كيف تزيد عمرك الإنتاجي

 

 

 

 

كيف تزيد عمرك الإنتاجي

الحمد لله رب العالمين، صاحب الفضل والعطاء، والخير الذي لا ينقطع، والنعم التي لا تحصى، أحمده سبحانه حمداً يكون لنا ذخراً يوم تنقطع الآمال، ونجاة يوم الرجوع إليه والمآل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الكبير المتعال، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله النبي الهادي والسراج المنير، صلى الله عليه وعلى آله وصحابته وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم اللقاء والنشور، أما بعد:

أيها الناس: لقد كانت الناس في الأمم الغابرة تطول أعمارهم حتى يصل عمر بعضهم إلى الألف عام كما حكى الله ذلك عن نوح – عليه السلام – أنه لبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً يدعوهم إلى الله – سبحانه – {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ}1، فهذه سنين الدعوة، وذكر كثير من أهل التفسير أنه عاش بعد ذلك سنين طويلة2 بعد الطوفان.

أما هذه الأمة فيقول الرسول الكريم   عن أعمارها كما في حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: ((أعمار أمتي ما بين ستين إلى سبعين، وأقلهم من يجوز ذلك))3.

ولا شك أن أصحاب تلك الأمم كانوا متمكنين من تكثير أعمالهم الصالحة؛ لطول أعمارهم،فيكونون أكثر منا أعمالاً وأعماراً، لكن الله – سبحانه – لا يظلم الناس شيئاً، وكيف ذلك وهو القائل: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ}4،

لذلك عوَّض الله – تعالى – هذه الأمة المحمدية عن ذلك بأن جعل لها بعض الأقوال والأعمال القليلة مما يجازي عليه بالأجور العظيمة الهائلة {فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}5.

“ذكر بعض المفسرين – رحمة الله تعالى عليهم – أنه كان في الزمن الأول نبي يقال له “شمسون”- عليه السلام – قاتل الكفرة في دين الله ألف شهر، ولم ينزع الثياب والسلاح! فقالت الصحابة: يا ليت لنا عمراً طويلاً حتى نقاتل مثله، فنزلت هذه الآية، وأخبر أن ليلة القدر خير من ألف شهر، الذي لبس السلاح فيها شمسون في سبيل الله، والظاهر أن ذلك الرجل الذي ذكره الواحدي6 هو شمسون هذا”7.

ولعل مما يطيل في العمر، ويضيف لك – أيها الإنسان المسلم – أعماراً إلى عمرك؛ العمل الصالح المخلص لله – تعالى – في ليلة القدر حيث قال المفسرون: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ}8 وهي ثلاث وثمانون سنة وأربعة أشهر، “ومعناه: عَملٌ صالح في ليلة القدر خير من عَمِل ألف شهر ليس فيها ليلة القدر”9.

فاعمل على مهل فإنك ميتٌ وامهد لنفسك أيها الإنسان

وعن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله  : ((إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته علماً علمه ونشره، وولداً صالحاً تركه، أو مصحفاً ورثه، أو مسجداً بناه، أو بيتاً لابن السبيل بناه، أو نهراً أجراه، أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته، تلحقه من بعد موته))10.

فهذه أعمال سهلة ميسرة أيها المسلم، تموت وتنقطع عن هذه الحياة، ويُجرى لك أجرها إلى يوم القيامة، تُعلم الناس مما علمك الله، أو تحسن تربية أولادك، أو تشتري مصحفاً وتضعه في بيت من بيوت الله – تعالى -، أو تبني لله مسجداً إن استطعت إلى ذلك سبيلاً، وكم هم المستطيعون في هذه الأيام، إنهم كثر والله، لكن {وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}11،

أو تبني بيتاً لابن السبيل من حجاج أو طلاب علم أو غيرهم، أو تُجري نهراً، أو تتصدق بصدقة خالصة لوجه الله، فهذا كله يصبُّ به الله عليك الأجر صباً، لكن أين المشمرون يا عباد الله؟

عن أوس بن أوس الثقفي – رضي الله عنه – قال: سمعت رسول الله يقول: ((من غسّل يوم الجمعة واغتسل، وبكر وابتكر، ومشى ولم يركب، ودنا من الإمام فاستمع ولم يلغ؛ كان له بكل خطوة عمل سنة أجر صيامها وقيامها))12، الله أكبر، بكل خطوة عمل سنة أجر صيامها وقيامها، فلو أنك تخطو مئة خطوة فسيكون حالك كأنك عُمّرت مائة سنة صائماً فيها قائماً، طوبى والله لمن كان بيته عن المسجد بعيداً، وهو يمشي إليه في كل جمعة وجماعة، درجات عالية، وأجور عظيمة لا يعلمها إلا الواحد الأحد سبحانه.

وعن عبد الله بن الزبير – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله  : ((صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام، وصلاة في ذاك المسجد أفضل من مئة صلاة في هذا)) يعني في مسجد المدينة13، وهذا مما يزيد عمرك الإنتاجي إن اجتهدتَ وحرصت وصبرت {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ}14.

وقال رسول الله  : ((رباط يوم في سبيل الله خير من ألف يوم فيما سواه من المنازل))15، وفي صحيح مسلم عن سلمان – رضي الله عنه – أن النبي   قال: ((رباط يوم وليلة في سبيل الله خير من صيام شهر وقيامه، ومن مات مرابطاً أجري عليه عمله، وأجري عليه رزقه في الجنة، وأمن الفتان)) يعني منكراً ونكيراً، فهذا في الرباط وهو الحراسة، فكيف في الجهاد ومصاولة الأعداء؟ إن الأجر لأعظم، والثواب لأكبر عند من لا يغادر صغيرة من البر، ولا كبيرة من الحسنات؛ إلا أحصاها {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ}16.

ومما يزيد في العمر الإنتاجي للإنسان المسلم: صلة الرحم فعن أنس بن مالك – رضي الله عنه – قال: سمعت رسول الله   يقول: ((من سره أن يبسط له في رزقه، أو ينسأ له في أثره، فليصل رحمه))17 قال في تحفة الأحوذي: “فالدعاء للوالدين وبقية الأرحام يزيد في العمر.. “18؛ لأن صلة الأرحام تقوي رابطة الجماعة المسلمة، وتشد أزرها، وتبث روح المودة والرحمة والألفة بين أفرادها؛ لهذا كان لأصحابها ذلك الفضل الكبير، وكان لمن قطع تلك الرحم الإثم المستطير لعناً وطرداً من رحمة أرحم الراحمين {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ* أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ}19؛ لأنهم لم يرحَموا أصلاً، فكان الجزاء من جنس العمل {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ}20.

وعن ثوبان – رضي الله عنه – عن النبي   قال: ((لا يرد القدر إلا الدعاء، ولا يزيد في العمر إلا البر))21 و”البر هو كل عمل صالح يرضى الله – تعالى -“22، “إما بمعنى أنه يبارك له في عمره، فييسر له في الزمن القليل من الأعمال الصالحة مالا يتيسر لغيره من العمل الكثير، فالزيادة مجازية”23، “وإما لأنه يزاد له في العمر حقيقة بمعنى أنه لو لم يكن باراً لقصر عمره عن القدرالذي كان إذا بر”24، وهذا هو الأقرب – والله أعلم – لقوله سبحانه: {يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ}25، وجاء في بعض الشروح: قوله ((لا يزيد في العمر إلا البر)) قال المغيث: قيل أراد زيادة الرزق فقد روى: أوحى إلى موسى أن يموت عدوك، ثم رآه موسى بعد، فقال: يا رب وعدتني بإماتته، فقال: قد أفقرته، ولذا قيل الفقر هو الموت الأكبر، فبقياسه سمى الغنى حياة، وزيادة عمر، وقيل أراد أنه يوفق لصلاة الليل فإن النوم أخ الموت، وقيل يخلد له الثناء الحسن فإنه العمر الثاني، وقيل قضى له أن وصل رحمه فعمره كذا وإلا فكذا، وقيل هو على ظاهره فإنه يمحو الله ما يشاء ويثبت”26ا. هـ.

وجاء في حاشية السندي ((لا يرد القدر إلا الدعاء، ولا يزيد في العمر إلا البر)) قال:” إما لأن البار ينتفع بعمره وإن قل أكثر مما ينتفع به غيره وإن كثر، وإما لأنه يزاد له في العمر حقيقة بمعنى أنه لو لم يكن باراً لقصر عمره عن القدر الذي كان إذا بر، لا بمعنى أنه يكون أطول عمراً من غير البار،ٍ ثم التفاوت إنما يظهر في التقدير المعلق لا فيما يعلم الله – تعالى – أن الأمر يصير إليه، فإن ذلك لا يقبل التغير، وإليه يشير قوله – تعالى -: {يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ}27

قال الغزالي: فإن قيل فما فائدة الدعاء مع أن القضاء لا مرد له؟ فاعلم أن من جملة القضاء رد البلاء بالدعاء، فإن الدعاء سبب رد البلاء، ووجود الرحمة، كما أن البذر سبب لخروج النبات من الأرض، وكما أن الترس يدفع السهم، كذلك الدعاء يرد البلاء.انتهى، قلت: يكفي في فائدة الدعاء أنه عبادة وطاعة، وقد أُمِرَ به العبد، فكون الدعاء ذا فائدة لا يتوقف على ما ذكر”28.

أيها المسلمون: كذلك فإن مما يزيد في عمر المسلم الإنتاجي: ما أخبرنا به أيضاًالنبي   بقوله: ((حسن الخلق، وحسن الجوار؛ يعمران الديار، ويطيلان الأعمار))29، وفي هذا بيان واضح لعظم منزلة حسن الخلق، ورعاية الجار، لكن عباد الله: أليس حسن الجوار من حسن الأخلاق؟ فلماذا أُفرِدَت بالذكر هنا؟

إنها رسالة صريحة إلى الذين يؤذون جيرانهم خاصة، وغيرهم عامة؛ أن يتأملوا كيف خص الرسول   مِن حسن الأخلاق حسنَ الجوار، وهذا كقوله – تعالى -: {حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى}30، فصلاة العصر هي من الصلوات، لكنه خصها بالذكر لأهميتها، وقلة من يحافظ عليها، وكذلك هنا خص حسن الجوار لأهميته، وقلة من يراعيه من الناس، والله المستعان، قال رسول الله  : ((ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه))31.

فانظروا عباد الله كيف رحم الله هذه الأمة لقصر أعمارها، وإرادة الخير بأهلها،واحرص أيها الأخ الحبيب على تعلم هذه الأعمال التي تزيد في عمرك، ثم بادر بالمسارعة إلى العمل بها، ونشرها بين المسلمين، فالأخ يعلم إخوته، والزوج زوجه، والأب أولاده،والمعلم تلامذته، فمن دل على هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، ووالله إن المحروم الخاسر من علم هذا الثواب العظيم، والخير الكبير؛ ثم نام عنه، وتكاسل ونكص على عقبيه.

عبد الله: إنها والله فرصة لا تعوض، وأجور لا تقدر بثمن، فلا يفتك هذا العرض المغري؛ فالعمر قصير، والنعم لا تدوم، والصحة لا تثبت على حال، ومن المحال دوام الحال:

إذا هبّت رياحك فاغتنمهـا فعقــبى كلّ خافقةٍ سكون
ولا تقعد عن الإحسان فيها   فلا تدري السكون متى يكون

 

اللهم وفقنا لحسن طاعتك، والتعرض لنفحات جودك، والفوز بحسن موعودك يا مجيب الدعاء.


1 سورة العنكبوت (14).

2 انظر تفسير الطبري (20/17)، وتفسير البغوي (4/170) وغيرهما.

3 رواه الترمذي في سننه برقم (3550)، وحسنه الألباني في صحيح سنن الترمذي.

4 سورة فصلت (46).

5 سورة الحجرات (8).

6 الواحدي صاحب كتاب أسباب النزول.

7 عمدة القاري شرح صحيح البخاري (17/161).

8 سورة القدر (3).

9 تفسير البغوي (ج8/ص491).

10 أخرجه ابن ماجة في سننه برقم (242)، وحسنه الألباني في مشكاة المصابيح برقم (254).

11سورة التغابن (16).

12 رواه أبو داود في صحيحه برقم (345)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود برقم (373).

 13أخرجه ابن حبان في صحيحه برقم (1620)، وقال شعيب الأرناؤوط: إسناده صحيح على شرط مسلم.

14 سورة فصلت (35).

15 أخرجه أبو داود في السنن برقم (1667)، وحسنه الألباني.

16 سورة فصلت (46).

17 رواه البخاري برقم (2067)، ومسلم برقم (6687).

18 تحفة الأحوذي (6/290).

 19سورة محمد (22-23).

20 سورة فصلت (46).

21 أخرجه الحاكم في المستدرك برقم (1814)، وحسنه الألباني في شرح العقيدة الطحاوية (1/150).

22 الفتح الرباني/ الساعاتي (أجزاء منه) (2/23).

23 تحفة الأحوذي (6/290).

24 حاشية السندي على ابن ماجه (1/81).

25 سورة الرعد (39).

26 شرح سنن ابن ماجة للسيوطي والهلوي والكنكهوي (ج2/ص360).

27 سورة الرعد (39).

28 حاشية السندي على ابن ماجه (1/81).

29 رواه أحمد في المسند برقم (25259)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة مختصرة برقم (519).

30 سورة البقرة (238).

31 رواه البخاري برقم (6015)، ومسلم برقم (2625).