شعثاً غبراً

شعثاً غبراً

 

الحمد لله رب العالمين، إله الأولين والآخرين، وجامع الناس ليوم الدين، القائل في كتابه الكريم {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ}1، والصلاة والسلام على شفيع الأنام، وحبيب رب العالمين، من جاءنا بالبينات والهدى، رسوله إلى جميع الخلق بالنور والهدى ودين الحق المبين.

صلى عليه ربنا ومجدا                والآل والصحب دواماً سرمداً

أما بعد:

فإن من أكبر النعم التي أنعم الله بها على المسلمين فريضة الحج التي افترضها عليهم في العمر مرة واحدة، يأتي الناس من كل حدب وصوب لأداء هذه الشعيرة العظيمة في مكة المكرمة زادها الله شرفاً وتعظيماً، يأتون متذللين خاضعين، معترفين بتقصيرهم، قد تجردوا من الثياب، ولبسوا ثياب الإحرام الشبيهة بأكفان الأموات، كأنهم مسافرين إلى الآخرة، رافعين أصواتهم بإجابتهم داعي الله لهم بقولهم: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك، وبطوافهم حول البيت تعظيماً لرب البيت، ثم في اليوم التاسع من شهر ذي الحجة الذي يسمى "يوم عرفة" يقف الناس في صعيد عرفة داعين رب العزة والجلال، خاشعين ملحِّين في الدعاء، إذ هو في ذلك اليوم من خير الدعاء كما ثبت ذلك عن النبي – صلى الله عليه وعلى آله وسلم -: ((خير الدعاء يوم عرفة))2، ويدنو الله – تبارك وتعالى – عشية عرفة فيباهي بأهل الموقف الملائكة، وهو اليوم الذي يعتق الله سبحانه كثيراً من عباده من النار لحديث عائشة – رضي الله عنها – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبداً من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة، فيقول: ما أراد هؤلاء؟))3، وعن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله – عز وجل – ليباهى الملائكة بأهل عرفات يقول: انظروا إلى عبادي شعثاً غبراً))4، قال ابن القيم – رحمه الله -: "فلله كم به من ذنب مغفور، وعثرة مقالة، وزلة معفو عنها، وحاجة مقضية، وكربة مفروجة، وبلية مرفوعة، ونعمة متجددة، وسعادة مكتسبة، وشقاوة ممحوة، كيف وهو الجبل المخصوص بذلك الجمع الأعظم، والوفد الأكرم، الذين جاؤوا من كل فج عميق، وقوفاً لربهم مستكينين لعظمته، خاشعين لعزته، شعثاً غبراً، حاسرين عن رؤوسهم، يستقيلونه عثراتهم، ويسألونه حاجاتهم، فيدنو منهم ثم يباهي بهم الملائكة، فلله ذاك الجبل، وما ينزل عليه من الرحمة والتجاوز عن الذنوب العظام5".

وفي الحديث: ((أما خروجك من بيتك تؤم البيت الحرام فإن لك بكل وطأة تطؤها راحلتك يكتب الله لك بها حسنة، ويمحو عنك بها سيئة; وأما وقوفك بعرفة فإن الله – عز وجل – ينزل إلى السماء الدنيا فيباهي بهم الملائكة، فيقول: هؤلاء عبادي جاءوني شعثاً غبراً، من كل فج عميق، يرجون رحمتي، ويخافون عذابي، ولم يروني، فكيف لو رأوني؟ فلو كان عليك مثل رمل عالج، أو مثل أيام الدنيا، أو مثل قطر السماء؛ ذنوباً غسلها الله عنك; وأما رميك الجمار فإنه مدخور لك; وأما حلقك رأسك فإن لك بكل شعرة تسقط حسنة، فإذا طفت بالبيت خرجت من ذنوبك كيوم ولدتك أمك))6.

عبد الله: قف مع نفسك وقفة عتاب، وتب إلى ربك الغفور التواب، فإنه يغفر لمن تاب وأناب، وقل: "يا الله عبدك الضعيف المذنب، جاء تائباً إليك، وأسبل الدمعة ندماً على تفريطه في حقك"، ثم أبشر فقد قال رب العزة والجلال : {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى}7، وقال: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ}8، وقد أمر الناس جميعاً بالتوبة فقال: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}9، وفتح باب الرجاء فقال: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ }10.

وعليك أخي في الله أن تكثر من الاستغفار، فإن الله كريم يغفر الذنب سبحانه ما أكرمه وأرحمه عن أنس بن مالك – رضي الله عنه – قال: سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: قال الله: ((يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان فيك ولا أبالي، يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي، يا ابن آدم إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيك بقرابها مغفرة))11، نسأل الله الكريم التواب أن يعفو عنا، وأن يغفر لنا، وأن يعيننا على طاعته، والحمد لله رب العالمين.


1 سورة الحج (27).

2 ذكره العلامة الألباني في الجامع الصغير وزيادته برقم (5585)؛ وحسنه في صحيح الجامع برقم (3274).

3 أخرجه مسلم في صحيحه برقم (1348).

4 رواه أحمد بن حنبل في المسند برقم (8033)، وقال شعيب الأرناؤوط: صحيح وهذا إسناد حسن؛ وهو في صحيح ابن خزيمة برقم (2839)؛ وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب برقم (1132)؛ وفي الجامع الصغير وزيادته برقم (2749)؛ وفي صحيح الجامع برقم (1868).

5 مفتاح دار السعادة (1/220).

6 رواه الطبراني في المعجم الكبير عن ابن عمر – رضي الله عنهما – برقم (13566)؛ وحسنه الألباني في الجامع الصغير وزيادته برقم (2240)؛ وفي صحيح الجامع برقم (1360).

7 سورة طه (82).

8 سورة الشورى (25).

9 سورة النور (31).

10 سورة الزمر (53).

11 رواه الترمذي في سننه برقم (3540)، وقال أبو عيسى: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه؛ وصححه الألباني في صحيح الترمذي برقم (2805)؛ وحسنه في السلسلة الصحيحة برقم (127).