حكم البيع وقت أذان الجمعة

حكم البيع وقت أذان الجمعة

 

الحمد لله الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، ثم الصلاة والسلام التامان الأكملان على البشير النذير، والسراج المنير – صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه وذرياته إلى يوم الدين، أما بعد:

فإن البيع والشراء يمنعان إذا شرع المؤذن في الأذان الثاني لصلاة الجمعة، وهو الذي يكون بعد صعود الإمام على المنبر، لورود النهي في قوله – تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}1، ولما فيهما من الاشتغال بهما عن الصلاة، وقد حمل الجمهور – من المالكية والشافعية والحنابلة – النهي الوارد في الآية على التحريم2.

أما الحنفية فقد حملوه على أدنى أحواله وهو الكراهة، وقالوا: إن ترك البيع واجب، فيكره تحريماً، ويصح إطلاق الحرام عليه3، كما قاس الجمهور جميع العقود من النكاح والإجارة وغيرها على البيع؛ لأنها مشتركة معه في العلة؛ وهو الانشغال عن السعي إلى الجمعة، وقد تقرر عند علماء الأصول "أن الحكم يدور مع العلة وجوداً وعدماً"، فإذا وجدت العلة وجد الحكم، وإذا انتفت العلة انتفى الحكم، والعلة هنا متحدة، فعلى هذا أخذت العقود حكم البيع من الكراهة والتحريم4، خلافاً للحنابلة فإنهم قالوا: إن النهي مختص بالبيع، وغيره لايساويه في الشغل عن السعي لقلة وجوده5.

والصحيح ما عليه الجمهور؛ لأن العلة في النهي هي التشاغل عن السعي إلى الجمعة6وهي موجودة في سائر العقود.

إذا وقع البيع فما الحكم:

إذا وقع البيع عند الأذان الثاني للجمعة فهل يقع صحيحاً أو فاسداً؟

للفقهاء في المسألة قولان:

القول الأول: أنه يصح، وهو قول الحنفية والشافعية7.

ودليلهم: أن الأمر بترك البيع ليس لعين البيع بل لترك استماع الخطبة8، فالفساد في معنى خارج زائد، لا في صلب العقد ولا في شرائط الصحة9، فلم يمنع صحة البيع كالصلاة في أرض مغصوبة10.

القول الثاني: أنه لايصح وهو قول المالكية والحنابلة11.

ودليلهم: من الكتاب قوله – تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}12، وأن ظاهر الآية يدل على عدم الصحة13، ومن السنة: حديث عائشة – رضي الله عنها – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد))14، ومعنى رد أي مردود، والرد إذا أضيف إلى العبادات اقتضى عدم الاعتداد بها، وإذا أضيف إلى العقود اقتضى فساده15، ومن المعقول: أن في فسخ البيع ردعاً للناس16 لئلا يشتغلوا بشيء عن الصلاة في ذلك الوقت؛ ولأن البيع عند نداء الجمعة عقد نهي عنه لأجل عبادة فكان غير صحيح، كالنكاح المحرم17.

الترجيح: الراجح والله أعلم هو القول الأول وذلك لما يلي:

1-              قوة ما استدلوا به، وسلامته من المناقشة.

2-      ومما يرجحه أن البيع قد يوجد بدون سعي كأن يتبايعا في الطريق ذاهبين، وترك السعي يوجد بدون البيع بأن مكثا في غير بيع18.

3-      أن ما استدل به أصحاب القول الثاني يمكن مناقشته بما يلي: أما الآية والحديث فليس فيهما دلالة صريحة على عدم صحة البيع، وإنما على تحريمه.

وأما القياس على النكاح المحرم فهو قياس مع الفارق؛ لأن النكاح المحرم هو محرم لنفسه إما لترك ركن، أو اختلال شرط، ونحو ذلك، وأما النهي عن البيع عند النداء للجمعة فهو لمعنى خارج.

اللهم علمنا ماينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، والحمد لله أولاً وآخراً.


 


1 الجمعة (9).

2 مواهب الجليل (ج2 ص180-182) والمجموع (ج4 ص 419) والمغني (ج3 ص 162).

3 المبسوط (ج1 ص134).

4 مراقي الفلاح (ص 517 – 518) والمجموع (ج4 ص 419).

5 المغني (ج3 ص 164).

6 مراقي الفلاح ص 518، والمجموع (ج4 ص 419).

7 بدائع الصنائع (ج2ص220) والمهذب (ج4ص 418).

8 بدائع الصنائع (ج2 220).

9 الهداية (ج6 ص 478) ومغني المحتاج (ج1 ص295).

10 المهذب (ج4 ص 418).

11 المدونة (ج1 ص280)، وكشاف القناع (ج4 ص1428).

12 الجمعة (9).

13 تفسير القرآن العظيم لابن كثير (ج4 ص392).

14 رواه البخاري برقم (2697)، ومسلم برقم (1718).

15 الكوكب المنير (ج3 ص87).

16 الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (ج18 ص96).

17 المبدع (ج4 ص41).

18 كشف الأسرار عن أصول فخر الإسلام البزدوي لعلاء الدين البخاري (ج1 ص538).