الرحمة

 

 

الرحمة

الحمد لله رب العالمين، ولي الصالحين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، أرسله الله رحمة للعالمين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين، أما بعد:

الرحمة خلق ثابت ومتأصل في النفس الإنسانية، وهو شامل لكل قيم السلوك الفاضل في التعامل بين الناس، ومن هنا كانت الرحمة هي الهدف الأسمى، والغاية العظمى للرسالة الإسلامية كما جاء ذلك في القرآن الكريم في قول الله لنبيه: {وَمَاأَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ}1.

وتأييداً لهذا فإن الله – عز وجل – يؤكد هذا المفهوم وهذه القيمة العظيمة في نفوس المسلمين حيث تكرر مفهوم الرحمة في القرآن الكريم؛ في أول كل سورة من سور القرآن الكريم، وفي مواضع أخرى من القرآن الكريم، هذا التأكيد من شأنه أن يجعل قيمة الرحمة حاضره باستمرار في وعي الناس حتى يكون التعامل فيما بينهم قائماً على هذا الأساس، فإن الله هو الرحمن الرحيم، ورحمته وسعت كل شيء، ونبه النبي إلى أن الراحمون يستحقون رحمة الله، وحصر الرحمة فيهم، فقد جاء عن الرسول  أنه قال: ((هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء))2، وفي رواية ((إلا الرحماء)) وعلق ابن حجر – رحمه الله – فقال: “قوله وإنما يرحم الله من عباده الرحماء، و”من” في قوله “من عباده” بيانية، ومقتضاه أن رحمة الله تختص بمن اتصف بالرحمة، وتحقق بها، بخلاف من فيه أدنى رحمة، لكن ثبت في حديث عبد الله بن عمرو عند أبي داود وغيره “الراحمون يرحمهم  الرحمن”، والراحمون جمع راحم فيدخل كل من فيه أدنى رحمة، ولفظ الرحمن دال على العفو فناسب أن يذكر معه كل ذي رحمة وإن قلَّت، والله أعلم”3.

وقال ابن القيم: “ومما ينبغي أن يعلم: أن الرحمة صفة تقتضي إيصال المنافع والمصالح إلى العبد وإن كرهتها نفسه، وشقت عليها، فهذه هي الرحمة الحقيقية، فأرحم الناس بك  من شق عليك في إيصال مصالحك، ودفع المضار عنك، ولهذا كان من تمام رحمة أرحم الراحمين تسليط أنواع البلاء على العبد، فإنه أعلم بمصلحته، فابتلاؤه له، وامتحانه، ومنعه من كثير من أغراضه وشهواته من رحمته به، ولكن العبد لجهله وظلمه يتهم ربه  بابتلائه، ولا يعلم إحسانه إليه بابتلائه وامتحانه، وقد جاء في الأثر: “إن المبتلى إذا دعي له: اللهم ارحمه، يقول الله سبحانه: كيف أرحمه من شيء به أرحمه”، فهذا من تمام رحمته به لا من بخله عليه، كيف وهو الجواد الماجد الذي له الجود كله، وجود جميع الخلائق في جنب جوده أقل من ذرة في جبال الدنيا ورمالها، ولما كان تمام النعمة على العبد إنما هو بالهدى والرحمة كان لهما ضدان: الضلال والغضب”4.

ولهذا فإن الله – تعالى – رحيم بعباده، ومن رحمته بهم أن أرسل لهم الرسل، وأنزل عليهم الكتب رحمة بهم، قال – تعالى -: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ}5، وقال: {وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}6، ولهذا سمى نفسه بالرحمن الرحيم، “والرحمن الرحيم: اسمان مشتقان من الرحمة على طريق المبالغة، ورحمن أشد مبالغة من رحيم، ولذلك قالوا: رحمن الدنيا والآخرة، ورحيم الدنيا، وقد تقرر أن زيادة البناء تدل على زيادة المعنى، والرحمن اسم عام في جميع أنواع الرحمة يختص به الله – تعالى -، والرحيم إنما هو في جهة المؤمنين قال الله -تعالى -: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً}”78.

وذكر النبي   رحمة الله وأنها وسعت كل شيء فعن أَبي هُرَيْرَةَ – رضي الله عنه – قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ   يَقُولُ: ((جَعَلَ اللَّهُ الرَّحْمَةَ مِائَةَ جُزْءٍ فَأَمْسَكَ عِنْدَهُ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ جُزْءاً،وَأَنْزَلَ فِي الْأَرْضِ جُزْءاً وَاحِداً، فَمِنْ ذَلِكَ الْجُزْءِ يَتَرَاحَمُ الْخَلْقُ حَتَّى تَرْفَعَ الْفَرَسُ حَافِرَهَا عَنْ وَلَدِهَا خَشْيَةَ أَنْ تُصِيبَهُ))9.

“وهذه الرحمة هي رحمته التي خلقها لعباده، وجعلها في نفوسهم، والتي أمسك عند نفسه هي ما يتراحمون به يوم القيامة، ويتغافرون من التبعات التي كانت بينهم في الدنيا،وقد يجوز أن تستعمل تلك الرحمة المخلوقة فيهم بها سوى رحمته التي وسعت كل شيء التي لا يجوز أن تكون مخلوقة، وهى صفة من صفات ذاته – تعالى – لم يزل موصوفاً بها، فهي التي يرحمهم بها زائداً على الرحمة التي جعلها لهم، وقد يجوز أن تكون الرحمة التي  أمسكها عند نفسه هي التي عند ملائكته المستغفرين لمن في الأرض؛ لأن استغفارهم لهم  دليل على أن في نفوس الملائكة رحمة على أهل الأرض، والله أعلم”10.

والرحمة هي ثواب من الله للمؤمنين قال – تعالى -: {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ}11، وإذا علمنا هذا فإن الله ندب المؤمنين إلى طلب الرحمة فقال: {إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ}12 كل هذه النصوص (وغيرها من النصوص) هي لكي يتصف العبد بهذه الصفة؛ فإن الله قد وصف المؤمنين بأنهم يوصي بعضهم بعضاً بالرحمة فقال: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ}13، “والتواصي بالمرحمة هو أمر زائد على المرحمة، فإنه إشاعة الشعور بواجب التراحم في صفوف الجماعة عن طريق التواصي به، والتحاض عليه، واتخاذه واجباً جماعياً فردياً في  الوقت ذاته، يتعارف عليه الجميع، ويتعاون عليه الجميع”14.

“إن الرحمة ليست مجرد تعاليم نظرية، أو تطلعات فلسفية، أو كما يقال حبراً على ورق، بل هو أمر ظاهر من حياة النبي  ، وشأنها كشأن سائر خصاله  وأخلاقه التي ترجمها إلى منهج حياة عملية، وواقع حي عاشه المسلمون في العهود الإسلامية العريقة، فرحمة النبي محمد  رحمة تطبيقية يمارسها  في حياته اليومية كما تقول عائشة – رضي الله عنها – عندما سئلت عن خُلُقِهِ فقالت: “كان خلقه القرآن”، فقد خرج من تعاليم القرآن المكتوبة إلى واقع الحياة بتطبيق هذه التعاليم، وممارستها سلوكاً عملياً”15.

إضافة إلى هذا فإن الله – سبحانه وتعالى – قد فتح باب الرحمة للعائدين إليه، ووعد بمغفرة ذنوبهم إذا أرادوا الرجوع إليه: ((وَإِنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً))16كما وعد – سبحانه – بأن يبدل السيئات إلى حسنات لمن تاب وحسنت توبته، بل إن المسرفين على أنفسهم جعل الله لهم أملاً عظيماً فيه بأنه يغفر الذنوب جميعاً كما قال: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}17، وكذلك فإن الله – تعالى – يفرح بتوبة العبد فرحاً لو فرح العبد جزءاً منه لأصابه الذهول، ولم يدر ما يقول، فماذا يريد العاصي من ربه بعد ذلك؟

ما عليه إلا أن يلج هذا الباب العظيم، ويدخل في سعة رحمة ربه – جل وعلا -، نسأل الله بمنه وكرمه أن يجعلنا ممن تشملهم رحمته، وأن يغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.


1 سورة الأنبياء (107).

2 البخاري (1204)، ومسلم (1531).

3 فتح الباري لابن حجر (ج3/ص158) بتصرف.

4 إغاثة اللهفان (2/174) بتصرف.

5 سورة الأنبياء (107).

6 سورة النحل(64).

7 سورة الأحزاب (43).

8 فتح القدير للشوكاني(1/23).

9 البخاري(5541)، ومسلم(4942).

10 شرح ابن بطال (17/254).

11 سورة البقرة (157).

12 سورة المؤمنون (109).

13 سورة البلد (17).

14 في ظلال القرآن (8/45) بتصرف يسير جداً.

15 نبي الرحمة (1/46).

16 البخاري (6865)، ومسلم (4851).

17 سورة الزمر (53).