لبث المرأة في المسجد
الحمد لله الذي خضعت له مخلوقاته من الجن والإنس والشياطين، والسماوات بما فيهن وما فوقهن وتحتهن والأرضين، جعل المساجد أشرف البقاع للعابدين، وجعل لها أحكاماً ولروادها آداباً ينبغي للمؤمنين بالله حقاً تعلمها والالتزام بها ليفوزوا برضوان ربهم ونعيمه المقيم، وصلاة الله وسلامه على نبيه الكريم، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه القويم…أما بعد:
فلئن كان الاعتكاف في المسجد يصدر من الرجال -غالباً- فإن النساء لهن حق فيه، ومن المعلوم أنه يجوز للمرأة الاعتكاف في المسجد، وحضور النساء للمساجد وجلوسهن فيه، هو موضع البحث في هذه المسألة، فنقول مستعينين بالله تعالى:
يجوز للمرأة أن تخرج إلى المسجد وتصلي مع الجماعة خلف صفوف الرجال، فإذا حضرت فلتكن متسترة محتشمة، غير متزينة ولا متعطرة، قد أمنت الفتنة وأذن لها زوجها.
والأدلة على هذا ما يلي:–
أولاً:
ما ثبت في الصحيحين عن ابن عمر -رضي الله عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إِذَا اسْتَأْذَنَكُمْ نِسَاؤُكُمْ بِاللَّيْلِ إِلَى الْمَسْجِدِ فَأْذَنُوا لَهُنَّ»1. ولهما –رحمهما الله-: «ائْذَنُوا لِلنِّسَاءِ بِاللَّيْلِ إِلَى الْمَسَاجِدِ»2.
الشاهد: "ائذنوا للنساء" و: "فأذنوا لهن".
وجه الدلالة:
حيث أمر -صلى الله عليه وسلم- الرجال أن يأذنوا لنسائهم إذا استأذنَّهم بالسير ليلاً إلى المساجد، مع أنه مظنة الخوف، فإذا كان كذلك ففي النهار أولى، وهذا يدل على أنه يجوز للمرأة أن تحضر جماعة المصلين في المسجد وتصلي معهم؛ إذ هي لا تستأذن إلا لذلك في الأصل.
ثانياً:
ما جاء في الصحيحين أيضاً- عن ابن عمر –رضي الله عنهما- قال: «كَانَتْ امْرَأَةٌ لِعُمَرَ تَشْهَدُ صَلَاةَ الصُّبْحِ وَالْعِشَاءِ فِي الْجَمَاعَةِ فِي الْمَسْجِدِ، فَقِيلَ لَهَا لِمَ تَخْرُجِينَ وَقَدْ تَعْلَمِينَ أَنَّ عُمَرَ يَكْرَهُ ذَلِكَ وَيَغَارُ؟! قَالَتْ: وَمَا يَمْنَعُهُ أَنْ يَنْهَانِي؟ قَالَ: يَمْنَعُهُ قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لَا تَمْنَعُوا إِمَاءَ اللَّهِ مَسَاجِدَ اللَّهِ»3. ولأبي داود مثله بزيادة: «وَلَكِنْ لِيَخْرُجْنَ وَهُنَّ تَفِلَاتٌ»4.
الشاهد: "لا تمنعوا إماء الله".
وجه الدلالة:
أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عن منع النساء من بيوت الله، وهذا يدل على أن منع النساء بلا سبب من المساجد محرم شرعاً، ومع هذا فقد أمرن أن يخرجن غير متزينات، ولا متطيبات، ويشهد لهذا أن زينب امرأة ابن مسعود قالت: قال لنا رسول الله -صلى الله عليه وسلَّم-: «إِذَا شَهِدَتْ إِحْدَاكُنَّ الْمَسْجِدَ فَلَا تَمَسَّ طِيباً»5.
ثالثاً:
عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «لَوْ تَرَكْنَا هَذَا الْبَابَ لِلنِّسَاءِ». قَالَ نَافِعٌ: "فَلَمْ يَدْخُلْ مِنْهُ ابْنُ عُمَرَ حَتَّى مَاتَ"6.
الشاهد: "هذا الباب للنساء".
وجه الدلالة:
أن النبي -صلى الله عليه وسلم- بين لأصحابه رغبته في تخصيص باب من المسجد للنساء، فامتثل الصحابة أمره. وهذا يدل على أن النساء كن يأتين إلى مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بكثرة؛ لأن ذلك جائز لهن.
رابعاً:
عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ يُصَلِّي الصُّبْحَ بِغَلَسٍ7 فَيَنْصَرِفْنَ نِسَاءُ الْمُؤْمِنِينَ لَا يُعْرَفْنَ مِنْ الْغَلَسِ، أَوْ لَا يَعْرِفُ بَعْضُهُنَّ بَعْضًا»8.
الشاهد: "فينصرفن نساء المؤمنين".
وجه الدلالة:
أن نساء المؤمنين كن يصلين في المسجد مع الجماعة في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- معه في مسجده –عليه الصلاة والسلام.
خامساً:
عَن أَبِي قَتَادَةَ -رضي الله عنه- عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «إِنِّي لَأَقُومُ فِي الصَّلَاةِ أُرِيدُ أَنْ أُطَوِّلَ فِيهَا، فَأَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ فَأَتَجَوَّزُ فِي صَلَاتِي كَرَاهِيَةَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمِّهِ»9.
الشاهد: قوله: "فأتجوز في صلاتي كراهية أن أشق على أمه".
وجه الدلالة:
أن النبي-صلى الله عليه وسلم- كان يخفف صلاته مراعاة للنساء اللاتي يصلين خلفه، وهذا يدل على أن صلاة المرأة في المسجد مع الجماعة، ولبثها لانتظار الصلاة جائز.
سادساً:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ –رضي الله عنه- أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- انْصَرَفَ مِنْ الصُّبْحِ يَوْمًا فَأَتَى النِّسَاءَ فِي الْمَسْجِدِ فَوَقَفَ عَلَيْهِنَّ فَقَالَ: «يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ مَا رَأَيْتُ مِنْ نَوَاقِصِ عُقُولٍ وَدِينٍ أَذْهَبَ لِقُلُوبِ ذَوِي الْأَلْبَابِ مِنْكُنَّ فَإِنِّي قَدْ رَأَيْتُكُنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَتَقَرَّبْنَ إِلَى اللَّهِ مَا اسْتَطَعْتُنَّ»10.
الشاهد: "فأتى النساء في المسجد فوقف عليهن" .
وجه الدلالة:
أن هذا الحديث دليل على جواز لبث النساء في المسجد بعد الصلاة، لاستماع الوعظ ونحوه ، وأن هذا اللبث مطلوب شرعاً، لما فيه من المنفعة لهن.
وكل هذه الأدلة تؤكد أن للمرأة الحق في أن تصلي مع الجماعة بالمسجد، وأن تلبث فيه، بشرط أن يأذن لها زوجها، ولا يحل لزوجها منعها إلا إذا خاف عليها أو منها ضرراً.
ولو قال قائل: النساء في زمننا هذا يغلب عليهن التزين والتجمل، ولو قيل بخروجهن للمساجد، لحصلت مفاسد عظيمة في المجتمع، وقد ورد أن عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تَقُولُ: "لَوْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَأَى مَا أَحْدَثَ النِّسَاءُ لَمَنَعَهُنَّ الْمَسْجِدَ كَمَا مُنِعَتْ نِسَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ"11. وأما حضورهن في عهد الرسول -صلى الله عليه وسلم- فذلك خاص به دون غيره. فالجواب على الاستدلال بقول عائشة أنه لا يعارض الأحاديث الصحيحة؛ لأنه قول صحابي، ثم إنها لا تريد -رضي الله عنها- إلغاء هذا الحكم الشرعي، لكنها تبين أنه لو رأى -صلى الله عليه وسلم- حال النساء المحدثات -وذلك في زمنها رضي الله عنها- فأين هي من نساء زماننا هذا؟! نسأل الله لهن الهداية- لو رآهن لمنعهن المساجد لحدثهن، كما ورد عنها -رضي الله عنها- أنها قالت: "كُنَّ نِسَاء بَنِي إِسْرَائِيل يَتَّخِذْنَ أَرْجُلًا مِنْ خَشَب يَتَشَرَّفْنَ لِلرِّجَالِ فِي الْمَسَاجِد، فَحَرَّمَ اللَّه عَلَيْهِنَّ الْمَسَاجِد، وَسُلِّطَتْ عَلَيْهِنَّ الْحَيْضَة"12.
وأما القول: بأن ذلك خاص برسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيحتاج إلى دليل ناقل عن الأصل، وليس هناك دليل، ثم أن عائشة لم يؤثر عنها منع النساء عن المساجد، ولو أثر عنها لم يك حجة، لمخالفته الأحاديث الصريحة13.
وبهذا يظهر لك صحة القول بجواز حضور النساء ليشهدن الصلوات في المساجد مع المسلمين وهن متحليات بالآداب الإسلامية العظيمة.
نسأل الله أن يلهمنا رشدنا، ويسدد على طريق الخير طريقنا، وأن يهدي المسلمين والمسلمات، إنه وليُّ الهداية والتوفيق.
والله أعلم، وصلى الله وسلَّم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، والحمد لله رب العالمين14.
1 رواه البخاري -818- (3/374) ومسلم -669- (2/442). واللفظ للبخاري.
2 البخاري -848- (3/419) ومسلم -671- (2/444).
3 رواه البخاري -849- (3/420) ومسلم -868- (2/441), وهذا لفظ البخاري.
4 رواه أبو داود -478- (2/175) وصححه الألباني في السنن برقم(565).
5 رواه مسلم – (2/447).
6 رواه أبو داود -484- (2/182), وصححه الألباني في صحيح أبي داود برقم(462/1/462).
7 الغَلَس: ظلمة آخر الليل, والتَّغْليس السَّيْرُ بغلس, انظر: مختار الصحاح (1/228).
8 رواه البخاري -825- (3/383).
9 رواه البخاري -666- (3/126).
10 رواه أحمد بهذا اللفظ -8507- (8/49) وأصله في الصحيح.
11 رواه البخاري –822-(3/378) ومسلم -676- (2/449).
12 أخرجه عبد الرزاق في مصنفه برقم-5114-(3/149) وإسناده صحيح, قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "هذا و إن كان موقوفا فحكمه حكم الرفع لأنه لا يقال بالرأي"فتح الباري لابن حجر – (3/270), روضة المحدثين (1/331).
13 انظر: نيل الأوطار للشوكاني(5/33).
14 استفيد الموضوع(بتصرف) من كتاب(أحكام المساجد في الشريعة الإسلامية – (1/205).