أثر العقائد على الأمم والشعوب

أثر العقائد على الأمم والشعوب

الخطبة الأولى:                    

إن الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك، وأشهد أن سيدنا وحبيبنا محمداً عبدُ الله ورسوله، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه الغر العظام، وعلى من تبعهم واستن بهديهم على مدار الأزمان.

أما بعد:

فقد أرسل الله -سبحانه- رسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره الكافرون، وجاءوا من عند الله مبشرين ومنذرين لتحقيق هدف واحد، يدعون إلى عقيدة واحدة التي هي محور دعوة جميع الرسل -عليهم الصلاة والسلام- من نوح إلى خاتمهم وأفضلهم محمد، الذي بُعث رحمة للعالمين، ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، وسار على نهجهم السلف الصالح، يستلهمون سر وحدتهم من صفاء العقيدة الخالصة التي لم تشبها شائبة، فأصبحوا بذلك سادة الدنيا، وفتح الله لهم أبواب الخير في كل مكان، ورفعوا راية التوحيد في مشارق الأرض ومغاربها، وانطلقوا في دعوتهم من تحقيق كلمة التوحيد (لا إله إلا الله محمد رسول الله)؛ لأن ذلك هو الأساس الذي أمروا أن يبدؤوا به. قال الله -تعالى-: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا ومَنِ اتَّبَعَنِي وسُبْحَانَ اللَّهِ ومَا أَنَا مِنَ المُشْرِكِينَ}، وقال -تعالى-: {واعْبُدُوا اللَّهَ ولا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً}. والعقيدة مهمة جداً لنيل المقصود في الآخرة، وهي أساس كل عمل، وهي رأس الأمر كله، والجسد لا يستقيم بلا رأس.1

وسنتحدث في هذه الخطبة عن تأثير العقيدة على الأمم والشعوب، وأنها كذلك التي تصوغ فكر وتصرفات الأمم.

أيها الناس:

" إن الإسلام عقيدة متحركة لا تطيق السلبية؛ إذ إنها بمجرد تحققها في عالم الشعور، تتحرك لتحقق مدلولها في الخارج، وتترجم نفسها إلى حركة وإلى عمل في عالم الواقع ".2  

فالعقيدة لها تأثير على حياة الجنس البشري، وإذا نظرنا إلى تأثير العقيدة في تاريخ الجنس البشري نجد أمراً عجباً، فهي تبدل مجرى حياة الناس أفراداً وجماعات من حالة إلى أخرى. ولذلك أمثلة متعددة نذكر منها مثالين للاختصار:

المثال الأول:

ما قصه الله -سبحانه وتعالى- علينا من نبأ سحرة فرعون فإنهم لما جاؤوا وهم فارغون من العقيدة لم يكن لهم همّ أبداً إلا المصالح الدنيوية، ولا يعرفون حياة إلا هذه الحياة المحدودة والمحصورة ما بين المبدأ والمصير.

فقد حكا الله عنهم ما قالوا لفرعون: {أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ} (41) سورة الشعراء. فما كان لهم من طموح إلا الفوز بشيء من الأجر والشهرة والظهور. وقد كانت غاياتهم ظاهرة. وقد أدرك فرعون ما صرحوا به من رغبة في الأجر، وما لم يصرحوا به من رغبة في الظهور والشهرة، فقال لهم مجيباً: {قَالَ نَعَمْ وَإَنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} (114) سورة الأعراف. هكذا كان واقع الأمر والحوار، ولكن عندما خالطت بشاشة الإيمان قلوبهم، تحول تفكيرهم وتغيرت مفاهيمهم وتبلورت وجهة نظرهم في الحياة وتحددت غاية الغايات عندهم، فكان منهم ما قصه الله -تعالى- علينا في آيات متعددة.. منها قوله – تعالى-: {قَالُوا لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} (72) سورة طـه. فسحرة فرعون عندما خالطت بشاشة الإيمان أوتار قلوبهم هزتها راجية ما عند الله -سبحانه- من رضوان ونعيم مقيم يتوقون إليه.. لذلك قالوا لفرعون: {لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ} فقد رأوا الآيات البينّات تدعوهم إلى الإيمان بالله -تعالى-، والتصديق بنبوة رسوله موسى -عليه السلام-. والإقرار بأن ما جاء به موسى هو الحق الصريح.. بعد ذلك كله لا مناص لهم إلا أن يتخلصوا من جميع أوضار العقيدة الفاسدة التي كانوا متلبسين بها، والأفكار المنحرفة التي كانوا يحملونها، فآثروا رضا الله-تعالى- على زخرف ومتاع الحياة الدنيا. وقالوا لفرعون: {لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى * إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيى * وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى} (7375) سورة طـه. ما قالوا هذا الكلام عندما هددهم بأن يقتلهم وأن يصلبهم في جذوع النخل. ما أعجب هذا التحول السريع من الكفر إلى الإيمان الذي ما كان له أن يحدث إلا في ظل العقيدة الصحيحة السليمة الموافقة للفطرة والعقل.

أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله وكفى، والصلاة والسلام على النبي المصطفى، وعلى آله وصحبه أوْلي التقى، وعلى من سار على نهجهم واقتفى.

عباد الله:

إن العقيدة تبدل مجرى حياة الناس أفراداً وجماعات من حالة إلى أخرى، وهي كذلك التي تصوغ فكر وتصرفات الأمم، وهي كذلك التي تحدد سلوك أمة من الأمم.

وقد ذكرنا في الخطبة الأولى المثال الأول وهو إسلام سحرة فرعون، ونذكر الآن المثال الثاني وهو تأثير الإيمان في كفار العرب:

لقد استحكم العداء بين قبائل العرب قبل الإسلام حتى صار القتال والسلب والنهب الأصل في العلاقات بين الناس، ومعلوم أن العرب في جاهليتهم كانوا يتنازعون فيما بينهم لأتفه الأسباب، ولم تكن الدار الآخرة في وجدانهم؛ لأنهم لم يكونوا ليحسبوا لها حساباً، وهم لا يؤمنون بها.

صحيح أن التاريخ سجل للعرب امتثالهم لبعض القيم، إلا أن القيم المادية كانت مستحوذة على تفكيرهم. ولم يكن للقيم الروحية أي وجود في حياتهم. حتى وصل الانحطاط الحضاري والهبوط الفكري إلى حد اقتتال الجيران دونما مراعاة لما تفرضه الأعراف من حقوق الجار، ومثال ذلك ما جرى بين قبيلتي الأوس والخزرج، وهما قبيلتان عربيتان يمانيتان تنحدران من أصل واحد، إذ ظل القتال ما بين هاتين القبيلتين نحو مائة وعشرين عاماً، حتى صارت الثارات متوارثة، يورِّثها الآباء للأبناء، والأجداد للأحفاد، وسيوفهم المشرعة تقطر دماً باستمرار.

ولكن الأمر انقلب مع دخول الإسلام إلى يثرب، فما كاد الإيمان يغشى قلوبهم حتى حوّل هذه العداوات إلى مودة ووئام، في وقت لم تطهر سيوفهم من رجس ما سفكت من دماء بعد.

وقد سجل تاريخ التحول عند الشعوب ذلك الانقلاب العجيب الذي صنع التحول الكلي في تاريخ عرب الجزيرة، تلك القبائل التي ما كانت تفكر بأكثر من ذلك المحيط الضيق الذي كانوا يعيشون فيه.

فقد كانت حروبهم نزاعات محلية قبلية ضيقة، ويتنافسون على حياة الصحراء القاسية بالنهب والغزو واغتصاب الأموال.. ويتفاخرون بالدنيء من الخصال كالإنفاق في احتساء الخمر، وارتكاب المنكرات.

وفشت فيهم العصبية المقيتة، وتغلغلت الفردية والأنانية والطموح الذاتي، وكانوا أبعد المجتمعات عن فهم طبيعة المجتمع المتكافل الموحد الصالح. فظلوا سادرين في فرقة الجاهلية حتى جاءهم محمد -عليه أفضل الصلاة والسلام- بدعوة الحق من عند الله رب العالمين. 

وما كادت هذه القبائل تلمح هذا الحق بأبصارها، حتى هشت له القلوب، واطمأنت النفوس، وسكنت الجوارح، وتسامى الوجدان فوق العداوة والشحناء والاقتتال، فبرزت الفطرة صافية، وإذا بهم يتآلفون ويتكاتفون وينصهرون في ظل عقيدة التوحيد.

وقد كان الأمر عجيباً حقاً وملفتاً للنظر إلى حد بعيد، إلى درجة أن كثيراً من  قادة الفتوحات الإسلامية كانوا قبل إسلامهم هم من أشد الناس عداوة للإسلام، ومن بين هؤلاء: خالد بن الوليد وعكرمة بن أبي جهل وغيرهما كثير.  فقد قتل آباؤهم في الحروب التي كانت بين الإسلام والجاهلية.

ولكنهم ما كادوا يعتنقون العقيدة الجديدة تحت لواء الإسلام الحنيف، حتى تطهرت نفوسهم من آثار الثارات المتغلغلة في صدورهم، واندفعوا يقاتلون بحماس وإخلاص خالص في سبيل نشر العقيدة التي كانوا حرباً بلا هوادة في وجهها.

هذا الذي حدث كان انقلاباً في تصورهم! بالأمس القريب كانوا سداً يعيق انتشار الدعوة الإسلامية، واليوم يلقون بأنفسهم في أتون المعارك طلباً للشهادة في سبيل نشر نفس تلك الدعوة التي كانوا يحاربونها! وما كان ذلك أن يكون إلا بالإيمان الذي ملأ جوانب قلوبهم ونور بصائرهم، وطهر سرائرهم.

فهذا الفاروق عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- ابتلي في الجاهلية بوأد البنات، وكان من أشد كفار قريش عداوة للدعوة الإسلامية، ولكنه ما كاد يدخل في دين الله حتى أصبح يعرض ابنته أم المؤمنين حفصة -رضي الله عنها- على أصحابه وإخوانه في الله ليتزوجها من شاء منهم، وتزوجها رسول الله بعد أن كان وجود البنت في حجره عاراً على نفسه.

تلك هي آثار العقيدة الصحيحة التي انتشلت العرب من الضياع، ووحدتهم في تصور جديد يسعى بهم لنيل رضوان الله – تعالى-. فإذا بهم يفتحون العالم بعد مواجهة مسلحة مع أعظم قوتين في الدنيا (فارس والروم ) وكانت هاتان القوتان بمثابة (دول الشرق والغرب) في وقتنا هذا.

فمن الذي يصدق أن العرب بإمكانهم أن يواجهوا إحدى القوتين الكبيرتين فضلاً عن مواجهتهما معاً في وقت واحد، من غير أن يسندوا ظهورهم إلى قوة أخرى. ولكن الإيمان الصادق هو الذي يصنع المعجزات، فهؤلاء العرب الذين كانوا شرذمة متفرقين وكانوا أوزاعاً مشتتين، يجتمعون في ظل هذه العقيدة ويدافعون عنها بكل إخلاص، ويواجهون في سبيل الدعوة إليها أعظم قوتين كبيرتين في العالم آنذاك وفي وقت واحد، ويسحقون هاتين القوتين العظيمتين، وينشرون دين الله في الأرض، ويذيقون الإنسانية المنكوبة طعم الراحة، والعدل والإيمان والأمان، كل ذلك بتأثير العقيدة لا غير.

واليوم نسمع من يقلل من أهمية العقيدة الإسلامية بحجة أنها تفرق الناس! ويقول: لابد أولاً أن ندعو الناس إلى مكارم الأخلاق، والبعض يدعو إلى السياسة الصحيحة، والبعض يدعو إلى صفاء النفوس وطهارتها، وكل مطلوب ومهم، ولكن لا أهمية لهذه الأمور إن لم يكن الأساس قد وضُع لها، وهي العقيدة الصافية الخالصة من كل شائبة.

إن الدعوة الصحيحة هي التي تقوم على ما قامت عليه دعوة السلف الذين جعلوا الدين وحدة متكاملة ينطلق في السياسة والأخلاق وجميع الأمور من العقيدة الإسلامية المستمدة من الكتاب والسنة، وعندما نقول: بأن الدعوة لا بد أن تكون على العقيدة لا يعني إهمال الجوانب الأخرى، إنما يعني أن نهتم بالعقيدة أولاً، وندعو الناس إليها، ثم تكون أعمالنا من منطلق هذه العقيدة.

اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين.. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.


1 مجلة البيان العدد 27.

2 في ظلال القرآن: 4/2525.