الصلح بين المتخاصمين

الصلح بين المتخاصمين

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه أجمعين .. أما بعد:

الصلح بين الناس من القربات التي يؤجر عليها الإنسان وقد قال الله – تعالى -: (لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا) (سورة النساء:114)، وقد نهى الله الناس عن أن يجعلوا الله عرضة لأيمانهم بترك الإصلاح بين الناس بأن يحلفوا على الامتناع عن ذلك الإصلاح فقال تعالى: (وَلاَ تَجْعَلُواْ اللّهَ عُرْضَةً لِّأَيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّواْ وَتَتَّقُواْ وَتُصْلِحُواْ بَيْنَ النَّاسِ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (سورة البقرة:224)، وأمر الله المسلمين بذلك فقال: (وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ۝ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (سورة الحجرات:9-10)، وبين الرسول  فضل الإصلاح بين الناس فقال: ((كل سلامى من الناس عليه صدقة، كل يوم تطلع فيه الشمس يعدل1 بين الناس صدقة))2. وإذا تعذر الإصلاح بين المتخاصمين إلا باللجوء إلى الكذب بأن يقال لأحد المتخاصمين: إن فلاناً يقدرك، ويثني عليك خيراًَ، وإن ما حصل بينكما من نزغات الشيطان، وهو لا يريد إلا أن يقرب بينهما؛ فهذا جائز، وهذا له أصل في الشرع فقد ثبت عن النبي  أنه قال: ((ليس الكذَّاب الذي يُصلح بين الناس، فيَنْمِي3 خيراً، أو يقول خيراً))4، وقد قال ابن شهاب الزهري – رحمه الله -: (ولم أسمع يرخص في شيء مما يقول الناس كذبٌ إلا في ثلاث: الحرب، والإصلاح بين الناس، وحديث الرجل امرأته، وحديث المرأة زوجها)5، وقال ابن بابويه – رحمه الله -: (إن الله – تعالى – أحب الكذب في الإصلاح، وأبغض الصدق في الإفساد)6، يقول ابن القيم – رحمه الله -: (فالصلح الجائز بين المسلمين هو الذي يعتمد فيه رضا الله – سبحانه -، ورضا الخصمين، فهذا أعدل الصلح وأحقه، وهو يعتمد العلم والعدل، فيكون المصلح عالماً بالوقائع، عارفاً بالواجب، قاصداً للعدل، فدرجة هذا أفضل من درجة الصائم القائم)7.

وعن عبد الله بن حبيب بن أبي ثابت قال: كنت جالساً مع محمد بن كعب القرظي، فأتاه رجل فقال له القوم: أين كنت؟ فقال: أصلحت بين قوم، فقال محمد بن كعب: أصبت، لك مثل أجر المجاهدين، ثم قرأ: {لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} (سورة النساء:114).

وهناك آيات وأحاديث وآثار وأقوال لعلماء الإسلام تبين فضيلة الإصلاح بين المتخاصمين، فعلى المسلم أن يكون سباقاًَ إلى مثل هذه الخيرات التي تكسبه المنزلة الرفيعة عند الله – تعالى -، فكم من مشاكل بين الناس خاصة في هذا الزمن!! الذي كثر فيه التخاصم، والتشاجر، والاختلاف؛ نتيجة لضعف الإيمان، وبُعد الناس عن عهد النبوة، وعهد الخلافة الإسلامية الراشدة التي كانت تجد الحلول المناسبة للناس، وذلك بتطبيق شريعة الله التي تعالج كل المشاكل التي تحصل بين البشر، أما اليوم وقد عمت البلوى بترك الشريعة، واستبدالها بالقوانين المستوردة التي عمت البلاد الإسلامية، والمماطلة في حل كثير من القضايا، وفساد القضاء في تلك البلدان؛ فما على المسلم إلا أن يسارع بنفسه لحل المشكلة بين إخوانه المسلمين، وليستشعر عظيم الأجر في ذلك، حتى يقدم على ذلك بعزم، وقوة، وتصميم على الوصول إلى حل بين المتخاصمين؛ لأن المشاكل إذا تركت بلا حلول فإنه يؤدي إلى تفاقم المصيبة، وتعقيدها أكثر .. نسأل الله أن يجعلنا من الصالحين المصلحين، وأن يجعل لنا من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، وأن يهب لنا من لدنه رحمة إنه هو الوهاب .. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.


1– أي يصلح بينهم.

2– رواه البخاري ومسلم.

3– ينمي بدون تشديد: بمعنى نقل ما فيه خير وإصلاح، وبالتشديد الإفساد. انظر:(نضرة النعيم) 2/ 374 .

4– رواه البخاري ومسلم.

5– ذكره مسلم في صحيحه بعد ذكره الحديث السابق. برقم (2605).

6– (منهاج الصالحين) للبليق (420).

7– (إعلام الموقعين عن رب العالمين) (1/ 109-110).