اتبعوا ولا تبتدعوا

اتبعوا ولا تبتدعوا

 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على النبي الكريم صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين، أما بعد:

فإن الله بعدما خلق الخلق أرسل إليهم الرسل – عليهم الصلاة والسلام -، وأمرهم باتباعهم حتى يعبدوا الله – تبارك وتعالى – على بصيرة، ولا يقعوا في الضلال، وقرن الله – تبارك وتعالى – طاعة رسوله – صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم – بطاعته في آيات كثيرة منها قول الله – تبارك وتعالى -: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * قُلْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ فإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ}1 قال الحافظ ابن كثير – رحمه الله -: "هذه الآية الكريمة حاكمة على كل من ادعى محبة الله وليس هو على الطريقة المحمدية فإنه كاذب في دعواه في نفس الأمر حتى يتبع الشرع المحمدي، والدين النبوي في جميع أقواله، وأفعاله، وأحواله كما ثبت في الصحيح عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد))2، ولهذا قال: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ} أي يحصل لكم فوق ما طلبتم من محبتكم إياه وهو محبته إياكم، وهو أعظم من الأول، كما قال بعض العلماء الحكماء: ليس الشأن أن تُحِبَّ؛ إنما الشأن أن تُحَبَّ، وقال الحسن البصري وغيره من السلف: زعم قوم أنهم يحبون الله فابتلاهم الله بهذه الآية3"، وقال سبحانه: {وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}4، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً}5، وإنما يكون الرد بعد موته – عليه الصلاة والسلام – لما ثبت من سنته وصح.

وأخبر – تعالى – أن من أطاع الله ورسوله فإنه يكون مع النبيين والصديقين والصالحين فقال: {وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا}6، وقال: {تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}7، وقال: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَن يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا}8، وحذر من عصيانه فقال – تبارك وتعالى -: {وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ}9، وجعل طاعة الرسول – صلى الله عليه وسلم – من الإيمان فقال: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ لِلّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}10، وقال آمراً بطاعته وطاعة رسوله: {وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}11، وقال عن المنافقين: {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ}12، وقال عن المؤمنين: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ*وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ}13، وقال: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا}14، ففي هذه الآيات يتبين أن طاعة الرسول – صلى الله عليه وسلم – هي من أكبر الواجبات، وأن من لم يلتزم بها فليس من المؤمنين لأنه لم يمتثل أوامر الله – تبارك وتعالى -.

وكل من عبد الله – تعالى – على غير هدي النبي – صلى الله عليه وسلم – فإنه على بدعة – عياذاً بالله – سواء عرف هذا أم لم يعرف، وهو غير ممتثل لأمر الله، وقد ورد في السنة ذم الابتداع في أحاديث عدة منها حديث أنس – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله حجر التوبة عن كل صاحب بدعة))15، وعن جابر بن عبدالله – رضي الله عنهما – قال: "كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إذا خطب احمرت عيناه، وعلا صوته، واشتد غضبه حتى كأنه منذر جيش يقول صبحكم ومساكم، ويقول: ((بعثت أنا والساعة كهاتين، ويقرن بين أصبعيها لسبابة والوسطى))، ويقول: ((أما بعد: فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة، ثم يقول: أنا أولى بكل مؤمن من نفسه، من ترك مالاً فلأهله، ومن ترك ديناً أو ضياعاً فإلي وعلي))16، وعن عبد الرحمن بن عمرو السلمي وحجر بن حجر قالا: أتينا العرباض بن سارية وهو ممن نزل فيه {وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ}17 فسلمنا وقلنا: أتيناك زائرين، وعائدين، ومقتبسين، فقال العرباض: صلى بنا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ذات يوم، ثم أقبل علينا فوعظنا موعظة بليغة ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقال قائل: يا رسول الله كأن هذه موعظة مودع فماذا تعهد إلينا؟ فقال: ((أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة، وإن عبداً حبشياً فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة))18، وبهذا يُعلَم أهمية الاتباع وشناعة الابتداع وخطورته.

وأما الآثار التي وردت عن السلف الصالح الدالة على ذم الابتداع، والحث على الالتزام بالكتاب والسنة فكثيرة جداً نذكر منها:

   قال ابن عباس – رضي الله عنه -: "من أحدث رأياً ليس في كتاب الله ولم تمض به سنة من رسوله – صلى الله عليه وسلم – لم يدر ما هو عليه إذا لقي الله – عز وجل –19"، وقال: "عليكم بالاستقامة والأثر، وإياكم والبدع20"، وقال – رضي الله عنه – يوصي عثمان الأزدي: "عليك بتقوى الله – تعالى -، والاستقامة، اتبع ولا تبتدع21".

   وقال ابن عطاء – رحمه الله -: "من ألزم نفسه آداب السنة؛ نوَّر الله قلبه بنور المعرفة، ولا مقام أشرف من متابعة الحبيب في أوامره وأفعاله وأخلاقه22".

   وقال الإمام أحمد – رحمه الله -: "من علم طريق الحق سهل عليه سلوكه، ولا دليل على الطريق إلى الله إلا متابعة الرسول – صلى الله عليه وسلم – في أحواله وأقواله وأفعاله23".

   وقال ابن القيم – رحمه الله -: "فمن صحب الكتاب والسنة، وتغرب عن نفسه وعن الخلق، وهاجر بقلبه إلى الله؛ فهو الصادق المصيب24".

   وقال الإمام البربهاري – رحمه الله -: "واعلم رحمك الله أن العلم ليس بكثرة الرواية والكتب، إنما العلم من اتبع العلم والسنن وإن كان قليل العلم والكتب، ومن خلفَ الكتاب والسنة فهو صاحب بدعة وإن كان كثير العلم والكتب25".

       وقال أبو إسحاق الرقي: "علامة محبة الله: إيثار طاعته ومتابعة رسوله – صلى الله عليه وسلم-26".

   وقال ابن أبي العز الحنفي – رحمه الله -: "والعبادات مبناها على السنة والاتباع لا على الهوى والابتداع27"؛ وقال – رحمه الله -: "وكل من عدل عن اتباع سنة الرسول – صلى الله عليه وسلم – إن كان عالماً بها فهو مغضوب عليه، وإلا فهو ضالّ28".

   وقال ابن الماجشون – رحمه الله -: "سمعت مالكاً يقول: من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة فقد زعم أن محمداً خان الرسالة، لأن الله يقول {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}29، فما لم يكن يومئذ ديناً فلا يكون اليوم دين30".

       وقال أبو بكر عبد الله بن سليمان بن الأشعث – رحمه الله – في قصيدته:

تمسك بحبل الله واتبع الهدى              ولا تـك بدعياً لعلك تفلـحُ

ودن بكتاب الله والسنن التي             أتت عن رسول له تنجُ وتربحُ31

أخي في الله:

خذ ما أتاك به الأخبار من أثر                شبهـاً بشبه وأمثالاً بـأمثال

ولا تميلـن يا هذا إلى بـدع                 تضل أصحابها بالقيل والقال32

نسأل الله – تبارك وتعالى – أن يمنَّ علينا ويرزقنا حسن الاتباع، وحسن العمل، ونسأله أن يجنبنا الزلل في القول والعمل بمنَّه وكرمه، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير مبعوث رحمة للعالمين صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.


1 سورة آل عمران (31-32).

2 رواه مسلم من حديث عائشة – رضي الله عنها – برقم (1718).

3 تفسير ابن كثير (1/477).

4 سورة آل عمران (132).

5 سورة النساء (59).

6 سورة النساء (69).

7 سورة النساء (13).

8 سورة الفتح (17).

9 سورة النساء (14).

10 سورة الأنفال (1).

11 سورة الأنفال (46).

12 سورة النور (48).

13 سورة النور (51-52).

14 سورة الأحزاب (36).

15 رواه البيهقي في شعب الإيمان برقم (9456)؛ وابن أبي عاصم في السنة برقم (37)، وقال الهيثمي: رواه الطبراني في الأوسط ورجاله رجال الصحيح غير هارون بن موسى الفروي وهو ثقة مجمع الزوائد (10/189)؛ وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب برقم (54)؛ وفي ظلال الجنة برقم (37)؛ وحسنه في السلسلة الصحيحة برقم (1620).

16 رواه مسلم في صحيحه برقم (867).

17 سورة التوبة (92).

18 رواه أبو داود في سننه برقم (4607)؛ والنسائي في سننه برقم (1578)؛ وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (2735).

19 الاعتصام للشاطبي (1/101).

20 المصدر السابق (1/81).

21 رواه الدارمي برقم (139).

22 مدارج السالكين (2/486).

23 انظر: مدارج السالكين (2/486)؛ ومفتاح دار السعادة (1/165).

24 مدارج السالكين (2/487).

25 شرح السنة (104).

26 مدارج السالكين (2/487).

27 شرح الطحاوية (37)؛ وانظر مجموع الفتاوى لابن تيمية (4/170).

28 شرح الطحاوية (511).

29 سورة المائدة (3).

30 الاعتصام للشاطبي (1/28).

31 قصيدة ابن أبي داود (1/17)؛ شرح قصيدة ابن القيم (1/459).

32 الانتصار لأصحاب الحديث للسمعاني (14).