أريد أن أطأ بعرجتي الجنة

أريد أن أطأ بعرجتي الجنة

 

الحمد لله رب العالمين، ولاعدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له، وأشهد أن محمد عبده ورسوله – صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً – كثيراً إلى يوم الدين، أما بعد:

فما أجملها من عبارات، وما أعذبها من كلمات، وما أعظمها من تضحيات، حب ووفاء، وصدق وولاء، عهد وعقد، لا رجوع ولا تقهقر، ولا كسل ولا تواني، بل تقدم إلى الامام، وطلب للشهادة، وبحثٍ عن الموت، ومفارقةٍ للأهل والأولاد، والصاحبة والأزواج؛ كل هذا تجسد في الرعيل الأول، والجيل الفريد، أصحاب المبادئ السامية، والمواقف الثابتة، والنماذج الصلبة، والمخرجات المتميزة:

أولئك آبائي فجئني بمثلهم           إذا جمعتنا يا جرير المجامع

وحتى لا يطول بنا المقام فلعلي أن أكتفي بذكر نموذج من هذه النماذج ألا وهو الصحابي الجليل عمرو بن الجموح – رضي الله عنه -:

كان عمرو بن الجموح أعرج شديد العرج، وكان له أربعة بنين شباب يغزون مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إذا غزا، فلما توجه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أحد أراد أن يتوجه معه، فقال له بنوه: إن الله قد جعل لك رخصة، فلو قعدت ونحن نكفيك، وقد وضع الله عنك الجهاد!!، فأتى عمرو بن الجموح – رضي الله عنه – رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقال: يا رسول الله إن بَنيَّ هؤلاء يمنعونني أن أخرج معك، ووالله إني لأرجو أن استشهد "فأطأ بعرجتي هذه في الجنة"، فقال له رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((أما أنت فقد وضع الله عنك الجهاد))، وقال لبنيه: ((وما عليكم أن تدعوه لعل الله – عز وجل – أن يرزقه الشهادة))، فخرج مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقتل يوم أحد شهيد1.

وحاله كما قال القائل:

أرواحنا يارب فـــوق أكفـنا           نرجوا ثوابك مغنماً وجوارا

لم نخش طاغوتاً يحاربنا ولـــو            نصب المنايا حولنا أسـوارا

كنا نرى الأصنام من ذهب فنهـ            ـدمها ونهدم فوقها الكفارا

أراد أولاده أن يثنوه عن الخروج لكن حرارة الإيمان، والشوق إلى الجنان؛ أبت إلا أن يرضي الرحمن، ويقاتل جند الشيطان، فحاز على ما رام، وتحقق له ما تمنى:

أيا رب لا تجعل وفاتي إن دنت               على مضجع تعلوه حسن المياثر

ولكن شهيداً ثاوياً في عصابةٍ                  يصابون في فج من الأرض غائر

وإن المتأمل لمثل هذه النفسيات، والباحث عن تاريخها؛ ليجدها من أسمى النفوس وأزكاها، وأرقاها على كل المستويات، فهذا الصحابي عمرو بن الجموح لم يضح بنفسه إلا بعد ما ضحى بماله؛ لأن "من ضن بماله فنفسه من باب أولى"، ومن بذل المال بذل النفس؛ فإن حبهما قريب من بعضهما: {وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا}2، فقد روى الزهري بسنده عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال لبني ساعدة: ((من سيِّدُكم؟))، قالوا: الجَدُّ بن قيس؛ قال: ((بِمَ سَوَّدتموه؟))، قالوا: إنه أكثرنا مالاً، وإنا على ذلك لنَزُنُّه بالبخل؛ فقال النبي – صلى الله عليه وسلم -: ((وأيُّ داءٍ أدوى من البخل؟))، قالوا: فمن سيدنا يا رسول الله؟ قال: ((بشْر بن البَرَاء بن مَعْرور))، وفي رواية: ((من سيِّدُكم؟)) فقالوا: الجد بن قيس على بخل فيه؛ فقال: ((وأيُّ داءٍ أدوى من البخل! سيِّدُكم الجَعْدُ الأبيض عمرو بن الجموح))3.

قال ابن عبد البر عن عمرو بن الجموح – رضي الله عنه -: "وكان يولم على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إذا تزوج"، ولهذا مدحه شاعر الأنصار:

وقال رسولُ الله والحقُّ قولُه لمن               قال منا من تسمون سيدا؟

فقالوا له جد بن قيس على التي               نبخله فيها وإن كان أسودا

فسوَّد عمرو بن الجموح لجوده               وحق لعمر بالندى أن يسوَّدا

إذا جاءه السؤَّالُ أذهب ماله                  وقال خذوه إنه عائد غدا

فلو كنتَ يا جَدُّ بن قيس على التي           على مثلها عمرو لكنتَ مسوَّدا

وفي رواية أنه قال: "اللهم لا تردني حتى أطأ بعرجتي هذه الجنة صحيحاً، وقاتل حتى قتل، فمر عليه – صلى الله عليه وسلم – فقال: ((لكأني أنظر إليك تمشي برجلك هذه صحيحة في الجنة)) إيهٍ إيهٍ!!

ليرفعها في حضيض التراب          إلى الأفق الأرحب الأكرم

اللهم ارزقنا الشهادة في سبيلك، ومرافقة نبيك في الجنة مع الذين أنعمت عليهم {مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا}4، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.


 


1 راجع فقه السيرة للغزالي (ج1 ص260)، وقال الألباني: سنده حسن إن لم يكن مرسلاً، وقد روى بعضه أحمد بسند صحيح.

2 سورة الفجر (20).

3 مشكل الآثار للطحاوي (ج12 ص211).

4 سورة النساء (69).