وفد بني حنيفة

وفد بني حنيفة

 

الحمد لله مستحق الحمد وأهله، وهادي من شاء من عباده إلى دينه برحمته وعلمه، والصلاة والسلام على البشير النذير والسراج المنير وعلى آله وصحبه.. أما بعد:

فإن الله -سبحانه وتعالى- لما منَّ  على نبيه -صلى الله عليه وسلم- والمسلمين بالنصر المبين في كثير من المعارك التي دارت بينهم وبين الكافرين، جاءت الوفود إلى المدينة النبوية تعلن إسلامها وتخشى إن هي تأخرت عن ذلك أن يصيبها ما أصاب من قبلها.. ومن تلك الوفود وفد بني حنيفة..

قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد بني حنيفة وفيهم مسيلمة بن حبيب الحنفي الكذاب. قال ابن هشام: مسيلمة بن ثمامة، ويكنى أبا ثمامة.

قال ابن إسحاق: فكان منزلهم في دار بنت الحارث امرأة من الأنصار، ثم من بني النجار فحدثني بعض علمائنا من أهل المدينة: أن بني حنيفة أتت به رسول الله صلى الله عليه وسلم تستره بالثياب ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في أصحابه . معه عسيب من سعف النخل في رأسه خوصات، فلما انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يسترونه بالثياب كلمه وسأله فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو سألتني هذا العسيب ما أعطيتكه".1

قال ابن إسحاق: وقد حدثني شيخ من بني حنيفة من أهل اليمامة أن حديثه كان على غير هذا. زعم أن وفد بني حنيفة أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفوا مسيلمة في رحالهم فلما أسلموا ذكروا مكانه فقالوا: يا رسول الله إنا قد خلفنا صاحبا لنا في رحالنا وفي ركابنا يحفظها لنا، قال فأمر له رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بمثل ما أمر به للقوم وقال: "أما إنه ليس بشركم مكانا"؛ أي لحفظه ضيعة أصحابه، وذلك الذي يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ارتداده وتنبؤه:

لما انصرف الوفد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاءوه بما أعطاه ولما انتهوا إلى اليمامة ارتد عدو الله وتنبأ وتكذَّب لهم، وقال: إني قد أُشركت في الأمر معه. وقال لوفده الذين كانوا معه: ألم يقل لكم حين ذكرتموني له أما إنه ليس بشركم مكانا! ما ذاك إلا لما كان يعلم أني قد أشركت في الأمر معه! ثم جعل يسجع لهم الأساجيع ويقول لهم فيما يقول مضاهاة للقرآن: "لقد أنعم الله على الحبلى، أخرج منها نسمة تسعى، من بين صفاق وحشى!!" . وأحل لهم الخمر والزنا، ووضع عنهم الصلاة، وهو مع ذلك يشهد لرسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه نبي، فأصفقت معه حنيفة على ذلك. فالله أعلم أي ذلك كان.

وقد روى البخاري في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قدم مسيلمة الكذاب على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فجعل يقول إنْ جعل لي محمد الأمر من بعده تبعته! وقدمها في بشر كثير من قومه، فأقبل إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه ثابت بن قيس بن شماس وفي يد رسول الله صلى الله عليه وسلم قطعة جريد، حتى وقف على مسيلمة في أصحابه، فقال: (لو سألتني هذه القطعة ما أعطيتكها، ولن تعدو أمر الله فيك، ولئن أدبرت ليعقُرنَّك الله، وإني لأراك الذي أريت فيه ما رأيت، وهذا ثابت يجيبك عني) ثم انصرف عنه.

قال ابن عباس: فسألت عن قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إنك أرى الذي أريت فيه ما أريت" فأخبرني أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (بينا أنا نائم رأيت في يدي سوارين من ذهب، فأهمني شأنهما، فأوحي إلي في المنام أن انفخهما، فنفختهما فطارا، فأولتهما كذابين يخرجان بعدي، أحدهما العنسي، والآخر مسيلمة)2.

قال ابن حجر رحمه الله:

"وسياق هذه القصة يخالف ما ذكره ابن إسحاق أنه قدم مع وفد قومه، وأنهم تركوه في رحالهم يحفظها لهم، وذكروه لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وأخذوا منه جائزته، وأنه قال لهم: "إنه ليس بشركم" وأن مسيلمة لما ادعى أنه أشرك في النبوة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم احتج بهذه المقالة، وهذا مع شذوذه ضعيف السند لانقطاعه، وأمر مسيلمة كان عند قومه أكثر من ذلك، فقد كان يقال له رحمان اليمامة لعظم قدره فيهم، وكيف يلتئم هذا الخبر الضعيف مع قوله في هذا الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم اجتمع به وخاطبه وصرح له بحضرة قومه أن لو سأله القطعة الجريدة ما أعطاه، ويحتمل أن يكون مسيلمة قدم مرتين الأولى كان تابعاً وكان رئيس بني حنيفة غيره، ولهذا أقام في حفظ رحالهم، ومرة متبوعاً وفيها خاطبه النبي صلى الله عليه وسلم، أو القصة واحدة وكانت إقامته في رحالهم باختياره أنفة منه واستكبارا أن يحضر مجلس النبي صلى الله عليه وسلم، وعامله النبي صلى الله عليه وسلم معاملة الكرم على عادته في الاستئلاف، فقال لقومه: "إنه ليس بشركم" أي بمكان؛ لكونه كان يحفظ رحالهم، وأراد استئلافه بالإحسان بالقول والفعل، فلما لم يفد مسيلمة توجه بنفسه إليهم ليقيم عليهم الحجة ويعذر إليه بالإنذار والعلم عند الله تعالى. ويستفاد من هذه القصة أن الإمام يأتي بنفسه إلى من قدم يريد لقاءه من الكفار إذا تعين ذلك طريقاً لمصلحة المسلمين".

مسيلمة يكتب إلى رسول الله:

قال ابن إسحاق: وقد كان مسيلمة بن حبيب كتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله، سلام عليك، أما بعد: فإني قد أشركت في الأمر معك، وإن لنا نصف الأمر، ولقريش نصف الأمر، ولكن قريش قوم يعتدون، فقدم عليه رسولان بهذا الكتاب. فكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مسيلمة: "بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد: فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده، والعاقبة للمتقين"، وكان ذلك في آخر سنة عشر.3

وقد كان رجلان ممن حمل الرسالة إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يؤمنان بأن مسيلمة نبي، فلم يقتلهما النبي -صلى الله عليه وسلم- لأن الرسل لا تقتل.

عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-، قال: جاء ابن النواحة، وابن أثال، رسولين لمسيلمة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تشهدان أني رسول الله"، فقالا: نشهد أن مسيلمة رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "آمنت بالله ورسله، ولو كنت قاتلاً رسولاً لقتلتكما" قال عبد الله: فمضت السنة بأن الرسل لا تقتل، قال عبد الله: فأما ابن أثال فقد كفانا الله، وأما ابن النواحة فلم يزل في نفسي حتى أمكن الله تعالى منه.

قال البيهقي: أما ثمامة بن أثال فإنه أسلم، وقد مضى الحديث في إسلامه، وأما ابن النواحة فإن ابن مسعود قتله بالكوفة حين أمكن الله منه.

وسنذكر قصة إسلام ثمامة بن أثال -رضي الله عنه- على ما أشار إليه البيهقي رحمه الله:

روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: بعث النبي -صلى الله عليه وسلم- خيلاً قبل نجد فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له ثمامة بن أثال، فربطوه بسارية من سواري المسجد، فخرج إليه النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: (ما عندك يا ثمامة؟) فقال: عندي خير يا محمد، إن تقتلني تقتل ذا دم، وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال فسل منه ما شئت. فترك حتى كان الغد، ثم قال له: (ما عندك يا ثمامة؟) قال: ما قلت لك، إن تنعم تنعم على شاكر، فتركه حتى كان بعد الغد فقال: (ما عندك يا ثمامة؟) فقال: عندي ما قلت لك، فقال: (أطلقوا ثمامة) فانطلق إلى نجل قريب من المسجد فاغتسل، ثم دخل المسجد فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، يا محمد والله ما كان على الأرض وجه أبغض إلي من وجهك، فقد أصبح وجهك أحب الوجوه إلي، والله ما كان من دين أبغض إلي من دينك، فأصبح دينك أحب الدين إلي، والله ما كان من بلد أبغض إلي من بلدك، فأصبح بلدك أحب البلاد إلي، وإن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة، فماذا ترى؟ فبشره رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمره أن يعتمر، فلما قدم مكة قال له قائل: صبوت قال: لا، ولكن أسلمت مع محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا والله لا يأتيكم من اليمامة حبة حنطة حتى يأذن فيها النبي صلى الله عليه وسلم.4

وإيراد البخاري هذا الحديث في وفد ثمامة يشكل عليه أنه توعد أهل مكة بمنع الحنطة عنهم وهذا كان قبل فتح مكة. ووفد مسيلمة إنما كان بعد الفتح؛ ولهذا قال ابن كثير رحمه الله: "وفي ذكر البخاري هذه القصة في الوفود نظر. وذلك أن ثمامة لم يفد بنفسه، وإنما أسر وقدم به في الوثاق فربط بسارية من سواري المسجد.

ثم في ذكره مع الوفود سنة تسع نظر آخر، وذلك أن الظاهر من سياق قصته أنها قبيل الفتح، لأن أهل مكة عيروه بالإسلام وقالوا: أصبوت؟ فتوعدهم بأنه لا يفد إليهم من اليمامة حبة حنطة ميرة حتى يأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدل على أن مكة كانت إذ ذاك دار حرب لم يسلم أهلها بعد. والله أعلم. ولهذا ذكر الحافظ البيهقي قصة ثمامة بن أثال قبل فتح مكة وهو أشبه، ولكن ذكرناه هاهنا اتباعاً للبخاري رحمه الله"5.

وفي هذه الحادثة دروس وعبر:

منها: أن نبينا -صلى الله عليه وسلم- خاتم النبيين والمرسلين، وأن من ادعى النبوة بعده فهو كاذب كافر مكذب بما أجمعت عليه الأمة المحمدية وأمم النصارى واليهود من قبل أنه خاتم الأنبياء والمرسلين، ولهذا لما حاول مسيلمة الكذاب بوسائله الماكرة أن يستعطف الناس إليه وذلك بزعمه الإيمان بمحمد -صلى الله عليه وسلم- وأنه هو رسول! ظهر كذبه وزيف ما يدعو إليه، وهذه سنة الله تعالى في عباده، فإنه ما ظهر متنبئ قط إلا فضح وكشف أمره للناس، وهذا كما أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الكذابين الذين يظهرون بعده فقال: "وَإِنَّهُ سَيَكُونُ فِي أُمَّتِي كَذَّابُونَ ثَلَاثُونَ كُلُّهُمْ يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ وَأَنَا خَاتَمُ النَّبِيِّينَ لَا نَبِيَّ بَعْدِي"6.

ومن الدروس: عزة الإسلام وأهله وأنه لا يقبل أنصاف الحلول ولا الالتقاء على موائد المفاوضات للتنازل عن الثوابت والمعتقدات، ألا ترى إلى قول النبي -صلى الله عليه وسلم- لمسيلمة: "لو سألتني هذا العسيب ما أعطيتكه"!! سبحان الله أين كلام الرسول العزيز الكريم المنصور بالله تعالى من أفعال البعض اليوم الذين يدعون اليهود والنصارى وأصحاب الأفكار الهدامة والضالة إلى الالتقاء على طاولة المفاوضات للتوصل إلى حلول ترضي الجميع ولو كان على حساب العقيدة والملة! لم يعط الرسول -صلى الله عليه وسلم- مسيلمة حتى عوداً !! رغم ما كان يتمتع به مسيلمة من قوة ونفوذ في منطقة شاسعة في الجزيرة العربية، ومع هذا لم يخف منه النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ لأن التربية الإيمانية تصنع أناساً من جبال، يكون همُّ أحدهم إرضاء الله تعالى.. أما من سعى إلى إرضاء البشر وإغضاب الله تعالى فإن الله يكتب عليه الذلة والصغار ومزيد من الاستسلام والتنازل.. والله المستعان.

ومن الدروس والفوائد ما ذكر ابن حجر في فتح الباري قال: "وفي قصة ثمامة من الفوائد: ربط الكافر في المسجد، والمن على الأسير الكافر، وتعظيم أمر العفو عن المسيء؛ لأن ثمامة أقسم أن بغضه انقلب حباً في ساعة واحدة لما أسداه النبي صلى الله عليه وسلم إليه من العفو والمن بغير مقابل. وفيه الاغتسال عند الإسلام، وأن الإحسان يزيل البغض ويثبت الحب، وأن الكافر إذا أراد عمل خير ثم أسلم شرع له أن يستمر في عمل ذلك الخير. وفيه الملاطفة بمن يرجى إسلامه من الأسارى إذا كان في ذلك مصلحة للإسلام، ولا سيما من يتبعه على إسلامه العدد الكثير من قومه. وفيه بعث السرايا إلى بلاد الكفار، وأسر من وجد منهم، والتخيير بعد ذلك في قتله أو الإبقاء عليه".7

نسأل الله تعالى أن يعز الإسلام وأهله، وأن يجعل للمسلمين من كل هم فرجاً ومن كل ضيق مخرجاً ومن كل عسر يسراً.

والله الهادي إلى صراط مستقيم.


 


1 أصل الحديث في البخاري (4025).

2 رواه البخاري برقم (4025).

3 ذكره البيهقي في دلائل النبوة (2076).

4 البخاري في صحيحه (4024).

5 السيرة النبوية لابن كثير (4/93).

6 رواه أبو داود وغيره، وهو حديث صحيح.

7 فتح الباري لابن حجر (ج 12 / ص 189).