الاجازة من عمرك

الإجازة من عمرك

 

الإجازة من عمرك

 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله, وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه. أما بعد:

كلُّ مفقودٍ عسى أن تسترجعه إلا الوقت.. فهو إن ضاعَ لم يتعلّق بعودته أمل، ولذلك كان الوقت أنفسَ ما يملكه إنسانٌ، وكان على العاقل أن يستقبلَ أيامّه استقبالَ الضنين بالثروة الرائعة، لا يفرّطُ في قليلها ناهيك عن كثيرِها، ويجتهد أن يضعَ كلَّ شيء- مهما ضَؤل- بموضعه اللائق به.

وما ماضي الشباب بمسترد  *** ولا يوم يَمرُ بمستعاد

وقال آخر:

والوقت أنفس ما عنيت بحفظه  *** وأراه أسهل ما عليك يضيع

فالمسلم الحق يغالي بالوقت مغالاة شديدة؛لأنّ الوقت عمره، فإذا سمح بضياعه، وترك العوادي تنهبه، فهو ينتحرُ بهذا المسلك الطائش.

إن الإنسانَ ليسيرُ حثيثاً إلى الله، وكلُّ دورة للفلك تتمخّضُ عن صباح جديد ليست إلا مرحلةً من مراحل الطريق الذي لا توقّف فيه أبداً، أفليسَ من العقل أنْ يدركَ المرءُ هذه الحقيقة، وأن يجعلها نُصبَ عينيه، وهو يستبينُ ما وراءه وما أمامه،ومِنَ الخداع أن يحسب المرء نفسه واقفاً والزمن يسير! إنه خداعُ النظر حين يخيل لراكب القطارِ أنَّ الأشياءَ تجري وهو جالسٌ. والواقع أنَّ الزمنَ يسيرُ بالإنسان نفسه إلى مصيره العتيدِ(1).

 

أخي الشاب: إن أيام الشباب هي زهرة العمر، فيها يحصد الشاب أكثر أعماله إما خيراً أو شراً، فالشباب يتمتع بحيوية كبيرة، وقوة عالية، فالذي يعمل الخير يعمل بنشاط وقوة، فالصلاة، والصوم والحج، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والعلم والتعلم، وغيرها من أعمال الخير، يؤديها بكل نشاط وقوة، فأيام الإجازة هي من عمرك، فإذا قضيتها في الخير والصلاح،والتعلم والتعليم،و في المراكز الصيفية، والمخيمات والرحلات المفيدة فإنه يحصل لك الخير الكثير، ففي الحديث الصحيح عن النبي-صلى الله عليه وسلم-:"المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير"(2) والمؤمن أقوى ما يكون وهو شباب، واسمع أخي إلى الشيخ العلامة ابن باز وقد أوصى الشباب بوصايا عظيمة لاستغلال أوقاتهم في الإجازة الصيفية، فقال:"فإنه يسرني أن أوصي الشباب خاصة والمسلمين عامة بتقوى الله-عز وجل-أينما كانوا باستغلال هذه الإجازة فيما يرضي الله عنهم ويعينهم على أسباب السعادة والنجاة، ومن ذلك شغل هذه الإجازة بمراجعة الدروس الماضية والمذاكرة فيها مع الزملاء لتثبيتها والاستفادة منها في العقيدة, والأخلاق, والعمل، كما أوصي جميع الشباب بشغل هذه الإجازة بالاستكثار من قراءة القرآن الكريم بالتدبر والتعقل وحفظ ما تيسر منه؛ لأن هذا الكتاب العظيم هو أصل السعادة لجميع المسلمين، وهو ينبوع الخير ومنبع الهدى، أنزله الله-سبحانه-تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين، وجعله سبحانه هادياً للتي هي أقوم ورغب عباده في تلاوته وتدبر معانيه كما قال سبحانه :أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَ وقال تعالى: كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِوقال عز وجل : إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ

فنصيحتي للشباب ولجميع المسلمين أن يكثروا من تلاوته وتدبر معانيه وأن يتدارسوه بينهم للعلم والاستفادة وأن يعملوا به أينما كانوا ، كما أوصيهم بالعناية بسنة رسول الله-صلى الله عليه وسلم- وحفظ ما تيسر منها ولا سيما في هذه الإجازة مع العمل بمقتضاها . لأنها الوحي الثاني والأصل الثاني من أصول الشريعة.

 

كما أوصي جميع الشباب بالحذر من السفر إلى بلاد غير المسلمين لما في ذلك من الخطر على عقيدتهم وأخلاقهم . ولأن بلاد المسلمين في أشد الحاجة إلى بقائهم فيها للتوجيه والإرشاد والتناصح والتعاون على البر والتقوى والتواصي بينهم بالحق والصبر عليه.

 

وأوصي جميع المدرسين في هذه الإجازة باستغلالها في إقامة الحلقات العلمية في المساجد والمحاضرات والندوات لشدة الحاجة إلى ذلك، كما أوصيهم جميعاً بالتجول للدعوة إلى الله في البلدان المحتاجة لذلك حسب الإمكان ، وزيارة المراكز الإسلامية والأقليات الإسلامية في الخارج للدعوة والتوجيه، وتعليم المسلمين ما يجهلون من دينهم وتشجيعهم على التعاون فيما بينهم والتواصي بالحق والصبر عليه، وتشجيع الطلبة الموجودين هناك على التمسك بدينهم والعناية بما ابتعثوا من أجله والحذر من أسباب الانحراف، مع وصيتهم بالعناية بالقرآن الكريم حفظاً وتلاوةً وتدبراً ، وعملاً بالسنة المطهرة حفظاً ومذاكرةً وعملاً بمقتضاها(3).

 

إن هناك شباباً ليس لهم هدف يحققونه في الإجازة، ولا عمل يعملونه، بل هذا الصنف يتحرى الإجازة بلهف ليذهب في كل مذهب، أما الصلوات فلا تسأل عنها فقد ضيّعها،و أما القرآن فهجره، و أما الذكر فلا يعرفه، و أما المسجد فما اهتدى إليه .

 

أما الصنف الآخر فهم شباب الإسلام ، و هم نجوم التوحيد ، وهم كوكبة محمد- صلى الله عليه و سلم-، و هم الفجر لهذا الدين.إنهم شباب عرفوا الحياة, و عرفوا أنهم سوف يقفون بين يدي علاَّم الغيوب، و عرفوا أن السلف الصالح استثمروا أوقاتهم في مرضاة الله .

هذا الشاب سابق بالخيرات، كتاب الله خِدنه, و رفيقه, و ربيع قلبه، لا تفوته الصلوات و لا تكبيرة الإحرام في جماعة .

حضرت الأعمش الوفاة فبكى أبناؤه . فقال لهم: ابكوا أو لا تبكوا ، والله ما فاتتني تكبيرة الإحرام ستين سنة!.

لأنه يريد جنة عرضها السماوات و الأرض!.

 

هؤلاء الشباب مقبلون على العلم إقبالاً جازماً وعازماً على استثمار الوقت، دروسهم دعوة، جلساتهم إيقاظ وصحوة ، وحركاتهم طاعة . فهؤلاء الذين سبقوا بالخيرات(4) .

ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ

أيها الإنسان: إن عمرَك رأس مالكَ الضخم، ولسوفَ تُسأل عن إنفاقك منه، وتصرفك فيه.فقد جاء عن رسول الله-صلى الله عليه وسلم- أنه قال:" لا تزولُ قدما عبدٍ يوم القيامةِ حتى يُسألَ عن أربع: ومنها عن عمرهَ فيم أفناه؟وعن جسمه فيم أبلاه؟.."5.

 

أخي الشاب الكريم: دعني أنقل إليك صوراً ونماذج للسلف في المحافظة على الأوقات والأعمار لعلها ترفع من همتك، وتغير من تصورك،وتعلي من عزيمتك فتغتنم وقتك وإجازتك فإنها من عمرك. يقول الإمام الحسن البصري-رحمه الله-:"أدركت أقواماً كانوا على أوقاتهم أشد منكم حرصاً على دراهمكم ودنانيركم". وقال ابن مسعود-رضي الله عنه-: "ما ندمت على شيء ندمي على يوم غربت شمسه نقص فيه أجلي ولم يزد فيه عملي" . ، وقال حكيم :" من أمضى يوماً من عمره في غير حق قضاه ، أو فرض أداه ، أو مجد أثله، أو حمد حصله، أو خير أسسه، أو علم اقتبسه فقد عق يومه وظلم نفسه".أما الإمام أبو الوفاء بن عقيل الحنبلي فكان يقول : "إني لا يحل لي أن أضيع ساعة من عمري حتى إذا تعطل لساني عن مذاكرة أو مناظرة، وبصري عن مطالعة، أعملت فكري في حال راحتي وأنا منطرح، فلا أنهض إلا وقد خطر لي ما أسطره، وإني لأجد من حرصي على العلم وأنا في عشر الثمانين أشد ما كنت أجده وأنا ابن عشرين. وكان ابن الجوزي-رحمه الله-يستغل الوقت الذي يزوره فيه الناس في بري الأقلام وتقطيع الورق(6).

فهل آن لنا -نحن المسلمين وخاصة أنتم أيها الشباب- أن نستغل أوقاتنا، وأن نحافظ على أعمارنا، وأن نبني حياتنا، فإن الإجازة من أعمارنا الغالية.

اللهم وفق أبناء المسلمين وبناتهم إلى استغلال أعمارهم وأوقاتهم, وحياتهم فيما ينفعهم، آمين اللهم آمين..


 


1 – راجع : خلق المسلم للغزالي(227-228).

2 – صحيح مسلم.

3 – نشرت بمجلة الدعوة العدد 1023 الاثنين 25 ربيع الثاني 1406 هـ للشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله.

4 – راجع : سياط القلوب للشيخ عائض القرني.

5 – سنن الترمذي(2417).وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير رقم(13256).

6 – راجع: الوقت أنفاس لا تعود.. لعبد الملك القاسم.