الأعذار المبيحة للفطر

الأعذار المبيحة للفطر

 

الحمد لله الذي رضي من عباده اليسير من العمل، وتجاوز عنهم الكثير من الزلل، وخص من شاء بهدايته وتوفيقه نعمة منه وفضلاً، أحمده سبحانه وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ شهادة موقنٍ بها، آخذٍ بمقتضاها قولاً وعملاً، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، رحمة العالمين، وقدوة العاملين، وحجة السالكين، لا نبتغي إلى السعادة بغير طريقه أملاً، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.. أما بعد:

فإن شريعة الإسلام هي الشريعة الخالدة الباقية إلى قيام الساعة من غير تحريف ولا تأويل، وقد أخبر الله أنه حفظها بحفظ كتابه الكريم الذي هو أصلها ومصدرها العظيم، وما كانت لتكون كذلك إلا لما فيها من مسايرة للفطرة البشرية التي خلقها الله وشرع لها شريعة تناسبها، ولما في شريعة الإسلام من اليسر والسماحة والسهولة، واعتبار الضرورات والأعذار أسباباً لترك بعض الشرائع ثم قضائها أو الإتيان ببديلها، تخفيفا من الله ورحمة بعباده، ومن تلك الأعذار الشرعية التي تبيح ترك بعض العبادات إلى حين آخر: ما يتعلق بالأعذار المبيحة للفطر في رمضان..

فالأعذار المبيحة للفطر خمسة، هي:

1- الحيض.

2- والنفاس.

3- والمرض.

4- والسفر.

5- والاضطرار.

أولاً:الحيض:

يجب الإفطار على الحائض، وعليها القضاء، لحديث عائشة -رضي الله عنها- قالت:"كنا نحيض على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فنؤمر بقضاء الصوم، ولا نؤمر بقضاء الصلاة"1

ثانياً: النفاس:

والمرأة النفساء مثل الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة لحديث عائشة السابق.

ثالثاً: المرض:                      

يجوز للمريض الفطر إذا خشي ازدياد مرضه، أو تأخر شفائه، لقوله تعالى: {فَمَنَ كانَ مِنكُم مَريضاً أو على سفرٍ فعِدةٌ مِن أيامِ أُخر}( البقرة (184).

وعلى المفطر بسبب المرض قضاء ما أفطره من أيام، وإن صح المريض أثناء صومه فلا جناح عليه أن يواصل الإفطار بقية يومه.

وإذا صام المريض صح صيامُه مع الكراهة، لأنه أعرض عن الرخصة التي يحبها الله.

وأما المرض الذي يجوز فيه الفطر، فإنهم اختلفوا فيه أيضاً، فذهب قوم إلى أنه المرض الذي يلحق من الصوم فيه مشقة وضرورة، وبه قال مالك‏.‏

وذهب قوم إلى أنه المرض الغالب، وبه قال أحمد‏.‏ وقال قوم: إذا انطلق عليه اسم المريض أفطر‏.‏ والصواب ما عُد مرضاً عرفاً لقوله تعالى: {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}(184) سورة البقرة. فالآية لم تخصص مرضاً معيناً، فيرجع في ذلك إلى العرف، فإذا أطلق العلماء الشيء ولم يحددوه فيرجع في ذلك إلى العرف، كما أن الكتاب والسنة إذا أطُلق الشيء فيهما وليس له حد شرعي فإن مرجعه إلى العرف.        

كما قيل :

وكل ما أتى ولم يحددِ              بالشرع كالحرز فبالعرف احددِ2

رابعاً: السفر:

السفر من مبيحات الإفطار، فيرخص للمسافر أن يفطر إذا سافر مسافة القصر، وهو ما يُعد في العرف سفراً، ولو سافر على وسيلة مريحة كالطائرة مثلاً، فله الفطر، وعليه القضاء لأن العلة في إفطار المسافر هي السفر، وقد تحقق كما قال تعالى: {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}(184) سورة البقرة.

وإن صام المسافر أجزأه عند الجمهور، ومذهب أهل الظاهر أن المسافر إذا صام لا يجزيه، وأن فرضه هو أيام أخر،‏ أخذاً بظاهر قوله تعالى: {فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}(184) سورة البقرة، وحمله الجمهور على المجاز فيكون التقدير: فأفطر، فعدة من أيام أخر.

واستدل الجمهور بما ثبت عن أنس -رضي الله تعالى عنه- قال: ‏"‏سافرنا مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في رمضان فلم يعب الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم‏"‏3 وبما ثبت عنه أيضاً أنه قال‏:‏ كان أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يسافرون فيصوم بعضهم ويفطر بعضهم"4.

واستدل أهل الظاهر بما ثبت عن ابن عباس: ‏"‏أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خرج إلى مكة عام الفتح في رمضان، فصام حتى بلغ الكديد، ثم أفطر فأفطر الناس‏"5‏.

وكانوا يأخذون بالأحدث فالأحدث من أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم‏- .‏

فقالوا‏:‏ وهذا يدل على نسخ الصوم‏.‏ وقال‏ ابن عبد البر:‏ "والحجة على أهل الظاهر إجماعهم على أن المريض إذا صام أجزأه صومه‏"6.‏

والفطر في حق المسافر أفضل لأن في ذلك عمل بالرخصة، والله يحب أن تؤتى رخصة كما تؤتى عزائمه.

ويشهد لهذا حديث حمزة بن عمرو الأسلمي الذي خرجه مسلم أنه قال: ‏‏"يا رسول الله أجد فيَّ قوة على الصيام في السفر، فهل عليَّ من جناح‏؟‏ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ (هي رخصة من الله فمن أخذ بها فحسن، ومن أحب أن يصوم فلا جناح عليه)‏7 وخاصة إذا كان الصوم يضره، أو كان في مواجهة عدو.

وقد يكون الصوم في حقه أفضل إذا كان يثقل عليه القضاء.

وقيل هما على السواء، لحديث عائشة قالت: ‏"‏سأل حمزة بن عمرو الأسلمي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن الصيام في السفر فقال‏: ‏(إن شئت فصم وإن شئت فأفطر‏)8 خرجه مسلم‏.‏

"وأما ما ورد من قوله عليه الصلاة والسلام: (‏ليس من البر الصوم في السفر)‏‏9 ومن أن آخر فعله عليه الصلاة والسلام كان الفطر، فيوهم أن الفطر أفضل، لكن الفطر لما كان ليس حكماً، وإنما هو فعل مباح عسر على الجمهور أن يضعوا المباح أفضل من الحكم‏"10.‏

وبقي أن نعرف أن المريض والمسافر إذا ماتا قبل أن يتمكنا من القضاء لا يُصام عنهما، قال في العناية شرح الهداية:

"وقوله: وإن مات المريض أَو المسافر وهما على حالهما -أَي من المرض والسفر- لم يلزمهما القضاء، لأَن اللَّه تعالى أَوجب عليهما القضاء في عدة من أَيام أخر، و لم يدركا عدة من أَيام أخر"11

خامساً: الاضطرار:

الاضطرار: إذا اضطر الصائم إلى الإفطار لأي سبب من الأسباب كالعطش الشديد الضار بالصحة، أو أكره على تناول المفطر، فإنه يفطر بقدر ما يدفع عنه الهلاك والضرر، ويواصل صومه، وعليه قضاؤه.

والقاعدة الشرعية: ( الضرورات تبيح المحظورات ) و( الضرورة تقدر بقدرها).

ويلحق بهذا الصنف ما يلي:

أ –  الكبير السن الذي لا يطيق الصوم فله أن يفطر ويطعم عن كل يوم مسكيناً.

قال تعالى: {وعلى الذين يطيقونهُ فديةٌ طعامُ مسكينٌ} البقرة:(184).

وقال ابن عباس: "هي للشيخ الكبير والمرأة الكبيرة، لا يستطيعان أن يصوما فيطعمان مكان كل يوم مسكيناً"12.

ب – ومثل الذين لا يطيقون الصوم المريض الذي لا يرجى برؤه، فيرخص له في الإفطار ويطعم عن كل يوم مسكيناً.

ج – ويجوز للحامل والمرضع الإفطار إذا خافتا على نفسهما أو ولديهما الضرر.

لقوله -صلى الله وعليه وسلم-: (إن الله -عز وجل- وضع عن المسافر الصوم وشطر الصلاة وعن الحبلى والمرضع)13 وعليهما القضاء والإطعام.

وذلك لأن لهما شبهين: شبه بالمريض، وشبه بمن لا يطيق الصوم بسبب إجهاده، فلشبههما بالمريض لزمهما القضاء، ولشبههما بمن لا يطيق لزمها الإطعام.

د- وللإنسان الفطر لإنقاذ حريق، أو غريق ونحوهما، وعليه القضاء بعد ذلك.

هذا وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.


1 – صحيح مسلم – (ج 2 / ص 232 –  508)

2 – من منظومة  في أصول الفقه للشيخ ابن عثيمين.

3 – صحيح البخاري – (ج 7 / ص 41 – 1811) وصحيح مسلم – (ج 5 / ص 438 – 1880)

4 – المعجم الكبير للطبراني – (ج 15 / ص 293)

5 – صحيح البخاري – (ج 7 / ص 36 – 1808) وصحيح مسلم – (ج 5 / ص 433 – 1875)

6 – بداية المجتهد – (ج 1 / ص 237) بتصرف

7 – صحيح مسلم – (ج 5 / ص 451 – 1891)

8 – صحيح البخاري – (ج 7 / ص 34 – 1807) وصحيح مسلم – (ج 5 / ص 449 – 1889)

9 – صحيح البخاري – (ج 7 / ص 39 – 1810) وصحيح مسلم – (ج 5 / ص 437 – 1879) واللفظ للبخاري.

10 –  بداية المجتهد – (ج 1 / ص 237) بتصرف

11 –  العناية شرح الهداية – (ج 3 / ص 314)

12 – صحيح البخاري – (ج 13 / ص 444- 4145)

13 – سنن النسائي – (ج 8 / ص 10 – 2276)  ومسند أحمد – (ج 41 / ص 278 – 19438) وحسنه الألباني في صحيح سنن النسائي – (ج 5 / ص 459)