حاجتنا إلى الإمام القدوة

حاجتنا إلى الإمام القدوة

 

الحمد الله الواحد القهار، الجليل العظيم، الكبير المتعال، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله الأطهار وصحابته الكرام وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.

أما بعد:

القدوة الحسنة عنصر هامّ في كل مجتمع، فمهما كان أفراده صالحين فهم في أمس الحاجة لرؤية القدوات الحسنة، وقد أمر اللهُ تبارك وتعالى نبيَه صلى الله عليه وسلم بالاقتداء بمن قبله من الأنبياء فقال: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ}(سورة الأنعام:90).، وتشتدّ الحاجة إلى القدوة الحسنة كلما بَعُد الناس عن الالتزام بقيم الإسلام وأحكامه، وتتأكد الحاجة بل تصل إلى درجة الوجوب إذا وُجدت قدواتٌ سيئةٌ فاسدةٌ تُحْسِن عرضَ باطلها.

إن القدوةَ أكثرُ أثرًا وإقناعًا من الكلام النظري مهما كان بليغًا ومؤثرًا، ولعل هذا هو السرُ في إرسال الله تبارك وتعالى رسلاً من البشر عبر التاريخ مع أنه تبارك وتعالى قادر على كل شيء، على أن يلهم الناس شرعه، خاصة أن بشرية الرسل تعلَّلَ بها الجاحدون لرفض الإيمان كما قال تعالى: {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمْ الْهُدَى إِلاَّ أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولاً}(سورة الإسراء:94).، لكن الذي قال عن نفسه: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}(سورة الملك:14).

وأوضح دليل على هذا الأثر ما وقع في الحديبية، كما في الصحيح عن عمر رضي الله عنه قال: فلما فَرغ من قضية الكتاب أي: بنود الصلح قال رسول الله لأصحابه: ((قوموا، فانحروا ثم احلقوا))، قال: فوالله، ما قام منهم رجل حتى قال ذلك ثلاث مرات، فلما لم يقم منهم أحد دخل على أم سلمة، فذكر لها ما لقي من الناس، فقالت أم سلمة رضي الله عنها: يا نبيّ الله، أتحبّ ذلك؟ اخرُج لا تكلّم أحدًا منهم كلمةً حتى تنحر بُدْنك وتدعو حالقك فيحلقك، فخرج فلم يكلّم أحدًا منهم حتى فعل ذلك، نحر بُدْنه ودعا حالقه فحلقه، فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا وجعل بعضهم يحلق بعضًا، حتى كاد بعضُهم يقتل بعضًا غمًّا" رواه البخاري برقم(2581).

إنّ هذا التأثيرَ القويَ والمباشرَ للقدوة يرجع إلى أن الإنسان مفطور على حب التقليد خاصة لمن هو محل ثقة عنده، وكثيرًا ما يكتسب معارفه وخبراته ومهاراته بالتقليد، والمتابع للطفل كيف يحاكي أباه ويتقمص شخصيته وذلك بتقليده؛ لأن التعلم بالمشاهدة أسهلُ وأيسر بل وأسرع، والنفس بطبعها تحبّ الحصول على الشيء بأسهل الطرق وأسرعها ولو كان محرّمًا، لكن الشرع الحنيف والعقل يضبطها بضوابطها الشرعية.

لذا فكان لزاماً على إمام المسجد أن يكون متخلقاً بأخلاق القرآن، عاملاً به ظاهراً وباطناً، فإمام المسجد له دورٌ مهم في قريته وحي مسجده، وله تأثيره الواضح والكبير على المصلين، فهو ذو العلاقات الحميمة المؤثرة بين جيران المسجد، وربط القلوب مع بعضها البعض.

فالإمامة في الصلاة من أولى الوظائف الدينية التي عرفه المسلمون وأجلها قدراً، وأكثرها نفعاً، فقد مارسها النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه، واختار لها بعده أفضل الصحابة أبا بكر وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما، عن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر و عمر))1.

وأهمية الإمام في حيه كالملح للطعام، فلا يُستغنى عنه مطلقاً، فهو المرشد، والموجه، والمعلم، هو المحذر من الشر، والدال على الخير، هو من ينبه على الخطأ ويقول للمخطئ أخطأت وينصحه، ويقول للمحسن أحسنت ويشجعه.

فالإمامة من وظائف الدعوة إلى الله تبارك وتعالى، فإن كتاب الله تبارك وتعالى يعتبر الكتاب الأول للدعوة إلى الله، والإمام هو الذي يسمعه جماعته في المسجد، وإمام المسجد داعية إلى الله تبارك وتعالى بعلمه، وأخلاقه، فهو قدوة جماعته، فبعلمه يقتدون، وبعلمه يهتدون، لأنهم يرونه أقرؤهم لكتاب الله، وأعلمهم بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذلك قُدم عليهم في الإمامة.

كما يرون أنه أبعد الناس عن المعاصي، لعلمه بها، وخوفه على نفسه منها، ومن كان هذا عمله، وهذه وظيفته، فإنه لزاماً عليه أن يقوم بأعبائها على أكمل وجه، وأن يراقب الله تبارك وتعالى في علانيته وسره، ويتحضر الأمانة التي حملها ويستحضر رقابة الله تبارك وتعالى عليه وقول الله تبار وتعالى: {إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا}(سورة النساء:1).، وقوله سبحانه: {إِن تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا}(سورة الأحزاب:54).، وأن يعلم أنه ليس المقصود من الإمام أداء الصلوات فحسب وينتهي دور الإمام بذلك.

لا، بل عليه مسؤولية عظيمة، وأمانة كبيرة، لابد أن يحقق أهدافها السامية، ليُرضي ربه تبارك وتعالى ويبرئ ذمته أمام خالقه جل وعلا، ألا وهو دور إمام المسجد، في توعية أهل الحي بالحقوق الشرعية، والآداب الإسلامية، وإنقاذ المجتمع من الشرك، وتبصيرهم بما يُحاك ضدهم من لدن أعداء الملة والدين، ويكشف لهم الضلالات التي تعتقدها الفرقة الضالة.

إذاً فالقدوة الحسنة هي من أنفع الوسائل وأقربها للنجاح وأكثرها نجاحاً في حياة المربين، وتظل كلمات المربين مجرد كلمات ويظل المنهج مجرد حبراً علي ورق، ويظل معلقاً في الفضاء، إذا لم يتحول إلى حقيقة واقعة، وما لم يترجم إلى تصرفات وسلوك ومعايير ثابتة عند هذا القدوة، عندئذ يتحول المنهج إلى حقيقة واقعة، وتتحول الكلمات إلى سلوك وأخلاق عندئذ فقط تؤتي الكلمات ثمارها في حياة الإمام القدوة.

ولقد علم الله تبارك وتعالى وهو يضع ذلك المنهج العظيم أنه لابد من قلب إنسان يحمل هذا المنهج ويحوله إلى حقيقة، لكي يعرف الناس أنه حق حتى يتبعوه، فلا بد إذن من قدوة.

فعُلم بذلك أن القدوة الصالحة عنصر أساسي ذا أهمية بالغة في بناء الأجيال وتربيتهم.

كما أن هذه القدوة الصالحة ليست وحدها الكفيلة في بناء الأشخاص وتربيتهم فهناك جوانب أخري يجب مراعتها في العملية التربوية إلا أن هذه الجوانب الأخرى لا تؤتى ثمارها أيضاً بغير القدوة الصالحة، بل قد تأتي بثمار عكسية إذا وجدت القدوة السيئة.

نسأل الله تبارك وتعالى أن يمن علينا بطاعته ورضاه وأن يغفر لنا وأن يرزقنا حسن العمل على هدي سيد ولد عدنان والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم


1 رواه الترمذي برقم(3662) وقال أبو عيسى: هذا حديث حسن؛ والحاكم في المستدرك برقم(4451), للإمام محمد بن عبدالله أبو عبدالله الحاكم النيسابوري, تحقيق: مصطفى عبد القادر عطا, دار الكتب العلمية – بيروت, ط1, سنة النشر: 1411هـ – 1990م؛ والطبراني في المعجم الكبير برقم(8426), للإمام سليمان بن أحمد بن أيوب أبو القاسم الطبراني, تحقيق: حمدي بن عبدالمجيد السلفي, مكتبة العلوم والحكم – الموصل, ط2, سنة النشر:1404هـ – 1983م؛ وصححه الألباني في صحيح الترمذي برقم(2895).