من تصح إمامته ومن لا تصح

من تصح إمامته ومن لا تصح

الحمد لله، وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:

فإن الإمامة من الوظائف الدينية، بل هي من أشرف الوظائف الدينية؛ لان إمام الصلاة يقيم للناس صلاتهم التي هي من أحسن ما يعمل الناس، ومعلم يرشد الناس إلى ما ينفعهم في دينهم ودنياهم، ومفتٍ يوضح للناس أحكام الشريعة بحسب ما عنده من العلم، إلى غير ذلك من وظائف الإمامة.

ووظيفة الإمام تتطلب صبراً على أذى الناس، وكلامهم، وحبساً للنفس عن قضاء بعض الحوائج، وتتطلب حكمة في التعامل مع جماعة المسجد، ولعظم هذه الوظيفة فقد بينت الشريعة أحكامها، وفصلت مهامها، وأوضحتها أيما إيضاح، فأوجبتها على قوم، وحرمتها على آخرين، واستحبتها لقوم، وسنتكلم في هذا المبحث عن من تصح إمامته ممن لا تصح مستمدين من الله العون والتوفيق.

 أ- إمامة الصبي: الصبي هو من بلغ سبع سنين إلى سن البلوغ، فإن كان الصبي يعقل الصلاة، ويحسن القراءة؛ جازت إمامته. والدليل على صحة إمامته قوله: يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله 1. وعن ابن عمرو بن سلمة  قال: كان يمر علينا الركبان، فنتعلم منهم القرآن، فأتى أبي النبي  فقال: ليؤمكم أكثركم قرآناً فجاء أبي فقال: إن رسول الله  قال: ليؤمكم أكثركم قرآنا فنظروا فكنت أكثرهم قرآناً، فكنت أؤمهم وأنا ابن ثمان سنين2.

ب- إمامة المرأة: تصح إمامة المرأة للنساء، ولا يجوز لها أن تؤم الرجال، ولو كانوا من محارمها، ويشترك في ذلك الفرض والنفل لما روى أبو داود… عن أم ورقة بنت عبد الله بن الحارث قالت: وكان رسول الله  يزورها في بيتها، وجعل لها مؤذناً يؤذن لها، وأمرها أن تؤم أهل دارها3، والمراد بأهل دارها النساء منهن، وكانت عائشة وأم سلمة – رضي الله عنهن – يفعلن ذلك، وإن صلت امرأة بنساء جماعة وقفت في وسطهن، وإن كانت المأمومة واحدة وقفت عن يمين من تؤمها.4

ت- إمامة  العبد والمولى: تصح إمامة العبد والمولى، قال: صاحب ” المغني” وذلك أن الرق حقٌ ثبت عليه، فلم يمنع صحة إمامته؛ كالدين؛ ولأنه من أهل الأذان للرجال يأتي الصلاة على الكمال، فكان له أن يؤمهم كالحر”5، ومما يدل على صحة إمامته قوله : يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله فعم ولم يخصص، وجاء من حديث هشام بن عروة عن أبيه، أن ذكوان أبا عمرو  – وكان عبداً لعائشة، زوج النبي  فأعتقته عن دبر منها – كان يقوم يقرأ لها في رمضان6، وأخرج عبد الرزاق في مصنفه قال:”وصلى ابن مسعود، وحذيفة، وأبو ذر وراء أبي سعيد مولى أبي أسيد وهو عبدٌ”7.

ث- إمامة الأعمى والأصم والأخرس: أما الأعمى: فتصح إمامته؛ لفعل النبي  واستخلافه ابن أم مكتوم على أهل المدينة، فعن أنس  : أن النبي  استخلف ابن أم مكتوم يؤم الناس وهو أعمى8.

وأما إمامة الأصم: فقد ذهب بعض أهل العلم إلى صحة إمامة الأصم وقالوا: هو كالأعمى فصممه لا يخل بشيء من أفعال الصلاة، ولم يصحح بعض أهل العلم صحة إمامته وقالوا: إن الصمم يمنع من إصلاح الصلاة إذا سها فيها فإنه لا يمكن تنبيهه بتسبيح، ولا إشارة9. وقد أفتت اللجنة الدائمة في سؤال: عن إمامة فاقد السمع والبصر معاً؛ هل تجوز صلاته وراء إمام لكونه لا يسمع ولا يبصر؟ فأجابت: “يصلي جماعة مأموماً في الصف، ويضبط أعمال صلاته من ركوع وسجود ونحوها بحركات من بجانبه في الصف، وعلى ولي أمره ومن حوله أن ينبهوه للصلاة، وتصح إمامته، والأولى ألا يؤم؛ لئلا يسهو فيشق تنبيهه”10

وأما إمامة الأخرس: فإنها لا تصح؛ لعدم قدرة الأخرس على الإتيان بركن القراءة، فلا تصح إمامته.

ج- إمامة ولد الزنا: تصح إمامة ولد الزنا إذا سلم دينه، وكثير من أهل العلم يصححون إمامته، وكره مالكٌ أن يُتخذ إماماً راتباً، والعلة عنده أنه يكون معرضاً لكلام الناس، والطعن فيه، فيتأثمون بسببه، والأدلة الشرعية وآثار السلف تؤيد من صحح إمامة ولد البغي، منها قول النبي : يؤمكم  أقرؤكم لكتاب الله وقول: عائشة -رضي الله عنها – “ليس عليه من وزر أبويه شيء، وقد قال الله – تعالى -: ولا تزر وازرة وزر أخرى11.

ح- إمامة القاعد: أولاً: ينبغي للإمام إن عرض له مرض يعجزه عن القيام أن يستخلف من يصلي بهم ممن خلفه قيام؛ حتى يخرج من الخلاف في صحة إمامة القاعد من عدمها؛ ولأن الصلاة من القائم أكمل، وخلاف أهل العلم في هذه المسألة مبني على الأحاديث الصحيحة الواردة في هذا الباب والتي ظاهرها التعارض، وبمشيئة الله سنسوق لك هذه الأحاديث ثم نبين طريق الجمع بينها.

أولها: حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة  أم المؤمنين – رضي الله عنها – قالت: صلى رسول الله  في بيته وهو شاكٍ، فصلى جالساً، وصلى وراءه قومٌ قياماً، فأشار إليهم أن اجلسوا، فلما انصرف قال: إنما جُعل الإمام ليؤتم به، فإذا ركع فاركعوا،وإذا رفع فارفعوا، وإذا صلى جالساً فصلوا جلوساً12. وثانيها: حديث عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن عائشة – رضي الله عنها – في ذكرها خروج النبي  في مرض موته إلى الناس وهم يصلون خلف أبي بكر  قالت:” …  ثم إن النبي  وجد من نفسه خفةً فخرج بين رجلين – أحدهما: العباس – لصلاة الظهر، وأبو بكر يصلي بالناس، فلما رآه أبو بكر ذهب ليتأخر؛ فأومأ إليه النبي  أن لا يتأخر، قال: أجلساني إلى جنبه، فأجلساه إلى جنب أبي بكر، قال: فجعل أبو بكر يصلي وهو يأتم بصلاة النبي ﷺ، والناس بصلاة أبي بكر، والنبي  قاعد”13.

والقارئ للحديثين يرى أن حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة – رضي الله عنها – فيه صلاة النبي  قاعداً، وأمره لمن خلفه بالجلوس فعلاً وقولاً؛ فعلاً لما أشار إليهم بيده أن اجلسوا، وقولاً: وإذا صلى جالساً فصلوا جلوساً.

وحديث عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن عائشة – رضي الله عنها – أن رسول الله  صلى بأصحابه في مرض موته وهو قاعد، وأبو بكر والصحابة خلفه قياماً.

فذهب بعض أهل العلم إلى الأخذ بصلاته بالناس في مرض موته، وجواز صلاة من خلفه قياماً، لأنه ناسخٌ؛ لأنه المتأخر، وذهب آخرون إلى الجمع بين الأحاديث التي ظاهرها التعارض، وقالوا: إعمال الحديثين أولى من إهمال أحدهما كما هو مقرر في الأصول لاسيما والجمع هنا ممكن؛ بأن يقال: إذا ابتدأ الإمام الصلاة بالجلوس وجب على من خلفه أن يصلي جالساً، وعليه ينزل قوله : وإذا صلى جالساً فصلوا جلوساً، وإذا ابتدأ الإمام الصلاة قائماً ثم عرض له أمر أجلسه أتم المأمون صلاتهم من قيام كما هو الحال لما ابتدأ أبو بكر الصلاة من قيام، ثم أمهم النبي  الصلاة وهو جالس، وبهذا يحصل الجمع، وتعمل الأحاديث كلها ولا يهمل بعضه14.والله أعلم.

اللهم إنا نسألك إيمانا لا يرتد، ونعيما لا ينفذ، وقرة عين لا تنقطع، وارزقنا لذة النظر إلى وجهك الكريم.

والحمد لله رب العالمين.


1 رواه مسلم برقم (637)

2 .رواه النسائي برقم (761) وقال: الألباني في صحيح النسائي : صحيح . وعند البخاري برقم (692) من حديث ابن عمر ما يشير إلى أن عمرو بن سلمة كان يؤمهم بالصلاة آن ذ اك.

3 .رواه أبو داود برقم (592) وقال الألباني في صحيح أبي داود : حسن . برقم (553)

4 انظر: فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (7/390)

5 المغني : (3/27)

6 موطأ مالك برقم (107) ط .دار الكتاب العربي .

7 باب: إمامة العبد (2/394)

8 رواه أبو داود برقم (595) وقال الألباني في كتابه صحيح أبي داود  : حسن صحيح برقم (555)

9 انظر: المغني (3/29)

10 فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (7/386)

11 انظر: المغني (3/72)، و فتح الباري (2/216-217)

12 رواه البخاري برقم (688)

13 رواه البخاري برقم (687)

14 انظر : المغني (3/ 60-64)، وفتح الباري (2/203-212) ، والشرح الممتع لابن عثيمين (4/229-238)