم وكفركم وفسادكم".
ولأن تلك الساحة لم تخل ممن عمرَ الإيمانُ قلوبهم، وتعمقت الدعوة في أفئدتهم، وأقضّ المنكر كل ذرة في أبدانهم؛ لأجل ذلك قيَّض الله لهؤلاء الرسل من يدافع عنهم؛ فجاءهم رجل من أقصى المدينة يسعى لينصرهم من قومه، قيل إن اسمه "حبيب النجار"، وكان رجلاً سقيماً قد أسرع فيه الجذام، وكان كثير الصدقة، يتصدق بنصف كسبه، مستقيم الفطرة، وقيل: كان منزله عند أقصى باب من أبواب المدينة، وكان يعكف على عبادة الأصنام سبعين سنة يدعوهم لعلهم يرحمونه، ويكشفون ضره؛ فلما أبصر الرسل دعوه إلى عبادة الله، قال: هل من آية؟ قالوا: نعم ربنا على ما يشاء قدير؛ وهذه لا تنفع شيئاً ولا تضر، فآمن، ودعوا ربهم فكشف الله ما به، فكان كأن لم يكن به بأس، فحينئذ أقبل على التكسب، فإذا أمسى تصدق بكسبه، فأطعم عياله نصفاً، وتصدق بنصف، فلما همّ قومه بقتل الرسل جاءهم فوعظهم وأبلغ في الموعظة، وذكّرهم بحق الله من العبادة والتعظيم فقتلوه، فما خرجت روحه إلا إلى الجنة، فدخلها، فذلك قوله: {قِيلَ ادْخُلِ الجَنَّةَ}، فلما شاهدها قال: {يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ المُكْرَمِينَ}5 قال الإمام القرطبي: "والظاهر من الآية أنه لما قُتل قيل له: ادخل الجنة"، وقال قتادة: أدخله الله الجنة وهو فيها حي يرزق، أراد قوله – تعالى -: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ ُيرْزَقُونَ}6.
وعند تأمل هذه الحادثة المؤثرة نستنبط منها الدروس والعبر، ومن ذلك:
1- الحث على سرعة الاستجابة للحق متى ما ظهرت علامته، واتضحت دواعيه، ثم الدعوة إليه دون بطء أو تكاسل؛ فإن هذا المؤمن الشهيد حينما استشعر حقيقة الإيمان؛ تحركت هذه الحقيقة في ضميره فلم يطق عليها سكوتاً، ولم يقبع في داره بعقيدته وهو يرى الضلال من حوله، والجحود، والفجور، ولكنه سعى بالحق الذي استقر في ضميره، وتحرك في شعوره، سعى به إلى قومه وهم يكذبون، ويتوعدون، ويهددون، وجاء من أقصى المدينة يسعى ليقوم بواجبه في دعوة قومه إلى الحق، وفي كفهم عن البغي، وفي مقاومة اعتدائهم الأثيم الذي يوشكون أن يصبوه على المرسلين.
ونجد في الآيات الكريمة وصفاً لهذا المؤمن الشهيد بالسعي، وهذا كما يقول صاحب تفسير التحرير والتنوير: "يفيد أنه جاء مسرعاً، وأنه بلغه هَمّ أهل القرية برجم الرسل أو تعذيبهم، فأراد أن ينصحهم خشيةً عليهم وعلى الرسل، وهذا الثناء على هذا الرجل يفيد أنه ممن يُقتدى به في الإسراع إلى تغيير المنكر".
2- أن من أسباب قبول دعوة الداعين إلى الحق عدم طلبهم أجراً دنيوياً، أو كسباً مادياً: ولذا قال هذا المؤمن لقومه: {اتَّبِعُوا مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُم مُّهْتَدُونَ}، وقد قُدم عدم سؤال الأجر على الاهتداء؛ لأن القوم كانوا في شك من صدق المرسلين، وكان من دواعي تكذيبهم اتهامهم بأنهم يجرّون لأنفسهم نفعاً من ذلك؛ لأن القوم لما غلب عليهم التعلق بحب المال، وصاروا بُعداء عن إدراك المقاصد السامية؛ كانوا يعدّون كل سعي يلوح على امرئ إنما يسعى به إلى نفعه، فقُدِّم ما يزيل عنهم هذه الاسترابة، والأجر يصدق بكل نفع دنيوي يحصل لأحد من عمله، فيشمل المال والجاه والرئاسة، فلما نفى عنهم أن يسألوا أجرا، فقد نفى عنهم أن يكونوا يرمون من دعوتهم إلى نفع دنيوي يحصل لهم.
3- ومن الدروس والعبر: الحث على استخدام أسلوب الإقناع في الجانب الدعوي: فقد كان من ضمن نصح حبيب لقومه أنه قال لهم: {وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَذِي فَطَرَنِي} حيث أخرج الحجة عليهم في معرض المخاطبة لنفسه تأليفاً لهم، ونبه على أن عبادة العبد لمن فطره أمر واجب في العقول، مستهجن تركها، قبيح الإخلال بها، فإن خلقه لعبده أصل إنعامه عليه، ونعمه كلها تابعة لإيجاده وخلقه.
ونجد في مخاطبة هذا المؤمن لقومه أنه احتج عليهم بما تُقرُّ به عقولهم وفطرهم من قبح عبادة غيره، وأنها أقبح شيء في العقل وأنكره، فقال: {أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً إن يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنقِذُونِ * إنِّي إذاً لَّفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ}7، فانظر كيف لم يحتجّ عليهم بمجرد الأمر، بل احتج عليهم بالعقل الصحيح، ومقتضى الفطرة.
4- الاستمرار في الدعوة إلى الهدى والحق مهما وقف في سبيل منعها الطغاة والمفسدون ما دام الداعية يعلم أنه لا يدعو إلا إلى الخير والهدى، وما دام يعلم أن في استمرار الدعوة صلاح الناس واستقامتهم، وأن في تركها فسادهم وغفلتهم، فيستمر في ذلك ولو عُذب وأهين، بل حتى لو أزهقت نفسه وقتل، كما هو حال مؤمن آل ياسين، وذلك سبيل الأنبياء والمرسلين، ومن نهج نهجهم من العلماء الربانيين، والدعاة الصادقين إلى يوم الدين.
5- الحث على تطهير القلب من الحقد والحسد وكل أمر قبيح، أرأيت قول هذا المؤمن لما قتله قومه، وأدخل الجنة: {يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ المُكْرَمِينَ}8، قال الأستاذ محمد الطاهر بن عاشور: "والمعنى: أنه لم يلهه دخوله الجنة عن حال قومه، فتمنى أن يعلموا ماذا لقي من ربه؛ ليعلموا فضيلة الإيمان، فيؤمنوا، وما تمنى هلاكهم ولا الشماتة بهم، فكان متسماً بكظم الغيظ، وبالحلم على أهل الجهل؛ وذلك لأن عالم الحقائق لا تتوجه فيه النفس إلا إلى الصلاح المحض، ولا قيمة للحظوظ الدنية، وسفاسف الأمور"، وقال الإمام القرطبي: "وفي هذه الآية تنبيه عظيم، ودلالة على وجوب كظم الغيظ، والحلم على أهل الجهل، والترؤف على من أدخل نفسه في غمار الأشرار وأهل البغي، والتشمر في تخليصه، والتلطف في افتدائه، والاشتغال بذلك عن الشماتة به، والدعاء عليه، ألا ترى كيف تمنى الخير لقتَلَته، والباغين له الغوائلَ، وهم كَفَرة عَبَدة أصنام".
6- بيان عاقبة كل معاند ومفسد، وكل واقف في وجه الدعوات الربانية الهادية: فإنه لما قُتل حبيب غضب الله له، وعجل النقمة على قومه، فأمر جبريل فصاح بهم صيحة فماتوا عن آخرهم قال – سبحانه -: {وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِن جُندٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ * إن كَانَتْ إلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإذَا هُمْ خَامِدُونَ}9، وهذه عاقبة كل محارب لله ولرسوله وللمؤمنين أن يأخذه الله كما أخذ السابقين، كما حكى – جل وعلا – عن أهل الكتاب أنه ضرب الذلة عليهم، وغضب عليهم، وعلل ذلك بأنهم كانوا يكفرون بكل دعوة صالحة تأتيهم، ويقتلون الأنبياء بغير حق:{ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ}10.
ولما عاند قوم نوح نوحاً وعصوه وتمردوا عليه قال – سبحانه – في شأنهم: {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ لظَّالِمِينَ}11.
وفي الختام: فإن قصة قتل مؤمن آل ياسين ينبغي أن يعتبر بها الناس جميعاً، ويوقنوا أن في اتباع المصلحين الفلاح والنجاة، وأن في مخالفتهم الهلاك والبوار والعَطَب.
اللّهم ارزقنا الاهتداء بهدي المرسلين، وأعذنا من صفات الكافرين والمكذبين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.