لكل دين خلق
اللهم لك الحمد حتى ترضى، ولك الحمد إذا رضيت، ولك الحمد بعد الرضا، اللهم لك الحمد على أن جعلتنا لك مسلمين، ولخير الأمم منتمين، وبسيد الأنبياء والرسل مؤمنين، أما بعد:
أيها الإخوة المسلمون:
لقد أكرمنا الله – تعالى – بهذا الدين العظيم، هذا الدين الذي لا يحمل إلا مكارم الأخلاق، ولا يدعو إلا إلى جميل الصفات والخصال، إنه جنة فيها من كل زوج بهيج.
وما أبدع قول ابن القيم – رحمه الله – حين قال: "وكذلك عشق العلم النافع، وعشق أوصاف الكمال من الكرم والجود، والعفة والشجاعة، والصبر ومكارم الأخلاق؛ فإن هذه الصفات لو صورت صوراً لكانت من أجمل الصور وأبهاها، وإن من تلك الأخلاق الفاضلة التي دعا إليها، وحث عليها، ومدح أصحابها: خلُق الحياء"1
وقد قال العلماء: "حقيقة الحياء خُلق يبعث على ترك القبيح، ويمنع من التقصير في حق ذي الحق"2، "أما انقباض النفس عن الفضائل، والانصراف عنها؛ فلا يسمى حياء، وإنما هو ضعف إيمان، وجبن عن قول الحق قال – تعالى -: {وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ}3"4.
قال ابن مفلح – رحمه الله -: "قال غير واحد: قد يكون الحياء تخلقاً واكتساباً كسائر أعمال البر، وقد يكون غريزة، واستعماله على مقتضى الشرع يحتاج إلى كسب ونية وعلم، وإن حمل شيءٌ على ترك الأمر والنهي والإخلال بحق فهو عجز ومهانة، وتسميته حياء مجاز، وحقيقة الحياء خلق يبعث على فعل الحسن، وترك القبيح، والله أعلم"5، وقال ابن القيم – رحمه الله – عن الحياء: "وهو مادة حياة القلب، وهو أصل كل خير، وذهابه ذهاب الخير أجمعه"6.
وقد اهتم الإسلام بهذا الخلق أيما اهتمام حتى جاء عن ابن عباس – رضي الله عنه – قوله: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((إن لكل دين خلقاً، وخلق الإسلام الحياء))7 قال الإمام المناوي – رحمه الله -: "أي طَبْع هذا الدين وسجيّته التي بها قَوامه، أو مروءة هذا الدين التي بها جماله؛ الحياء، فالحياء أصله من الحياة، فإذا حيي القلب بالله – تعالى – فكلما ازداد حياؤه بالله ازداد منه حياة، ألا ترى أن المستحي يعرق في وقت الحياء، فعرقه من حرارة الحياة التي هاجت من الروح، فمن هيجانه تفور الروح، فيعرق منه الجسد، ويعرق منه أعلاه؛ لأن سلطان الحياة في الوجه والصدر، وذلك من قوة الإسلام؛ لأن الإسلام تسليم النفس، والدين خضوعها وانقيادها؛ فلذلك صار الحياء خُلُقاً للإسلام، فيتواضع ويستحي"8.
وعن أنس بن مالك – رضي الله عنه – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: ((ما كان الفحش في شيء قط إلا شانه، ولا كان الحياء في شيء قط إلا زانه))9، فهو زين لصاحبه، ووقار لأهله قال الطيبي – رحمه الله -: "قوله ((في شيء)) فيه مبالغة، أي لو قدِّر أن يكون الفحش أو الحياء في جماد لزانه أو شانه، فكيف بالإنسان!"10.
وانظر أخي الحبيب إلى هذا الحديث العظيم الذي يبين فيه رسول الله – صلى الله عليه وسلم – المعنى الحقيقي للحياء، هذا المعنى الذي غاب عند كثير منا – إلا من رحم الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله – يقول الرسول الكريم: ((استحيوا من الله حق الحياء، قال قلنا: يا رسول الله إنا نستحيي والحمد لله! قال: ليس ذاك، ولكن الاستحياء من الله حق الحياء: أن تحفظ الرأس وما وعى، والبطن وما حوى، ولتذكر الموت والبلى، ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء))11
"فإذا حفظ الرأس وما حوى فماذا يحفظ فيه؟
يحفظ العين من أن تنظر إلى محرم، ويحفظ الأذن من أن تسمع إلى محرم، ويحفظ اللسان من أن يغتاب أو يكذب أو يتكلم بمحرم، أو يتناول طعاماً محرماً أو شراباً محرماً، فإذا حفظ الرأس بما فيه من أعضاء، وحفظ البطن وما حوى،…"12، وتذكُر الموت والبلى، فنهاه ذلك عن المحرمات، وحثه لفعل الطاعات؛ لينجو بذلك من هول العرصات، وغضب رب البريات، إذا فعل المسلم ذلك؛ فقد استحيا من الله حق الحياء.
ولقد كان – صلى الله عليه وسلم – يقول فيعمل، ويحث أمته على الحياء وهو من أشد الناس حياء – صلى الله عليه وسلم -، يصف ذلك أبو سعيد الخدري – رضي الله عنه – فيقول: ((كان النبي – صلى الله عليه وسلم – أشد حياءً من العذراء في خدرها، فإذا رأى شيئاً يكرهه عرفناه في وجهه))13.
وتأمل أيها المسلم الحبيب في هذا الحديث العظيم الذي يعطينا صورة ناصعة من حياء نبينا الكريم – صلى الله عليه وسلم -، ومثالاً شاهداً على عظيم أخلاقه، ونُبل شمائله – صلى الله عليه وسلم -: فـ"عن عائشة – رضي الله عنها – أن امرأة سألت النبي – صلى الله عليه وسلم – عن غسلها من المحيض، فأمرها كيف تغتسل، قال: ((خذي فرصة من مسك فتطهري بها)) قالت: كيف أتطهر؟ قال: ((تطهري بها))، قالت: كيف؟ قال: ((سبحان الله تطهري))، واستَتَر – وأشار لنا سفيان بن عيينة بيده على وجهه –14، قالت عائشة: فاجتبذتُها إليّ، فقلت: تتبعي بها أثر الدم"15.
ولقد تهدد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – من لم يهذبه الحياء، ولا ردته المروءة عن غيه فعن أبي مسعود – رضي الله عنه – قال: قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: ((إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت))16.
لكن رغم هذا لا يمنعك الحياء – أيها المسلم وأيتها المسلمة – من التعلم والتفقه في الدين، وسؤال العلماء واستفسارهم، وكذلك لا يمنعك من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ففي الصحيح عن أم سلمة أم المؤمنين أنها قالت: جاءت أم سليم امرأة أبي طلحة إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقالت: يا رسول الله إن الله لا يستحيي من الحق، هل على المرأة من غسل إذا هي احتلمت؟ فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((نعم إذا رأت الماء))17، و"قال مجاهد لا يتعلم العلم مستحي ولا مستكبر، وقالت عائشة – رضي الله عنها -: نِعم النساء نساء الأنصار؛لم يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين"18، "وذكر ابن عبد البر عن سليمان – عليه السلام -: الحياء نظام الإيمان، فإذا انحل النظام ذهب ما فيه، وقال الحسن: أربع من كن فيه كان كاملاً، ومن تعلق بواحدة منهن كان من صالحي قومه: دِين يرشده، وعقل يسدده، وحسَب يصونه، وحياء يقوده"19، وقالت عائشة – رضي الله عنها -: رأس مكارم الأخلاق الحياء، "وقال أبو دلف العجلي:
إذا لم تصن عِرضاً ولم تخش خالقاً ولم تَرْع مخلوقاً فما شئت فاصنع
وقال صالح بن جناح:
إذا قل ماء الوجه قل حياؤه ولا خير في وجه إذا قل ماؤه
وقال الأصمعي: سمعت أعرابياً يقول: من كساه الحياء ثوبه؛لم ير الناسُ عيبَه"20.
وأخيراً: عن سعيد بن يزيد الأزدي أنه قال للنبي – صلى الله عليه وسلم -: أوصني؟، قال: ((أوصيك أن تستحي من الله – عز وجل – كما تستحي رجلاً من صالحي قومك))"21.
فاتق الله حيثما كنت أيها المسلم، واستحِ من نظر الله إليك، وإياك أن تجعل الله أهون الناظرين إليك
إذا لم تخش عاقبة الليـالي ولم تستحي فافعل ما تشاء
فلا والله ما في العيش خير ولا الدنيا إذا ذهب الحيـاء
يعيش المرء ما استحيا بخير ويبقى العود ما بقي اللحاء
إنه دين الإسلام، دين الأخلاق الفاضلة، والمكارم العالية، دين يحث على معالي الأمور، وينهى عن سفسافه22، دين يُنزل كل أحد منزلته، يوقر الكبير، ويعطف على الصغير، وينصر المظلوم، ويهدي الضال، ويعلم الجاهل
"هو الإسلامُ دينُ الله يبقى ويحمل صرحَه جيلٌ فجيلُ
وإنّا في العقيدة قد غُرسنا كما غُرستْ بطَيبتنا النخيلُ
مع الهادي وصُحبتِه هوانا وشرحُ الحبِّ أمرٌ يستحيلُ
مهاجرةً وأنصاراً سنحيا رعيلُ الفتحِ يتبعُهُ الرعيلُ23
اللهم أحينا مسلمين، وتوفنا مسلمين، واحشرنا في زمرة خير النبيين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
1 روضة المحبين (1/201).
2 رياض الصالحين (1/850).
3 سورة الأحزاب (53).
4 موسوعة المفاهيم الإسلامية جاهزة (1/479).
5 الآداب الشرعية (2/219).
6 الجواب الكافي (1/45).
7 ابن ماجة برقم (4182)، وصححه الألباني بمجموع طرقه في السلسلة الصحيحة برقم (940).
8 فيض القدير (2/508).
9 ابن ماجة برقم (4185) وغيره، وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجة.
10 تحفة الأحوذي (6/93).
11 الترمذي برقم (2458)، وحسَّنه الشيخ الألباني في صحيح الترمذي.
12 شرح الأربعين النووية (46/4).
13 البخاري برقم (6102)، ومسلم برقم (6176)، و(العذراء) البكر، سميت بذلك لأن عذرتها وهي جلدة البكارة باقية، (خدرها) سترها، وقيل الخدر ستر يجعل للبكر في جانب البيت، والتشبيه بالعذراء لكونها أكثر حياء من غيرها، والتقييد بقوله (في خدرها) مبالغة لأن العذراء يشتد حياؤها في الخلوة أكثر من خارجها؛ لأنها مظنة وقوع المعاشرة، والفعل بها، (عرف في وجهه) تغيّر وجهه، ولم يواجه أحداً بما يكرهه، فيعرف أصحابه كراهته لما حدث. صحيح البخاري (3/1306) تعليق د. مصطفى ديب البغا.
14 هذه الزيادة في رواية مسلم.
15 البخاري برقم (314)، ومسلم برقم (774).
16 البخاري برقم (5769).
17 البخاري برقم (282).
18 صحيح البخاري 50 باب الحياء في العلم (1/60)، وقول عائشة قد جاء أيضاً في مسلم برقم (776).
19 الآداب الشرعية (2/219).
20 الآداب الشرعية (2/220).
21 الطبراني في الكبير برقم (5406)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (741).
22 والسَّفْسافُ: الرَّديء من كلِّ شيءٍ والأمرُ الحقيرُ. القاموس المحيط (1/1059).
23 موسوعة الشعر الإسلامي (346/1).